سورة   الأعراف
 
محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ قَدۡ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمۡ لِبَاسٗا يُوَٰرِي سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِيشٗاۖ وَلِبَاسُ ٱلتَّقۡوَىٰ ذَٰلِكَ خَيۡرٞۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ} (26)

ثم ذكرهم سبحانه بنعمته في تبوئه الدار والمستقر في الأرض ، وكسوتهم لباسا يسترون به سوءاتهم ، بعد ما نزع عنهما لباس الجنة ، وذلك لما هم بعد الإهباط ، من الحاجة إلى اللباس والمعاش . فقال سبحانه : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون }

{ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا } يعني ما يلبس من الثياب وغيره .

قال الزمخشري : جعل ما في الارض منزلا من السماء لأنه قضى ثمة وكتب ، أي قضا وقسم لكم ، وقضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء ، حيث كتب في اللوح المحفوظ .

وقال أبو البقاء : لما كان الريش واللباس ينبتان بالمطر ، والمطر ينزل ، جعل ما هو المسبب بمنزلة السبب- انتهى- .

/ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له في معنى النزول : لا حاجة إلى إخراج اللفظ عن معناه المعروف لغة ، فإن اللباس ينزل من ظهور الأنعام ، فامتن سبحانه بما ينتفعون به من الأنعام في اللباس والأثاث ، وهذا- والله أعلم- معنى إنزاله ، فإنه ينزله من ظهور الأنعام ، وهو كسوة الأنعام من الأصواف والأوبار والأشعار ، وينتفع به بنو آدم في اللباس والرياش ، فقد أنزلها عليهم ، وأكثر أهل الأرض كسوتهم من جلود الدواب ، فهي لدفع الحر والبرد ، وأعظم مما يصنع من القطن والكتان .

{ يواري سوءاتكم } أي يستر عوراتكم التي قصد إبليس إبداءها من أبويكم حتى اضطرا إلى خصف الأوراق ، وأنتم مستغنون عن ذلك { وريشا } عطفه إما من عطف الصفات ، فوصف اللباس بشيئين : مواراة السوأة ، والزينة . فالريش بمعنى الزينة ، لأنه زينة الطير فاستعير منه . وأما من عطف الشيء على غيره . أي أنزلنا لباسين : لباس مواراة ولباس زينة ؛ فيكون مما حذف فيه الموصوف ، أي لباسا ريشا أي ذا ريش ، والريش مشترك بين الاسم والمصدر . وروى بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وحكاه البخاري{[3880]} عنه : " الريش المال " . وحكاه غير واحد من السلف . قال الإمام ابن تيمية : وبعض المفسرين أطلق عليه لفظ المال ، والمراد به مال مخصوص . قال ابن زيد : جمالا . وقرئ : رياشا . قال/ ابن السكيت : الرياش هو الأثاث من المتاع ، ما كان من لباس أو حشو من فراش أو دثار ، والريش : المتاع والأموال ، وقد يكون في الثياب دون الأموال . وإنه لحسن الريش ، أي : الثياب- انتهى- .

ويقال : راش فلان ، أي جمع الريش ، وهو المال والأثاث . وراش الصديق أطعمه وسقاه وكساه ، وأصله من الريش ، كأن الفقير المملق لا نهوض له ، كالمقصوص منه الجناح وكل من أوليته خيرا ، فقد رشته- كذا في ( تاج العروس ) - .

فائدة

روى الإمام أحمد{[3881]} عن أبي أمامة عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استجد ثوبا فلبسه ، فقال حين يبلغ ترقوته : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي . ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به ، كان في ذمة الله وفي جوار الله ، وفي كنف الله حيا وميتا " . ورواه الترمذي{[3882]} وابن ماجه{[3883]} . وروى/ الإمام أحمد{[3884]} عن أبي مطر : " أنه رأى عليا رضي الله عنه أتى غلاما حدثا ، فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم ، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين ، يقول ولبسه : الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس ، وأواري به عورتي . فقيل : هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عيه وسلم ؟ قال : هذا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكسوة : الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي " .

ولما بين تعالى ساتر الظاهر وزينته ، أشار إلى ساتر عيوب الباطن وزينته بقوله : { ولباس التقوى } أي : خشية الله ، أو الإيمان ، أو السمت الحسن ، والكل متقارب ، ورفعه بالابتداء ، خبره جملة { ذلك خير } أو خير ، وذلك صفته ، كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير .

قال المهايمي : لأن الظاهر محل نظر الخلق ، والباطن محل نظر الحق والعيوب الباطنة أفحش من العورات الظاهرة . وقال القاشاني : لباس التقوى صفة الورع والحذر من صفة النفس ، ذلك خير لأنه من جملة أركان الشرائع ، لأنه أصل الدين وأساسه ، كالحمية في العلاج-انتهى- .

قال أبو علي الفارسي : معنى الآية : ولباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به ، وأقرب إلى الله تعالى ، مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به . قال : وأضيف اللباس إلى التقوى ، كما أضيف إلى الجوع في قوله : { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف }{[3885]} . –انتهى- / أي : فهو استعارة مكنية وتخييلية بأن يتوهم للتقوى حالة شبيهة باللباس ، تشتمل على جميع بدنه ، بحسب الورع والخشية من الله ، اشتمال اللباس على اللابس ، أو من قبيل ( لجين الماء ) وقرأ نافع وابن عامر والكسائي : { ولباس التقوى } بالنصب ، عطفا على { لباسا } .

{ ذلك } أي إنزال اللباس { من آيات الله } الدالة على فضله ورحمته على عباده { لعلهم يذكرون } أي نعمته عليهم فيعترفون عظمتها فيشكرونها .

قال الزمخشري : وهذه الآية ورادة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدوّ السوآت ، وخصف الأوراق عليها ، إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العري ، وكشف العورة من المهانة والفضيحة ، وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى .

تنبيه :

قال الجشمي : تدل الآية على عظيم نعمه تعالى بهذه النعم التي عدها . وذهب علي بن موسى القمي إلى أنها تدل على وجوب ستر العورة . وقال آخرون : لا تدل ، وليس في الظاهر إلا الإنعام به من حيث نفي الحر والبرد وستر العورة والتجمل به ، فأما أنه واجب ، فبعيد . ولو ثبت وجوبه عليه ، احتجنا إلى وجوبه في شريعتنا إلى دليل مستأنف . وقد ثبت في هذه الشريعة وجوبه بالخبر المستفيض والإجماع ، فلا حاجة إلى الرجوع إلى شيعة أخرى وتدل على أنه تعالى ، كما أنعم بنعم الدنيا ، أنعم بنعم الدين ، فإن الأقرب أن لباس التقوى العلم والعمل الصالح ، فكأنه ضم إلى نعم الدنيا نعم الدين التي بها يحصل الفوز بالثواب ، فتحصل نعمة الدارين .


[3880]:- أخرجه البخاري في: 59- كتاب بدء الخلق، 1- خلق آدم صلوات الله عليه وذريته ونصه: قال ابن عباس: {لما عليها حافظ}: إلا عليها حافظ. كبد: في شدة خلق. ورياشا (وريشا): المال ص 77. وفقي: 65- كتاب التفسير، 7- سورة الأعراف. ونصه: قال ابن عباس: ورياشا، المال. وانظر كتابنا (معجم غريب القرآن، مستخرجا من صحيح البخاري) مادة (ر ي ش) ص 77.
[3881]:- أخرجه في المسند بالصفحة رقم 44 من الجزء الأول (طبعة الحلبي) والحديث رقم 305 (طبعة المعارف)
[3882]:- وأخرجه الترمذي في: 22- كتاب اللباس، 29- باب ما يقول إذا لبس ثوبا جديدا. ونصه: عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه (عمامة أو قميصا أو رداء) ثم يقول: "اللهم ! لك الحمد. أنت كسوتنيه. أسألك خيره وخير ما صنع له. وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له". قال: وفي الباب عن عمر وابن عمر.
[3883]:- وأخرجه ابن ماجة في: 22- كتاب اللباس، 2- باب ما يقول الرجل إذا لبس ثوبا جديدا، حديث رقم 3557 (طبعتنا) ونصه كنص المسند.
[3884]:- أخرجه في المسند بالصفحة رقم 157 من الجزء الأول (طبعة الحلبي) والحديث رقم 1354 (طبعة المعارف).
[3885]:- [16/ النحل/ 112] ونصها: {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (112)}.