الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ قَدۡ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمۡ لِبَاسٗا يُوَٰرِي سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِيشٗاۖ وَلِبَاسُ ٱلتَّقۡوَىٰ ذَٰلِكَ خَيۡرٞۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ} (26)

قوله تعالى : { يُوَارِي } : في محلِّ نصبٍ صفةً للباساً . وقوله " وريشاً " يُحْتمل أن يكونَ من باب عطف الصفات ، والمعنى : أنه وصف اللباس بشيئين : مواراةِ السَّوْءة والزينة ، وعبَّر عنها بالريش ، لأنَّ الريش زينةٌ للطائر ، كما أن اللباس زينة للآدميين ولذلك قال الزمخشري : " والريش لباسُ الزينة " ، استعير مِنْ ريش الطير لأنه لباسُه وزينتُه " . ويُحْتَمل أن يكون من باب عطف الشيء على غيره أي : أَنْزَلْنا عليكم لباسَيْن لباساً موصوفاً بالمواراة ولباساً موصوفاً بالزينة ، وهذا اختيار الزمخشري فإنه قال بعدما حَكَيْتُه عنه آنفاً : " أي : أنزلنا عليكم لباسَيْن لباساً يواري سَوْءاتكم ولباساً يُزَيِّنُكم ، لأن الزينةَ غرضٌ صحيح كما قال تعالى : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } [ النحل : 6 ] وعلى هذا فالكلام في قوة حذف موصوف وإقامة صفته مُقامه والتقدير : ولباساً ريشاً أي : ذا ريش " .

والرِّيْشُ فيه قولان ، أحدهما : أنه اسم لهذا الشيءِ المعروف . والثاني : أنه مصدرٌ يُقال " راشَه يَريشه رِيْشاً إذا جعل فيه الرِّيش ، فينبغي أن يكون الريشُ مشتركاً بين المصدر والعين وهذا هو التحقيق . وقرأ عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسُّلمي وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو رجاء وزر بن حبيش ، وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما : " ورِياشاً " ، وفيها تأويلان أحدهما وبه قال الزمخشري أنه جمع رِيْش فيكون كشِعْب وشِعاب . والثاني : أنه مصدرٌ أيضاً فيكون ريش ورياش مصدَريْن ل راشه الله رَيشاً ورياشاً أي : أنعم عليه . وقال الزجاج : " اللباس ، فعلى هذا هما اسمان للشيء الملبوس قالوا : لِبْس ولِباس " . قلت : وقد جَوَّز الفراء أن يكون مصدراً فأخذ الزمخشري بأحد القولين ، وغيرُه بالآخر ، وأنشدوا :

ورِيْشي منكمُ وهَوايَ مَعْكمْ *** وإن كانت زيارتُكم لِماما

قوله : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } قرأ نافع وابن عامر والكسائي " لباسَ " بالنصب والباقون " لباسُ " بالرفع . فالنصب نسقاً على " لباساً " أي : أنزلنا لباساً موارياً وزينة ، وأنزلنا أيضاً لباس التقوى ، وهذا يُقَوِّي كون " ريشاً " صفةً ثانية للباساً الأول إذ لو أراد أنه صفة لباسٍ ثانٍ لأبرز موصوفه كما أبرز هذا اللباسَ المضاف للتقوى .

وأمَّا الرفعُ فمِنْ خمسة أوجه ، أحدها : أن يكون " لباس " مبتدأ ، و " ذلك " مبتدأ ثان و " خير " خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول ، والرابطُ هنا اسمُ الإِشارةِ وهو أحدُ الروابط الخمسة المتفق عليها ، ولنا سادسٌ فيه خلافٌ تقدَّم التنبيه عليه . وهذا الوجهُ هو أَوْجَهُ الأعاريب في هذه الآية الكريمة . الثاني : أن يكون " لباس " خبرَ مبتدأ محذوف أي : وهو لباس التقوى ، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج ، وكأن المعنى/ بهذه الجملة التفسيرُ للّباس المتقدم ، وعلى هذا فيكون قوله " ذلك " جملةً أخرى من مبتدأ وخبر .

وقَدَّره مكي بأحسنَ مِنْ تقدير الزجاج فقال : " وسَتْر العورة لباس التقوى " . الثالث : أن يكون " ذلك " فَصْلاً بين المبتدأ وخبره ، وهذا قول الحوفي ولا أعلم أحداً من النحاة أجاز ذلك ، إلا أن الواحديَّ قال : " ومَنْ قال إن " ذلك " لغوٌ لم يَلْقَ على قوله دلالة ؛ لأنه يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا " . قلت : فقوله " لغو " هو قريب من القول بالفصل ؛ لأنَّ الفصلَ لا محلَّ له من الإِعراب على قول جمهور النحويين من البصريين والكوفيين . الرابع : أن يكون " لباس " مبتدأً و " ذلك " بدلٌ منه أو عطفُ بيان له أو نعت و " خير " خبره ، وهو معنى قول الزجاج وأبي علي وأبي بكر ابن الأنباري ، إلا أنَّ الحوفي قال : " وأنا أرى أن لا يكون " ذلك " نعتاً للباس التقوى ؛ لأن الأسماءَ المبهمة أعرف ممَّا فيه الألفُ واللام وما أضيف إلى الألف واللام ، وسبيل النعت أن يكون مساوياً للمنعوت أو أقلَّ منه تعريفاً ، فإن كان قد تقدَّمَ قولُ أحدٍ به فهو سهوٌ " .

قلت : أمَّا القول به فقد قيل كما ذَكَرْتُه عن الزجاج والفارسي وابن الأنباري ، ونصَّ عليه أبو علي في " الحجة " أيضاً وذكره الواحدي . وقال ابن عطية : " هو أنبل الأقوال " ، وذكر مكي الاحتمالات الثلاثة : أعني كونه بدلاً أو بياناً أو نعتاً ، ولكن ما بحثه الحوفي صحيح من حيث الصناعةُ ، ومن حيث إن الصحيح في ترتيب المعارف ما ذَكَر من كونِ الإِشارات أعرفَ من ذي الأداة ، ولكن قد يقال : القائلُ بكونه نعتاً لا يجعله أعرفَ مِنْ ذي الألف واللام . الخامس : جوَّز أبو البقاء أن يكون " لباسُ " مبتدأً ، وخبره محذوف أي : ولباسُ التقوى ساتر عوراتكم " وهذا تقديرٌ لا حاجةَ إليه .

وإسنادُ الإِنزال إلى اللباس : إمَّا لأن أنزل بمعنى خلق كقوله : { وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ } [ الحديد : 25 ] { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ الزمر : 6 ] وإمَّا على ما يسمِّيه أهلُ العلم التدريجَ وذلك أنه ينزل أسبابه ، وهي الماء الذي هو سببٌ في نبات القطن والكتَّان والمرعى الذي تأكله البهائم ذواتُ الصوفِ والشعر والوبر التي يُتَّخَذُ منها الملابسُ ، ونحو قولِ الشاعر يصف مطراً :

أقبل في المُسْتَنِّ من سَحابَهْ *** أسنِمة الآبال في ربابَهْ

فجعله جائياً لأسنمة . . . الإِبل مجازاً لمَّا كان سبباً في تربيتها ، وقريب منه قول الآخر :

إذا نَزَلَ السَّماءُ بأرض قومٍ *** رَعَيْناه وإن كانوا غضابا

وقال الزمخشري : " جَعَلَ ما في الأرض منزَّلاً من السماء لأنه قضى ثَمَّ وكتب ، ومنه " وأنزل لكم من الأنعامِ ثمانيةَ " .

وقال ابن عطية : " وأيضاً فَخَلْقُ الله وأفعالُه إنما هي من علوٍّ في القَدْر والمنزلة " .

وفي قراءة عبد الله وأُبَيّ " ولباس التقوى خير " بإسقاط " ذلك " ، وهي مقوِّيةٌ للقول بالفصل والبدل وعطف البيان . وقرأ النحوي : " ولبُوسُ " بالواو ورفع السين . فأمَّا الرفعُ فعلى ما تقدَّم في " لباس " ، وأمَّا " لبوس " فلم يُبَيِّنوها : هل هي بفتح اللام فيكون مثلَ قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } [ الأنبياء : 80 ] أو بضم اللام على أنه جمعٌ وهو مُشْكل ، وأكثر ما يُتَخَيَّل له أن يكون جمع لِبْس بكسر اللام بمعنى ملبوس .

وقوله : " ذلك مِنْ آيات الله " مبتدأٌ وخبر ، والإِشارة به إلى جميع ما تقدَّم من إنزال اللباسِ والريش ولباس التقوى . وقيل : بل هو إشارة لأقرب مذكور وهو لباسُ التقوى فقط .