البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ قَدۡ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمۡ لِبَاسٗا يُوَٰرِي سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِيشٗاۖ وَلِبَاسُ ٱلتَّقۡوَىٰ ذَٰلِكَ خَيۡرٞۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ} (26)

الريش معروف وهو للطائر ويستعمل في معان يأتي ذكرها في تفسير المركبات واشتقوا منه قالوا راشه يريشه ، وقيل الريش مصدر راش .

{ يا بني آدم قَد أنزلنا عليكم لباساً يوارى سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلّهم يذكرون } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قصة آدم وفيها ستر السوءات وجعل له في الأرض مستقرّاً ومتاعاً ذكر ما امتنّ به على بنيه وما أنعم به عليهم من اللّباس الذي يواري السوءات والرّياش الذي يمكن به استقرارهم في الأرض واستمتاعهم بما خولهم ، وقال مجاهد : نزلت هذه الآية والثلاث بعدها فيمن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت وذكر النقاش أنها كانت عادة ثقيف وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج والحرث وعامر ابني عبد مناة نسائهم ورجالهم وأنزلنا قيل على حقيقته من الانحطاط من علو إلى سفل فأنزل مع آدم وحواء شيئاً من اللباس مثالاً لغيره ثم توسع بنوهما في الصّنعة استنباطاً من ذلك المثال أو أنزل من السماء أصل كل شيء عند إهباطهما أو أنزل معه الحديد فاتخذ منه آلات الصنائع أو أنزل الملك فعلم آدم النسج أربعة أقوال ، وقيل : الإنزال مجاز من إطلاق السّبب على مسببه فأنزل المطر وهو سبب ما يتهيأ منه اللباس أو بمعنى خلق كقوله { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } أو بمعنى الهم ، وقال الزمخشري جعل ما في الأرض منزلاً من السماء لأنه قضى ثم وكتب ومنه { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } ، وقال ابن عطية : أنزلنا يحتمل أن يريد بالتدريج أي لما أنزل المطر فكان عنه جميع ما يلبس قال عن اللباس { أنزلنا } وهذا نحو قول الشاعر يصف مطراً :

أقبل في المسلمين من سحابة *** أسنمة الآبال في ربابه

أي بالمال ويحتمل أن يريد خلقنا فجاءت العبارة بأنزلنا كقوله { وأَنزلنا الحديد } وقوله { وأنزل لكم من الأنعام } وأيضاً فخلق الله وأفعاله إنما هي من علو في القدر والمنزلة انتهى واللباس يعم جميع ما يلبس ويستر والرّيش عبارة عن سعة الرزق ورفاهية العيش ووجود اللبس والتمتع وأكثر أهل اللغة على أنّ الريش ما يستر من لباس أو معيشة ، وقال قوم : الإناث ، وقال ابن عباس والسدّي ومجاهد : المال ، وقال ابن زيد : الجمال ، وقال الزمخشري : لباس الزينة استعير من ريش الطائر لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوءاتكم ولباساً يزيّنكم لأنّ الزينة غرض صحيح كما قال تعالى : { لتركبوها وزينة ولكم فيها جمال } انتهى .

وعطف { الريش } على { لباساً } يقتضي المغايرة وأنه قسيم للباس لا قسم منه ، وقرأ عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسلمي وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو رجاء وزر بن حبيش وعاصم في رواية وأبو عمرو في رواية ورياشا ، فقيل : هما مصدران بمعنى واحد راشه الله يريشه ريشاً ورياشاً أنعم عليه ، وقال الزمخشري : جمع ريش كشعب وشعاب ، وقال الزّجاج : هما اللباس ، وقال الفرّاء : هما ما يستر من ثياب ومال كما يقال لبس ولباس ، وقال معبد الجهني : الرياش المعاش ، وقال ابن الأعرابي : الريش الأكل والشرب والرياش المال المستفاد ، وقيل : الريش ما بطن والرياش ما ظهر .

وقرأ الصاحبان والكسائي : { ولباس التقوى } بالنصب عطفاً على المنصوب قبله ، وقرأ باقي السّبعة بالرفع ، فقيل هو على إضمار مبتدأ محذوف أي وهو لباس التقوى قاله الزّجاج { وذلك خير } على هذا مبتدأ وخبر وأجاز أبو البقاء أن يكون { ولباس } مبتدأ وخبره محذوف تقديره ولباس التّقوى ساتر عوراتكم ، وهذا ليس بشيء والظاهر أنه مبتدأ ثانٍ { وخير } خبره والجملة خبر عن { ولباس التقوى } والرابط اسم الإشارة وهو أحد الروابط الخمس المتفق عليها في ربط الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ إذا لم يكن إياه ، وقيل : ذلك بدل من لباس ، وقيل : عطف بيان ، وقيل : صفة وخبر { ولباس } هو { خير } ، وقال الحوفي : وأنا أرى أن لا يكون ذلك نعتاً للباس التقوى لأنّ الأسماء المبهمة أعرف مما فيه الألف واللام وما أضيف إلى الألف واللام وسبيل النعت أن يكون مساوياً للمنعوت أو أقلّ منه تعريفاً فإن كان قد تقدّم قول أحدٍ به فهو سهو وأجاز الحوفي أن يكون ذلك فصلاً لا موضع له من الإعراب ويكون { خير } خبراً لقوله { ولباس التقوى } فجعل اسم الإشارة فصلاً كالمضمر ولا أعلم أحداً قال بهذا وأما قوله فإن كان قد تقدّم قول أحد به فهو سهو فقد ذكره ابن عطية وقال : هو أنبل الأقوال ذكره أبو علي في الحجة انتهى ؛ وأجازه أيضاً أبو البقاء وما ذكره الحوفي هو الصواب على أشهر الأقوال في ترتيب المعارف ، وقرأ عبد الله وأبيّ ولباس التقوى خير بإسقاط ذلك فهو مبتدأ وخبر والظاهر حمله على اللباس حقيقة ، فقال ابن زيد هو ستر العورة وهذا فيه تكرار لأنه قد قال { لباساً يوارى سوءاتكم } ، وقال زيد بن علي : الدّرع والمغفر والساعدان لأنه يتقي بها في الحرب .

وقيل : الصّوف ولبس الخشن ، وروي اخشوشنوا وكلوا الطعام الخشن ، وقيل ما يقي من الحرّ والبرد ، وقال عثمان بن عطاء : لباس المتقين في الآخرة ، وقيل لباس التقوى مجاز ، وقال ابن عباس : العمل الصالح ، وقال أيضاً : العفة ، وقال عثمان بن عفّان وابن عباس أيضاً : السّمت الحسن في الوجه ، وقال معبد الجهني : الحياء ، وقال الحسن : الورع والسّمت الحسن ، وقال عروة بن الزبير : خشية الله ، وقال ابن جريج : الإيمان ، وقيل ما يظهر من السكينة والإخبات ، وقال يحيى بن يحيى : الخشوع والأحسن أن يجعل عاماً فكلّ ما يحصل به الاتقاء المشروع فهو من لباس التقوى والإشارة بقوله ذلك من آيات الله إلى ما تقدّم من إنزال اللباس والرّياش ولباس التقوى والمعنى من آيات الله الدالّة على فضله ورحمته على عباده ، وقيل : من موجب آيات الله ، وقيل : الإشارة إلى { لباس التقوى } أي هو في العبر آية أي علامة وأمارة من الله أنه قد رضي عنه ورحمه لعلهم يذكرون هذه النعم فيشكرون الله عليها .