قوله عز وجل :{ وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائما } الآية ، أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا خالد بن عبد الله ، أنبأنا حصين عن سالم بن أبي الجعد وعن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال : أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فثار الناس إلا اثني عشر رجلاً فأنزل الله : { وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها } . ويحتج بهاذ الحديث من يرى الجمعة باثني عشر رجلاً ، وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة حتى يكون حجة ، لاشتراط هذا العدد . وقال ابن عباس في رواية الكلبي : لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط . وقال الحسن وأبو مالك : أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه ، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط منهم أبو بكر وعمر فنزلت هذه الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارا " . وقال مقاتل : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة ، وكان إذا قدم لم تبق بالمدينة عاتق إلا أتته ، وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبر وغيره ، فينزل عند أحجار الزيت ، وهو مكان في سوق المدينة ، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه ، فقدم ذات جمعة ، وكان ذلك قبل أن يسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب ، فخرج إليه الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم بقي في المسجد ؟ فقالوا : اثنا عشر رجلاً وامرأة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة من السماء ، فأنزل الله هذه الآية . وأراد باللهو الطبل . وقيل : كانت العير إذا قدمت المدينة استقبلوها بالطبل والتصفيق . وقوله : { انفضوا إليها } رد الكناية إلى التجارة لأنها أهم . وقال علقمة : سئل عبد الله بن عمر : أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً أو قاعداً ؟ قال : أما تقرأ { وتركوك قائماً } .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد ، أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائماً يفصل بينهما بجلوس . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد ابن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أنبأنا أبو الأحوص ، عن سماك عن جابر بن سمرة قال : " كان للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس " . وبهذا الإسناد عن جابر بن سمرة قال : " كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً " . والخطبة فريضة في صلاة الجمعة ، ويجب أن يخطب قائماً خطبتين ، وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة : أن يحمد الله ، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويوصي بتقوى الله ، هذه الثلاثة فرض في الخطبتين جميعاً ، ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن ، ويدعو للمؤمنين في الثانية ، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لا تصح جمعته عند الشافعي ، وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أنه لو أتى بتسبيحة أو تحميدة أو تكبيرة أجزأه . وهذا القدر لا يقع عليه اسم الخطبة ، وهو مأمور بالخطبة .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا عبد الله بن يوسف بن محمد بن مأمونة ، أنبأنا أبو سعيد أحمد من محمد بن زياد البصري بمكة ، حدثنا الحسن بن الصباح الزعفراني ، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع أن مروان استخلف أبا هريرة على المدينة ، فصلى بهم أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى وفي الثانية : { إذا جاءك المنافقون }( المنافقون- 1 ) فقال عبيد الله : فلما انصرف مشيت إلى جنبه فقلت له : لقد قرأت بسورتين سمعت علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الصلاة ؟ فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ضمرة بن سعيد المازني ، عن عبيد الله بن عتبة " أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة ؟ فقال : كان يقرأ ب { هل أتاك حديث الغاشية } " .
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أنبأنا أبو محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة ب { سبح اسم ربك الأعلى } و{ هل أتاك حديث الغاشية } وربما اجتمع في يوم واحد فيقرأ بهما " . ولجواز الجمعة خمس شرائط : الوقت وهو : وقت الظهر ما بين زوال الشمس إلى دخول وقت العصر ، والعدد ، والإمام ، والخطبة ، ودار الإقامة ، فإذا فقد شرط من هذه الخمسة يجب أن يصلوها ظهراً . ولا يجوز للإمام أن يبتدئ الخطبة قبل اجتماع العدد ، وهو عدد الأربعين عند الشافعي ، فلو اجتمعوا وخطب بهم ثم انفضوا قبل افتتاح الصلاة أو انتقص واحد من العدد لا يجوز أن يصلي بهم الجمعة ، بل يصلي الظهر ، ولو افتتح بهم الصلاة ثم انفضوا ، فأصح أقوال الشافعي : أن بقاء الأربعين شرط إلى آخر الصلاة ، كما أن بقاء الوقت شرط إلى آخر الصلاة فلو انتقص واحد منهم قبل أن يسلم الإمام يجب على الباقين أن يصلوها أربعاً . وفيه قول آخر : إن بقي معه اثنان أتمها جمعة . وقيل : إن بقي معه واحد أتمها جمعة ، وعند المزني إن انفضوا بعد ما صلى الإمام بهم ركعة أتمها جمعة ، وإن بقي وحده فإن كان في الركعة الأولى يتمها أربعاً وإن انتقص من العدد واحد ، وبه قال أبو حنيفة في العدد الذي شرطه كالمسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فإذا سلم الإمام أتمها جمعة فإن أدرك أقل من ركعة أتمها أربعاً . قوله عز وجل : { قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة } أي ما عند الله من الثواب على الصلاة والثبات مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من اللهو ومن التجارة ، { والله خير الرازقين } لأنه موجد الأرزاق فإياه فاسألوا ومنه فاطلبوا .
( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما . قل : ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة . والله خير الرازقين ) . .
عن جابر - رضي الله عنه - قال : " بينا نحن نصلي مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إذ أقبلت عير تحمل طعاما ، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلا اثنا عشر رجلا ، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . فنزلت : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ) . . "
وفي الآية تلويح لهم بما عند الله وأنه خير من اللهو ومن التجارة . وتذكير لهم بأن الرزق من عند الله ( والله خير الرازقين ) . .
وهذا الحادث كما أسلفنا يكشف عن مدى الجهد الذي بذل في التربية وبناء النفوس حتى انتهت إلى إنشاء تلك الجماعة الفريدة في التاريخ . ويمنح القائمين على دعوة الله في كل زمان رصيدا من الصبر على ما يجدونه من ضعف ونقص وتخلف وتعثر في الطريق . فهذه هي النفس البشرية بخيرها وشرها . وهي قابلة أن تصعد مراقي العقيدة والتطهر والتزكي بلا حدود ، مع الصبر والفهم والإدراك والثبات والمثابرة ، وعدم النكوص من منتصف الطريق . والله المستعان
يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ ، فقال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } أي : على المنبر تخطب . هكذا ذكره غير واحد من التابعين ، منهم : أبو العالية ، والحسن ، وزيد بن أسلم ، وقتادة .
وزعم مقاتل بن حيان : أن التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم ، وكان معها طبل ، فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا على المنبر إلا القليل منهم . وقد صَحّ بذلك الخبر ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا ابن إدريس ، عن حُصَين ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر قال : قَدمَت عيرٌ المدينة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلا فنزلت : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا }
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سالم ، به{[28860]}
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا زكريا بن يحيى ، حدثنا هُشَيم ، عن حُصَين ، عن سالم بن أبي الجعد وأبي سفيان ، عن جابر بن عبد الله قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقدمت عيرٌ إلى المدينة ، فابتدرها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد ، لسال بكم الوادي نارًا " ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } وقال : كان في الاثني عشر الذين ثَبَتُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر ، وعمر ، رضي الله عنهما{[28861]} .
وفي قوله : { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائما . وقد رَوَى مسلم في صحيحه عن جابر بن سَمُرَة قال : كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما ، يقرأ القرآن ويذكر الناس .
ولكن هاهنا شيء ينبغي أن يُعلَم وهو : أن هذه القصة قد قيل : إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدّم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة ، كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل : حدثنا محمود بن خالد ، عن الوليد ، أخبرني أبو معاذ بُكَير بن مَعروف ، أنه سمع مُقَاتل بن حَيَّان يقول : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين ، حتى إذا كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، وقد صلى الجمعة ، فدخل رجل فقال : إن دحيةَ بن خليفة قد قدمَ بتجارة {[28862]} يعني : فانفضوا ، ولم يبق معه إلا نفر يسير .
وقوله : { قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ } أي : الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة { خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } أي : لمن توكل عليه ، وطلب الرزق في وقته .
عطف على جملة { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } [ الجمعة : 9 ] الآية . عُطف التوبيخ على ترك المأمور به بعد ذكر الأمر وسُلكت في المعطوفة طريقة الالتفات لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنهم أحرياء أن يصرف للخطاب عنهم فحرموا من عز الحضور . وأخبر عنهم بحال الغائبين ، وفيه تعريض بالتوبيخ .
ومقتضى الظاهر أن يقال : وإذا رأيتم تجارة أو لهواً فلا تنفضّوا إليها . ومن مقتضيات تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر هنا أن يكون هذا التوبيخ غير شامل لجميع المؤمنين فإن نفراً منهم بَقُوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين خطبته ولم يخرجوا للتجارة ولا للهو .
وفي « الصحيح » عن جابر بن عبد الله قال : « بينما نحن نصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة إذْ أقبلتْ عير من الشام تحمل طعاماً فانفتل الناس إليها حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم » . وفي رواية : وفيهم أبو بكر وعمر ، فأنزل الله فيهم هذه الآية التي في الجمعة { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً } اه . وقد ذكروا في روايات أخرى أنه بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمان بن عوف ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعيد بن زيد ، وبلال ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وجابر بن عبد الله ، فهؤلاء أربعة عشر . وذكر الدارقطني في حديث جابر : « أنه قال ليس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعون رجلاً » .
وعن مجاهد ومقاتل : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقدم دِحية بن خليفة الكلبي بتجارة فتلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس » . وفي رواية « أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد فقدم دحية بتجارة من زيت الشام » . وفي رواية « وطعام وغير ذلك فخرج الناس من المسجد خشية أن يُسبقوا إلى ذلك » . وقال جابر بن عبد الله « كانت الجواري إذا نَكحن يمرّرن بالمزامير والطَّبْل فانفضّوا إليها » ، فلذلك قال الله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً } ، فقد قيل إن ذلك تكرر منهم ثلاث مرات ، فلا شك أن خروجهم كان تارة لأجل مجيء العِير وتارة لحضور اللهو .
وروي أن العِير نزلت بموضع يقال له : أحجار الزيت فتوهم الراوي فقال : بتجارة الزيت .
وضمير { إليها } عائد إلى التجارة لأنها أهم عندهم من اللهو ولأن الحدث الذي نزلت الآية عنده هو مجيء عِير دحية من الشام . واكتفى به عن ضمير اللهو كما في قول قيس بن الخطيم ، أو عمرو بن الحارث بن امرىء القيس :
نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راضٍ والرأيُ مختلف
ولعل التقسيم الذي أفادته { أو } في قوله : { أو لهواً } تقسيم لأحوال المنفضّين إذ يكون بعضهم من ذوي العائلات خرجوا ليَمْتَاروا لأهلهم ، وبعضهم من الشباب لا همة لهم في الميرة ولكن أحبوا حضور اللهو .
و { إذا } ظرف للزمان الماضي مجرد عن معنى الشرط لأن هذا الانفضاض مضى . وليس المراد أنهم سيعودون إليه بعد ما نزل هذا التوبيخ وما قبله من الأمر والتحريض . ومثله قوله تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } [ النساء : 83 ] وقوله : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا } [ التوبة : 92 ] الآية .
والانفضاض : مطاوع فَضَّه إذا فرقه ، وغلب إطلاقه على غير معنى المطاوعة ، أي بمعنى مطلق كما تفرق . قال تعالى : { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا } [ المنافقون : 7 ] .
وقوله : { أو لهواً } فيه للتقسيم ، أي منهم من انفضّ لأجل التجارة ، ومنهم من انفضّ لأجل اللهو ، وتأنيث الضمير في قوله : { إليها } تغليب للفظ ( تجارة ) لأن التجارة كانت الداعي الأقوى لانفضاضهم .
وجملة { وتركوك قائماً } تفظيع لفعلهم إذ فرطوا في سماع وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أي تركوك قائماً على المنبر . وذلك في خطبة الجمعة ، والظاهر أنها جملة حالية ، أي تركوك في حال الموعظة والإِرشاد فأضاعوا علماً عظيماً بانفضاضهم إلى التجارة واللهو . وهذه الآية تدل على وجوب حضور الخطبة في صلاة الجمعة إذ لم يقل : وتركوا الصلاة .
وأمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم أن يعظهم بأن ما عند الله من الثواب على حضور الجمعة خير من فائدة التجارة ولذة اللهو . وكذلك ما أعد الله من الرزق للذين يؤثرون طاعة الله على ما يشغل عنها من وسائل الارتزاق جزاء لهم على إيثارهم جزاء في الدنيا قبل جزاء الآخرة ، فرب رزق لم ينتفع به الحريص عليه وإن كان كثيراً ، وربّ رزق قليل ينتفع به صاحبه ويعود عليه بصلاح ، قال تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] . وقال حكاية عن خطاب نوع قومه { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً } [ نوح : 10 12 ] .
وذيل الكلام بقوله : { والله خير الرازقين } لأن الله يرزق الرزق لمن يرضى عنه سليماً من الأكدار والآثام ، ولأنه يرزق خير الدنيا وخير الآخرة ، وليس غير الله قادراً على ذلك ، والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله وهو العالم بالسرائر .
قال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً اَوْ لَهْوًا اِنفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمًا} الآية. قال الشافعي: فلم أعلم مخالفا أنها نزلت في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة.
قال الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة وكان لهم سوق يقال لها البطحاء، كانت بنو سُلَيْم يجلبون إليها الخيل والإبل والغنم والسمن فقدموا فخرج إليهم الناس وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهم لَهْوٌ إذا تزوج أحد من الأنصار ضربوا بالكَبَرِ فعَيَّرَهم الله بذلك فقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً اَوْ لَهْوًا اِنفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمًا}. (الأم: 1/199. ون أحكام الشافعي: 1/94.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا رأى المؤمنون عير تجارة أو لهوا" انْفَضّوا إلَيْها "يعني أسرعوا إلى التجارة "وَتَركُوكَ قائما" يقول للنبيّ صلى الله عليه وسلم: وتركوك يا محمد قائما على المنبر... عن أبي مالك، قال: قدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه، قال: فنزلت "وَإذَا رَأَوْا تِجارَةً أوْ لَهْوا انْفَضّوا إلَيْها وَتَرَكُوكَ قائما"...
وأما اللهو، فإنه اختُلف من أيّ أجناس اللهو كان، فقال بعضهم: كان كَبَرا ومزامير... عن جابر بن عبد الله، قال: كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرّون بالكبر والمزامير ويتركون النبيّ صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر، وينفضون إليها، فأنزل الله "وَإذَا رَأَوْا تِجارَةَ أوْ لَهْوا انْفَضّوا إلَيْها".
وقال آخرون: كان طبلاً... والذي هو أولى بالصواب في ذلك الخبر الذي رويناه عن جابر، لأنه قد أدرك أمر القوم ومشاهدهم.
وقوله: "قُلْ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللّهْوِ وَمِنَ التّجارَةِ" يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد الذي عند الله من الثواب، لمن جلس مستمعا خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وموعظته يوم الجمعة إلى أن يفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، خير له من اللهو ومن التجارة التي ينفضون إليها.
"وَاللّهُ خَيْرُ الرازِقِينَ" يقول: والله خير رازق، فإليه فارغبوا في طلب أرزاقكم، وإياه فاسألوا أن يوسع عليكم من فضله دون غيره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
المعنى من هذا، والله أعلم، ليس الرؤية، وإنما المعنى منه عندنا كأنه قال: وإذا علموا، وذلك أنهم كانوا لا يرون التجارة، ولكن ينهى إليهم خبرها، فيعلمون بها، والله أعلم...
وقوله تعالى: {انفضوا إليها} ولم يقل إليهما، وقد ذكر شيئين، ولم يلحق ما بعدهما من الكناية بهما... لأن المقصود من خروجهم إنما كان، هو التجارة دون اللهو، ولكنهم إنما يعلمون ما يجلب إليهم بذلك اللهو؛ فجاز أن يكون ذكر اللهو لهذا المعنى، وإنما المقصود من ذلك التجارة... فإن قيل: كيف جاز أن ينفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الخطبة إلى اللهو والتجارة مع جلال قدرهم وتعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم؟...
والجواب عن هذا أن القوم كانوا حديثي عهد بالإسلام... ولم يكونوا عرفوا حق الخطاب وحق الخطبة عليهم، فكانت تلك تجارة يأملون منها منافع، لو لم يبادروا إليها ذهبت منهم. فإنما نفروا من المسجد جهلا منهم بحق الخطبة والخطاب... وقوله تعالى: {قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة}...: كأنه قال: اتقوا الله فإنكم إذا اتّقيتموه اكتسبتم به المنافع في الرزق وغيره؛ والتجارة الدنيوية لا يكتسب بها إلا منافع الدنيا...
وقوله تعالى: {والله خير الرازقين} ليس يقتضي ذكر هذا أن هناك رازقا آخر ليكون هو خيرهم. ولكن المعنى من هذا في قوله: {فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 14] وقوله: {وأنت أحكم الحاكمين} [هود: 45]. لأنه كان هو خير الرازقين، وأحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين، لأنه لا يحكم إلا عدلا، ولا يخلق إلا ما فيه حكمة. فكذلك قوله: {والله خير الرازقين}...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال تعالى: {إليها} [أي: التجارة]، ولم يقل [إليه: أي اللهو] تهمماً بالأهم، إذ هي كانت سبب اللهو، ولم يكن اللهو سببها، وفي مصحف ابن مسعود: «ومن التجارة للذين اتقوا والله خير الرازقين». وتأمل إن قدمت التجارة مع الرؤية لأنها أهم وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولاً على الأبين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإذا رأوا} أي بعد الوصول إلى موطنها المريح ومحلها الفسيح الشرح المليح، والاشتغال بشأنها العالي {تجارة} أي حمولاً هي موضع للتجارة...
{أو لهواً} أي ما يلهي عن كل نافع...
{انفضوا} أي نفروا متفرقين من العجلة...
ولما كان هذا فعل من سفلت همته عن سماع كلام الحق من الحق، أمره صلى الله عليه وسلم بوعظهم إلهاباً لهم إلى الرجوع إلى تأهلهم للخطاب ولو بالعتاب قال: {قل} أي لهم ترغيباً في الرجوع إلى ما كانوا عليه من طلب الخير من معدنه: {ما عند الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال من الأعراض العاجلة في الدنيا من واردات القلوب وبوادر الحقيقة، الحاصل من سماع الخطبة الآمر بكل خير، الناهي عن كل شر، المفيد لتزكية الباطن وتقويم الظاهر والبركة في جميع الأحوال والآجلة في الآخرة مما لا يدخل تحت الوصف {خير} ولما قدم التجارة أولاً اهتماماً بها، قدم هنا ما كانت سبباً له ليصير كل منهما مقصوداً بالنهي فقال: {من اللهو} ولما بدأ به لإقبال الأغلب في حال الرفاهية عليه قال معيداً الجار للتأكيد: {ومن التجارة} أي وإن عظمت...
ولما كان من عنده الشيء قد لا يعطيه بسهولة وإذا أعطاه لا يعطيه إلا من يحبه قال: {والله} أي ذو الجلال والإكرام وحده {خير الرازقين} لأنه يرزق متاع الدنيا لسفوله ولكونه زاداً إلى الآخرة البر والفاجر والمطيع والعاصي، ويعطي من يريد ما لا يحصيه العد ولا يحصره الحد، وأما المعارف الإلهية والأعمال الدينية الدال عليها رونق الصدق وصفاء الإخلاص وجلالة المتابعة فلا يؤتيها إلا الأبرار وإن كانوا أضعف الناس وأبعدهم من ذلك ولا يفوت أحداً، أقبل على ما شرعه شيئاً كان ينفعه فلا تظنوا أن الغنى في البيع والتجارة إنما هو في متابعة أمر من أحل البيع وأمر به وشرع ما هو خير منه تزكية وبركة ونماء في الظاهر والباطن،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عن جابر -رضي الله عنه- قال: "بينا نحن نصلي مع النبي [صلى الله عليه وسلم] إذ أقبلت عير تحمل طعاما، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي [صلى الله عليه وسلم] إلا اثنا عشر رجلا، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. فنزلت: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما).. "
وفي الآية تلويح لهم بما عند الله وأنه خير من اللهو ومن التجارة. وتذكير لهم بأن الرزق من عند الله (والله خير الرازقين)..
وهذا الحادث كما أسلفنا يكشف عن مدى الجهد الذي بذل في التربية وبناء النفوس حتى انتهت إلى إنشاء تلك الجماعة الفريدة في التاريخ. ويمنح القائمين على دعوة الله في كل زمان رصيدا من الصبر على ما يجدونه من ضعف ونقص وتخلف وتعثر في الطريق. فهذه هي النفس البشرية بخيرها وشرها. وهي قابلة أن تصعد مراقي العقيدة والتطهر والتزكي بلا حدود، مع الصبر والفهم والإدراك والثبات والمثابرة، وعدم النكوص من منتصف الطريق. والله المستعان
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] الآية. عُطف التوبيخ على ترك المأمور به بعد ذكر الأمر وسُلكت في المعطوفة طريقة الالتفات لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنهم أحرياء أن يصرف للخطاب عنهم فحرموا من عز الحضور. وأخبر عنهم بحال الغائبين، وفيه تعريض بالتوبيخ.
ومقتضى الظاهر أن يقال: وإذا رأيتم تجارة أو لهواً فلا تنفضّوا إليها. ومن مقتضيات تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر هنا أن يكون هذا التوبيخ غير شامل لجميع المؤمنين فإن نفراً منهم بَقُوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين خطبته ولم يخرجوا للتجارة ولا للهو.
وفي « الصحيح» عن جابر بن عبد الله قال: « بينما نحن نصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة إذْ أقبلتْ عير من الشام تحمل طعاماً فانفتل الناس إليها حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم». وفي رواية: وفيهم أبو بكر وعمر، فأنزل الله فيهم هذه الآية التي في الجمعة {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} اه. وقد ذكروا في روايات أخرى أنه بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمان بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، وبلال، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله، فهؤلاء أربعة عشر. وذكر الدارقطني في حديث جابر: « أنه قال ليس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعون رجلاً».
وعن مجاهد ومقاتل: « كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقدم دِحية بن خليفة الكلبي بتجارة فتلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس». وفي رواية « أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد فقدم دحية بتجارة من زيت الشام». وفي رواية « وطعام وغير ذلك فخرج الناس من المسجد خشية أن يُسبقوا إلى ذلك». وقال جابر بن عبد الله « كانت الجواري إذا نَكحن يمرّرن بالمزامير والطَّبْل فانفضّوا إليها»، فلذلك قال الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً}، فقد قيل إن ذلك تكرر منهم ثلاث مرات، فلا شك أن خروجهم كان تارة لأجل مجيء العِير وتارة لحضور اللهو.
وروي أن العِير نزلت بموضع يقال له: أحجار الزيت فتوهم الراوي فقال: بتجارة الزيت.
وضمير {إليها} عائد إلى التجارة لأنها أهم عندهم من اللهو ولأن الحدث الذي نزلت الآية عنده هو مجيء عِير دحية من الشام. واكتفى به عن ضمير اللهو...
ولعل التقسيم الذي أفادته {أو} في قوله: {أو لهواً} تقسيم لأحوال المنفضّين إذ يكون بعضهم من ذوي العائلات خرجوا ليَمْتَاروا لأهلهم، وبعضهم من الشباب لا همة لهم في الميرة ولكن أحبوا حضور اللهو.
و {إذا} ظرف للزمان الماضي مجرد عن معنى الشرط لأن هذا الانفضاض مضى. وليس المراد أنهم سيعودون إليه بعد ما نزل هذا التوبيخ وما قبله من الأمر والتحريض. ومثله قوله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به} [النساء: 83] وقوله: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا} [التوبة: 92] الآية.
والانفضاض: مطاوع فَضَّه إذا فرقه، وغلب إطلاقه على غير معنى المطاوعة، أي بمعنى مطلق كما تفرق. قال تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا} [المنافقون: 7].
وقوله: {أو لهواً} فيه للتقسيم، أي منهم من انفضّ لأجل التجارة، ومنهم من انفضّ لأجل اللهو، وتأنيث الضمير في قوله: {إليها} تغليب للفظ (تجارة) لأن التجارة كانت الداعي الأقوى لانفضاضهم.
وجملة {وتركوك قائماً} تفظيع لفعلهم إذ فرطوا في سماع وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أي تركوك قائماً على المنبر. وذلك في خطبة الجمعة، والظاهر أنها جملة حالية، أي تركوك في حال الموعظة والإِرشاد فأضاعوا علماً عظيماً بانفضاضهم إلى التجارة واللهو. وهذه الآية تدل على وجوب حضور الخطبة في صلاة الجمعة إذ لم يقل: وتركوا الصلاة.
وأمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم أن يعظهم بأن ما عند الله من الثواب على حضور الجمعة خير من فائدة التجارة ولذة اللهو. وكذلك ما أعد الله من الرزق للذين يؤثرون طاعة الله على ما يشغل عنها من وسائل الارتزاق جزاء لهم على إيثارهم جزاء في الدنيا قبل جزاء الآخرة، فرب رزق لم ينتفع به الحريص عليه وإن كان كثيراً، وربّ رزق قليل ينتفع به صاحبه ويعود عليه بصلاح، قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. وقال حكاية عن خطاب نوع قومه {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} [نوح: 10 12].
وذيل الكلام بقوله: {والله خير الرازقين} لأن الله يرزق الرزق لمن يرضى عنه سليماً من الأكدار والآثام، ولأنه يرزق خير الدنيا وخير الآخرة، وليس غير الله قادراً على ذلك، والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله وهو العالم بالسرائر.