قوله تعالى : { أو خلقاً مما يكبر في صدوركم } ، قيل : السماء والأرض والجبال . وقال مجاهد وعكرمة وأكثر المفسرين : إنه الموت ، فإنه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت ، أي : لو كنتم الموت بعينه لأميتنكم ولأبعثنكم . { فسيقولون من يعيدنا } ، من يبعثنا بعد الموت ؟ { قل الذي فطركم } ، خلقكم ، { أول مرة } ومن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة ، { فسينغضون إليك رؤوسهم } أي : يحركونها إذا قلت لهم ذلك مستهزئين بها ، { ويقولون متى هو } ؟ أي : البعث والقيامة ، { قل عسى أن يكون قريباً } أي : هو قريب ، لأن عسى من الله واجب ، نظيره قوله تعالى : { وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً } [ الأحزاب – 63 ] .
من يردنا إلى الحياة إن كنا رفاتا وعظاما ، أو خلقا آخر أشد إيغالا في الموت والخمود ? ( قل : الذي فطركم أول مرة ) . .
وهو رد يرجع المشكلة إلى تصور بسيط واضح مريح . فالذي أنشاهم إنشاء قادر على أن يردهم أحياء . ولكنهم لا ينتفعون به ولا يقتنعون :
( فسينغضون إليك رؤوسهم ) ينغضونها علوا أو سفلا ، استنكارا و استهزاء :
( ويقولون : متى هو ? ) : استبعادا لهذا الحادث واستنكارا .
( قل : عسى أن يكون قريبا ) . .
فالرسول لا يعلم موعده تحديدا . ولكن لعله أقرب مما يظنون . وما أجدرهم أن يخشوا وقوعه وهم في غفلتهم يكذبون ويستهزئون !
{ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ }
قال ابن إسحاق عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : سألت ابن عباس عن ذلك فقال : هو الموت .
وروى عطية ، عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الآية : لو كنتم موتى لأحييتكم . وكذا قال سعيد بن جبير ، وأبو صالح ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك .
ومعنى ذلك : أنكم لو فرضتم أنكم لو{[17584]} صِرْتُم مَوْتًا الذي هو ضد الحياة لأحياكم الله إذا شاء ، فإنه لا يمتنع{[17585]} عليه شيء إذا أراده .
وقد ذكر بن جرير [ هاهنا ]{[17586]} حديث : " يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كَبْش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ، ثم يقال : يا أهل الجنة ، أتعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم . ثم يقال : يا أهل النار ، أتعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم . فيذبح بين الجنة والنار ، ثم يقال : يا أهل الجنة ، خلود بلا موت ، ويا أهل النار ، خلود بلا موت " {[17587]} .
وقال مجاهد : { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } يعني : السماء والأرض والجبال .
وفي رواية : ما شئتم فكونوا ، فسيعيدكم الله بعد موتكم .
وقد وقع في التفسير المروي عن الإمام مالك ، عن الزهري في قوله { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } قال : النبي صلى الله عليه وسلم ، قال مالك : ويقولون : هو الموت .
وقوله [ تعالى ]{[17588]} { فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا } أي : من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديدًا أو خلقًا آخر شديدًا { قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : الذي خلقكم ولم تكونوا شيئًا مذكورًا ، ثم صرتم بشرًا تنتشرون ؛ فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] .
وقوله [ تعالى ]{[17589]} : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ } : قال ابن عباس وقتادة : يحركونها استهزاء .
وهذا الذي قالاه هو الذي تفهمه العرب من لغاتها ؛ لأن{[17590]} الإنغاض هو : التحرك من أسفل إلى أعلى ، أو من أعلى إلى أسفل ، ومنه قيل للظليم - وهو ولد النعامة - : نغضًا ؛ لأنه إذا مشى عَجل{[17591]} في مشيته وحَرك رأسه . ويقال : نَغَضَت{[17592]} سنُه إذا تحركت وارتفعت من مَنْبَتها ؛ قال : الراجز{[17593]} :
ونَغَضَتْ مِنْ هَرَم أسنانها . . .
وقوله : { وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ } إخبار عنه بالاستبعاد منهم لوقوع{[17594]} ذلك ، كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الملك : 25 ] ، وقال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى : 18 ] .
وقوله : { قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا } أي : احذروا ذلك ، فإنه قريب إليكم ، سيأتيكم لا محالة ، فكل ما هو آت آت .
والخلق : بعنى المخلوق ، أي أو خلقاً آخر مما يعظم في نفوسكم عن قبوله الحياة ويستحيل عندكم على الله إحياؤه مثل الفولاذ والنحاس .
وقوله : { مما يكبر في صدوركم } صفة { خلقاً } .
ومعنى { يكبر } يعظم وهو عظم مجازي بمعنى القوي في نوعه وصفاته ، والصدور : العقول ، أي مما تعدونه عظيماً لا يتغير .
وفي الكلام حذف دل عليْه الكلام المردود وهو قولهم : { أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون } [ الإسراء : 49 ] . والتقدير : كونوا أشياء أبعد عن قبول الحياة من العظام والرفات .
والمعنى : لو كنتم حجارة أو حديداً لأحياكم الله ، لأنهم جعلوا كونهم عظاماً حجة لاستحالة الإعادة ، فرد عليهم بأن الإعادة مقدرة لله تعالى ولو كنتم حجارة أو حديداً ، لأن الحجارة والحديد أبعد عن قبول الحياة من العظام والرفات إذ لم يسبق فيهما حلول الحياة قط بخلاف الرفات والعظام .
والتفريع في { فسيقولون من يعيدنا } على جملة { قل كونوا حجارة } أي قل لهم ذلك فسيقولون لك : من يعيدنا .
وجُعِلَ سؤالهم هنا عن المعيد لا عن أصل الإعادة لأن البحث عن المعيد أدخل في الاستحالة من البحث عن أصل الإعادة ، فهو بمنزلة الجواب بالتسليم الجدلي بعد الجواب بالمنع فإنهم نفوا إمكان إحياء الموتى ، ثم انتقلوا إلى التسليم الجدلي لأن التسليم الجدلي أقوى ، في معارضة الدعوى ، من المنع .
والاستفهام في { من يعيدنا } تهكمي . ولما كان قولهم هذا محقق الوقوع في المستقبل أمر النبي بأن يجيبهم عندما يقولونه جواب تعيين لمن يعيدهم إبطالاً للازم التهكم ، وهو الاستحالة في نظرهم بقوله : { قل الذي فطركم أول مرة } إجراء لظاهر استفهامهم على أصله بحمله على خلاف مرادهم ، لأن ذلك أجدر على طريقة الأسلوب الحكيم لزيادة المحاجة ، كقوله في محاجة موسى لفرعون { قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين } [ الشعراء : 25 26 ] .
وجيء بالمسند إليه موصولاً لقصد ما في الصلة من الإيماء إلى تعليل الحكم بأن الذي فطرهم أول مرة قادر على إعادة خلقهم ، كقوله تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [ الروم : 27 ] فإنه لقدرته التي ابتدأ بها خلقكم في المرة الأولى قادر أن يخلقكم مرة ثانية .
والإنغاض : التحريك من أعلى إلى أسفل والعكس . فإنغاض الرأس تحريكه كذلك ، وهو تحريك الاستهزاء .
واستفهموا عن وقته بقولهم : { متى هو } استفهام تهكم أيضاً ؛ فأمر الرسول بأن يجيبهم جواباً حقاً إبطالاً للازم التهكم ، كما تقدم في نظيره آنفاً .
وضمير { متى هو } عائد إلى العود المأخوذ من قوله : { يعيدنا } كقوله : { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
و { عسى } للرجاء على لسان الرسول : والمعنى لا يبعد أن يكون قريباً .