معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ} (27)

قوله تعالى : { وأذن في الناس } أي : أعلم وناد في الناس ، { بالحج } فقال إبراهيم وما يبلغ صوتي ؟ فقال : عليك الأذان وعلي البلاغ ، فقام إبراهيم على المقام فارتفع المقام حتى صار كأطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه ، وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً وقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى لكم بيتاً ، وكتب عليكم الحج إلى البيت ، فأجيبوا ربكم ، فأجابه كل من كان يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات . لبيك اللهم لبيك ، قال ابن عباس : فأول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجاً . وروي أن إبراهيم صعد أبا قبيس ونادى . وقال ابن عباس عنى بالناس في هذه الآية أهل القبلة ، وزعم الحسن أن قوله : { وأذن في الناس بالحج } كلام مستأنف وأن المأمور بهذا التأذين محمد صلى الله عليه وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع . وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا " . قوله تعالى : { يأتوك رجالاً } مشاة على أرجلهم جمع راجل ، مثل قائم وقيام وصائم وصيام ، { وعلى كل ضامر } أي : ركباناً على كل ضامر ، والضامر : البعير المهزول . { يأتين من كل فج عميق } أي : من كل طريق بعيد ، وإنما جمع يأتين لمكان كل وأراد النوق .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ} (27)

25

ثم أمر الله عليه السلام - باني البيت - إذا فرغ من إقامته على الأساس الذي كلف به أن يؤذن في الناس بالحج ؛ وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام ووعده أن يلبي الناس دعوته ، فيتقاطرون على البيت من كل فج ، رجالا يسعون على أقدامهم ، وركوبا ( على كل ضامر )جهده السير فضمر من الجهد والجوع : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) . .

وما يزال وعد الله يتحقق منذ إبراهيم - عليه السلام - إلى اليوم والغد . وما تزال أفئدة من الناس تهوى إلى البيت الحرام ؛ وترف إلى رؤيته والطواف به . . الغني القادر الذي يجد الظهر يركبه ووسيلة الركوب المختلفة تنقله ؛ والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه . وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم - عليه السلام - منذ آلاف الأعوام . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ} (27)

وقوله : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } أي : ناد في الناس داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه . فَذُكر أنه قال : يا رب ، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ؟ فقيل : ناد وعلينا البلاغ .

فقام على مقامه ، وقيل : على الحجر ، وقيل : على الصفا ، وقيل : على أبي قُبَيس ، وقال : يا أيها الناس ، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه ، فيقال : إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأسمَعَ مَن في الأرحام والأصلاب ، وأجابه كل شيء سمعه من حَجَر ومَدَر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : " لبيك اللهم لبيك " .

هذا مضمون ما روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، وغير واحد من السلف ، والله أعلم .

أوردها ابن جَرير ، وابن أبي حاتم مُطَوّلة{[20139]}-{[20140]} .

وقوله : { يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } قد يَستدلّ بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيا ، لمن قدر عليه ، أفضلُ من الحج راكبا ؛ لأنه قدمهم في الذكر ، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم ، والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبا أفضل ؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه حج راكبا مع كمال قوته ، عليه السلام .

وقوله : { يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ } يعني : طريق ، كما قال : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا } [ الأنبياء : 31 ] .

وقوله : { عَمِيقٍ } أي : بعيد . قاله مجاهد ، وعطاء ، والسدي ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان ، والثوري ، وغير واحد .

وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم ، حيث قال في دعائه : { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف ، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار .


[20139]:- في ف : "بطوله".
[20140]:- تفسير الطبري (17/106).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ} (27)

وقرأ جمهور الناس «وأذّن » بشد الذال ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيص «وآذن » بمدة وتخفيف الذال وتصحف هذا على ابن جني ، فإنه حكى عنها «وأذن » فعل ماض وأعرب عن ذلك بان جعله عطفاً على { بوأنا }{[8353]} ، وروي أن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالأذان بالحج قال يا رب وإذا ناديت فمن يسمعني ؟ فقيل له ناد يا إبراهيم فعليك النداء وعلينا البلاغ فصعد على أبي قبيس وقيل على حجر المقام ونادى : أيها الناس ، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا واختلفت الروايات في ألفاظه عليه السلام واللازم أن يكون فيها ذكر البيت والحج ، وروي أنه يوم نادى أسمع كل من يحج إلى يوم القيامة في أصلاب الرجال وأجابه كل شيء في ذلك الوقت من جماد وغيره لبيك اللهم لبيك ، فجرت التلبية على ذلك ، قاله ابن عباس وابن جبير ، وقرأ جمهور الناس «بالحَج » بفتح الحاء ، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها ، و { رجالاً } ، جمع راجل كتاجر وتجار ، [ وصاحب وصحاب ]{[8354]} ، وقرأ عكرمة وابن عباس وأبو مجلز وجعفر بن محمد «رُجّالاً » بضم الراء وشد الجيم ككاتب وكتاب ، وقرأ عكرمة أيضاً وابن أبي إسحاق «رُجالاً » بضم الراء وتخفيف الجيم ، وهو قليل في أبنية الجمع ورويت عن مجاهد ، وقرأ مجاهد «رُجالى » على وزن فعالى فهو كمثل كسالى ، و «الضامر » ، قالت فرقة أراد بها الناقة ع وذلك أنه يقال ناقة ضامر .

ومنه قول الأعشى :

عهدي بها في الحي قد ذرعت . . . هيفاء مثل المهرة الضامر{[8355]}

فيجيء قوله { يأتين } مستقيماً على هذا التأويل ، وقالت فرقة «الضامر » هو كل ما اتصف بذلك من جمل أو ناقة وغير ذلك ع وهذا هو الأظهر يتضمن معنى الجماعات أو الرفاق فيحسن لذلك قوله { يأتين } وقرأ أصحاب ابن مسعود «يأتون » وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك ، وفي تقديم { رجالاً } تفضيل للمشاة في الحج ، قال ابن عباس : ما آسى على شيء فاتني إلا أن أكون حججت ماشياً فإني سمعت الله تعالى يقول : { يأتونك رجالاً } وقال ابن أبي نجيح : حج إبراهيم وإسماعيل ماشين ، واستدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط ع قال مالك في الموازية : لا أسمع للبحر ذكراً ع وهذا تأسيس لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه ، وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس بالسفن ولا بد لمن ركب البحر أن يصير في إيتان مكة إما راجلاً وإما على { ضامر } فإنما ذكرت حالتا الوصول ، وإسقاط فرض الحج بمجرد [ عدم ذكر ]{[8356]} البحر ليس بالكثير ولا القوي ، فأما إذا اقترن به عدو أو خوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصاً ما ، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار ، وأنه ليس بسبيل يستطاع ، وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاماً ظاهره أن الوجوب لا يسقطه شيء من هذه الأعذار ع وهذا ضعيف{[8357]} و «الفج » الطريق الواسعة ، و «العميق » معناه البعيد . وقال الشاعر : [ الطويل ]

إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة . . . يمد بها في السير أشعث شاحب{[8358]}


[8353]:نقل القرطبي كلام ابن عطية هذا عن ابن جني ولم يعلق عليه، ونقله أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط وعلق عليه بقوله: "وليس بتصحيف، بل قد حكى أبو عبد الله الحسين بن خالويه في (شواذ القراءات) من جمعه، وحكى صاحب (اللوامح) أبو الفضل الرازي ذلك عن الحسن وابن محيصن، قال صاحب اللوامح: وهو عطف على {وإذ بوأنا}، فيصير في الكلام تقديم وتأخير، ويصير [يأتوك] جزما على جواب الأمر الذي هو (وطهر)". وإذا رجعنا إلى كلام ابن جني في (المحتسب) نجد أنه يقول نفس الكلام تقريبا، إذ قال: "فأما قوله: {يأتوك رجالا} فإنه انجزم لأنه جواب قوله: {وطهر بيتي للطائفين}، وهو على قراءة الجماعة جواب قوله: {وأذن في الناس بالحج}".
[8354]:زيادة من القرطبي الذي نقل كلام ابن عطية منسوبا إليه هكذا.
[8355]:البيت من قصيدة للأعشى قالها يهجو علقمة بن علاثة ويمدح عامر بن الطفيل في المنافرة التي جرت بينهما، والرواية في الديوان: (قد سربلت)، وبعد هذا البيت يقول: قد نهد الثدي على صدرها في مشرق ذي صبح نائر لو أسندت ميتا إلى نحرها عاش ولم ينقل إلى قابر حتى يقول الناس مما رأوا: يا عجبا للميت الناشر فذهبت أبياته في الناس.
[8356]:ما بين العلامتين [....] زيادة للتوضيح وسلامة التعبير.
[8357]:نقل الطبري كلام ابن عطية كله عن "البحر" إلى أن قال: وهذا ضعيف، ثم علق عليه بقوله: "قلت: وأضعف من ضعيف".
[8358]:الفجاج: جمع فج وهو الطريق الواسعة بين جبلين، والعميق: البعيد، وأصله البعد سفلا، يقال: بئر عميقة، أي بعيدة القعر، وهذا هو موضع الشاهد في البيت، وتشعث شعره: تلبد واغبر، والشعث والأشعث: المغبر الرأس، المنتتف الشعر، والشاحب: المتغير من هزال، أو جوع، أو سفر، أو عمل، ولم يقيده في الصحاح، بل قال: شحب جسمه إذا تغير، ولم أقف على قائل هذا البيت فيما بين يدي من المراجع.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ} (27)

تفسير الشافعي 204 هـ :

قال الشافعي: فسمعت بعض من أرضى من أهل العلم يذكر أن الله تبارك وتعالى لما أمر بهذا إبراهيم عليه السلام، وقف على المقام فصاح صيحة: « عباد الله أجيبوا داعي الله» فاستجاب له حتى من في أصلاب الرجال وأرحام النساء. فمن حج البيت بعد دعوته فهو ممن أجاب دعوته ووافاه من وافاه يقولون: لبيك داعي ربنا لبيك. (الأم: 2/141)...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: عهدنا إليه أيضا أن أذّن في الناس بالحجّ يعني بقوله:"وأذّنْ" أعلم وناد في الناس أن حجوا أيها الناس بيت الله الحرام.

"يَأْتُوكَ رِجالاً "يقول: فإن الناس يأتون البيت الذي تأمرهم بحجه مشاة على أرجلهم، "وَعَلى كُلّ ضَامِرٍ" يقول: وركبانا على كلّ ضامر، وهي الإبل المهازيل، "يَأْتِينَ مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيقٍ" يقول: تأتي هذه الضوامر من كلّ فجّ عميق يقول: من كلّ طريق ومكان ومسلك بعيد...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وأذن في الناس بالحج} يحتمل وجهين: أحدهما: على الإعلام، أن أعلم الناس أن لله عليهم الحج بالبيت كقوله: {ولله على الناس حج البيت} الآية [آل عمران: 97]. والثاني: {وأذن في الناس بالحج} أي ادع الناس، ونادهم أن يحجوا البيت.

قال أهل التأويل: لما أمر الله إبراهيم أن ينادي في الناس بالحج، فنادى، فأسمع الله صوته ما بين المشرق والمغرب حتى أسمع صوته ونداءه من [في] أصلاب الرجال وأرحام النساء، قالوا: لَبَّيْكَ، ومن حج بيته فهو الذي أجاب إبراهيم لما ناداهم.

لكن لا يُعلم ذلك إلا بالخبر عن رسول الله أنه كان ما ذكروا، وإلا فالسكوت عنه وعن مثله أولى.

{يأتين من كل فج عميق} أضاف الإتيان إلى الدواب لأنه بالدواب يأتون، فأضاف إليها لذلك، والله أعلم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

وقدَّم الرَّجالةَ على الركبان لأنَّ الحَمْلَ على المركوب أكثر...

ويقال {يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} هذا على وجه المدح وسبيل الشكر منهم...

وكم قَدْرُ مسافةِ الدنيا بجملتها!؟ ولكنْ لأِجْلِ قَدْرِ أفعالهم وتعظيمِ صنيعِهم يقول ذلك إظهاراً لفضله وكرمه.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

قال ابن عباس: ما أتأسف على شيء، تأسفي أني لم أحج ماشيا؛ لأن الله تعالى قدم المشاة على الركبان.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

وإنما قال "يأتوك "وإن كانوا يأتون الكعبة؛ لأن المنادي إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم؛ لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم.وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي. لا خلاف في جواز الركوب والمشي...

مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :

{وَأَذّن فِى الناس بالحج} ناد فيهم، والحج هو القصد البليغ إلى مقصد منيع.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي: أعلمهم به، وادعهم إليه، وبلغ دانيهم وقاصيهم، فرضه وفضيلته، فإنك إذا دعوتهم، أتوك حجاجا وعمارا، رجالا، أي: مشاة على أرجلهم من الشوق، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي: ناقة ضامر، تقطع المهامه والمفاوز، وتواصل السير، حتى تأتي إلى أشرف الأماكن، {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي: من كل بلد بعيد، وقد فعل الخليل عليه السلام، ثم من بعده ابنه محمد صلى الله عليه وسلم، فدعيا الناس إلى حج هذا البيت، وأبديا في ذلك وأعادا، وقد حصل ما وعد الله به، أتاه الناس رجالا وركبانا من مشارق الأرض ومغاربها، ثم ذكر فوائد زيارة بيت الله الحرام، مرغبا فيه فقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم أمر الله نبيه -عليه السلام -باني البيت- إذا فرغ من إقامته على الأساس الذي كلف به أن يؤذن في الناس بالحج؛ وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام ووعده أن يلبي الناس دعوته، فيتقاطرون على البيت من كل فج،.. وما يزال وعد الله يتحقق منذ إبراهيم -عليه السلام- إلى اليوم والغد. وما تزال أفئدة من الناس تهوى إلى البيت الحرام؛ وترف إلى رؤيته والطواف به.. الغني القادر الذي يجد الظهر يركبه ووسيلة الركوب المختلفة تنقله؛ والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه. وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم -عليه السلام- منذ آلاف الأعوام ...

...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{وأذّن} عطف على {وطهر بيتي}. وفيه إشارة إلى أن من إكرام الزائر تنظيف المنزل وأنّ ذلك يكون قبل نزول الزائر بالمكان.والتأذين: رفع الصوت بالإعلام بشيء. وأصله مضاعف أذن إذا سمع ثم صار بمعنى بلغه الخبر فجاء منه آذن بمعنى أخبر. وأذّن بما فيه من مضاعفة الحروف مشعر بتكرير الفعل، أي أكثر الإخبار بالشيء. والكثرة تحصل بالتكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار...والناس يعمّ كل البشر، أي كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك. والمراد بالحجّ: القصد إلى بيت الله. وصار لفظ الحجّ علماً بالغلبة على الحضور بالمسجد الحرام لأداء المناسك. ومن حكمة مشروعيته تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس لأن للنفوس ميلاً إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس. فهذه أصل في سنّة المؤثرات لأهل المقصد النافع. وفي تعليق فعل {يأتوك} بضمير خطاب إبراهيم دلالة على أنه كان يحضر موسم الحجّ كل عام يبلّغ للناس التوحيد وقواعد الحنيفية...

والضامر: قليل لحم البطن. والضمور من محاسن الرواحل والخيلِ لأنه يعينها على السير والحركة...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

والخلق جميعا خلق الله، فلماذا تقتصر رؤية البيت على من قدر له أن يمر به، أو يعيش إلى جواره؟. فأراد الحق- سبحانه وتعالى- أن يشيع هذه الميزة بين خلقه جميعا، فيذهبوا لرؤية بيت ربهم، وإن كانت المساجد كلها بيوت الله، إلا أن هذا البيت بالذات هو بيت الله باختيار الله، لذلك جعله قبلة لبيوته التي اختارها الخلق. إن من علامات الولاء بين الناس أن نزور قصور العظماء وعلية القوم، ثم يسجل الزائر اسمه في سجل الزيارات، ويرى في ذلك شرفا ورفعة، فما بالك ببيت الله، كيف تقتصر زيارته ورؤيته على أهله والمجاورين له أو من قدر لهم المرور به فلماذا أخذ الحج بالذات هذه المكانة؟ نقول: أركان الإسلام تبدأ بالشهادتين: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج، لو نظرت إلى هذه الأركان لوجدت أن الحج هو الركن الوحيد الذي يجتهد المسلم في أدائه وإن لم يكن مستطيعا له فتراه يوفر ويقتصد حتى من قوته، وربما حرم نفسه ليؤدي فريضة الحج، ولا يحدث هذا ولا يتكلفه الإنسان إلا في هذه الفريضة، لماذا؟ قالوا: لأن الله تعالى حكم في هذه المسألة فقال: أذن- يأتوك، هكذا رغما عنهم، ودون اختيارهم، ألا ترى الناس ينجذبون لأداء هذه الفريضة، وكأن قوة خارجة عنهم تجذبهم...

. وتقديم الماشين على الراكبين تأكيد للحكم الإلهي {يأتوك} فالجميع حريص على أداء الفريضة حتى إن حج ماشيا.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} وأعلن ذلك في كل نداءاتك، كتشريع تقرّره وتثبته، لا مجرد صوت تطلقه، ليشعروا من خلال ذلك بأن هناك إلزاماً إلهيّاً يدفعهم إلى الامتثال، ويقودهم إلى الطاعة {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} أي طريق بعيد، لما توحيه كلمة العمق من امتداد ضارب في المجهول.