فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ} (27)

{ وَأَذِّن } أي ناد { فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } أي بدعوته والأمر به ، وقرئ آذن بالمد والأذان الإعلام . وعن ابن عباس قال : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال : قد فرغت ، قال : أذن في الناس بالحج ، قال : يا رب وما يبلغ صوتي ؟ قال : أذن وعلي البلاغ ، قال : رب كيف أقول ؟ قال : " قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق " فسمعه من في السماء والأرض ، ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون ، وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة ، وبه قال جماعة من المفسرين ، وزادوا : فعلا على المقام ، فأشرف به حتى صار كأعلى الجبال .

وقيل : علا على جبل أبي قبيس فلما صعده للنداء خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا ، ونادى في الناس بالحج قال : يا أيها الناس إن ربكم بنى بيتا وكتب عليكم الحج إليه فأجيبوا ربكم ، فأجابه كل من كتب له أن يحج ممن كان في أصلاب الرجال وأرحام الأمهات ، لبيك اللهم لبيك ، قال القسطلاني : فمن لبى مرة حج مرة ، ومن لبى مرتين حج مرتين ، ومن لبى أكثر حج بقدر تلبيته . انتهى ، قيل : أول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجا .

وقيل إن الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى أعلمهم يا محمد بوجوب الحج عليهم ، وعلى هذا فالخطاب لإبراهيم انتهى عند قوله : { والركع السجود } وقيل إن خطابه انتهى عند قوله { مكان البيت } ، وما بعده خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمره أن يقول ذلك في حجة الوداع .

عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " أخرجه مسلم{[1237]} ، قال في المدارك : والأول أظهر وقرأ الجمهور بالحج بفتح الحاء ، وابن إسحاق في كل القرآن بكسرها .

{ يَأْتُوكَ رِجَالًا } هذا جواب الأمر وعده الله إجابة الناس له إلى حج البيت ما بين راجل وراكب ، فمعنى رجالا مشاة جمع راجل وقيل : جمع رجل ، وقرئ بضم الراء رجالا ، وقرئ على وزن كسالى ، وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي ، قال الكرخي : إذ للراكب بكل خطوة سبعون حسنة وللراجل سبعمائة من حسنات الحرم ، كل حسنة مائة ألف حسنة ، وإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجا ماشيين ، انتهى .

أقول : المعتمد في الباب أن الركوب أفضل من المشي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج راكبا كما في الروايات الصحيحة المشهورة ، وفضيلة الإتباع تربو على غيره ، وإن كان المشي فضيلة في نفسه سواء قدر على المشي أم لا قبل الإحرام وبعده ، والحديث الذي ذكره الكرخي تبعا للغزالي ، والرافعي ضعيف على ما فيه ، قاله ابن علان في مثير شوق الأنام إلى بيت الله الحرام ، وممن ضعفه ابن حجر المكي في شرح العباب وشرح المنهاج . والجواب عن التقديم أنه قد لا يفيد التفضيل قطعا أو على الأصح ، وقد يتقدم المفضول ويتأخر الأفضل ، قال تعالى : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } وقال : { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } وقال : { إن مع العسر يسرا } إلى غير ذلك من الآيات فليعلم ، وقال : { يأتوك } وإن كانوا يأتون البيت لأن من أتى الكعبة حاجا فقد أتى إبراهيم لأنه أجاب نداءه .

{ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } أي وركبانا على كل بعير ، والضامر : البعير المهزول ، الذي أتعبه السفر ، يقال ضمر يضمر وضمورا ، وضمر الفرس من باب دخل وضمر أيضا بالضم فهو ضامر فيهما ، وناقة ضامر وضامرة وتضمير الفرس أيضا أن تعلفه حتى يسمن ، ثم ترده إلى القوت وذلك في أربعين يوما ، ووصف الضامر بقوله : { يَأْتِينَ } باعتبار المعنى لأن ضامر في معنى ضوامر .

{ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } الفج الطريق الواسع ، الجمع فجاج والعميق البعيد ، قال النسفي : قدم الرجال على الركبان إظهارا لفضيلة المشاة انتهى ، وليس بشيء لأن الاستطاعة المفسرة بالزاد والراحلة في الحديث الصحيح شرط في فريضة الحج واستدل بعضهم على أنه لا يجب الحج على راكب البحر ، وهو استدلال ضعيف ، لأن مكة ليست على بحر ، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين بمشي أو ركوب ، فذكر تعالى ما يتوصل به إليها .


[1237]:مسلم 1337 ـ النسائي كتاب المناسك باب 1.