السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ} (27)

{ وأذن في الناس } أي : أعلمهم وناد فيهم { بالحج } وهو قصد البيت على سبيل التكرار للعبادة المخصوصة بالمشاعر المنصوصة ، وفي المأمور بذلك قولان :

أحدهما وعليه أكثر المفسرين أنه إبراهيم عليه السلام ، قالوا : لما فرغ من بناء البيت قال الله تعالى له أذن في الناس بالحج . قال : يا رب وما يبلغ صوتي ؟ قال : عليك الأذان وعليّ البلاغ فصعد إبراهيم الصفا وفي رواية أخرى أبا قبيس وفي أخرى على المقام قال إبراهيم : كيف أقول قال جبريل قل لبيك اللهمّ لبيك فهو أوّل من لبى وفي رواية أخرى صعد على الصفا فقال : يا أيها الناس إنّ الله كتب عليكم حج هذا البيت العتيق ، فسمعه ما بين السماء والأرض فما بقي شيء سمع صوته إلا أقبل يلبي يقول لبيك اللهمّ لبيك ، وفي رواية أخرى : إنّ الله يدعوكم إلى حج بيته الحرام ليثيبكم به الجنة ويجيركم من الناس فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء وكل من وصل إليه صوته من حجر ، أو شجر ، أو آنية ، أو تراب قال مجاهد فما حج إنسان ولا يحج أحد حتى تقوم الساعة إلا وقد أسمعه ذلك النداء فمن أجاب مرّة حج مرّة ، ومن أجاب مرّتين أو أكثر فيحج مرّتين أو أكثر بذلك المقدار ، وفي رواية فنادى على جبل أبي قبيس يا أيها الناس إنّ ربكم بنى بيتاً وأوجب الحج عليكم إليه فأجيبوا ربكم والتفت بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً فأجابه كل من كتب له أن يحج من أصلاب الرجل وأرحام الأمّهات لبيك اللهمّ لبيك ، وعن ابن عباس قال لما أمر الله إبراهيم بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى .

القول الثاني : أنّ المأمور بذلك هو النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول الحسن واختاره أكثر المعتزلة واحتجوا عليه بأنّ ما جاء في القرآن وأمكن حمله على أنّ محمد صلى الله عليه وسلم هو المخاطب به فهو أولى لأنّ قوله تعالى : { وإذ بوأنا } تقديره واذكر يا محمد إذ بوّأنا فهو في حكم المذكور ، فإذا قال تعالى : وأذن فإليه يرجع الخطاب أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع ، روي عن أبي هريرة قال : «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا » وجواب الأمر { يأتوك } أي يأتوا بيتك الذي بنيته لذلك مجيبين لصوتك بإذننا سامعين طائعين مجنبين خاشعين من أقطار الأرض كما يجيبون صوت الداعي من قبلنا إذا دعاهم بعد الموت بمثل ذلك { رجالاً } أي : مشاة على أرجلهم جمع راجل كقائم وقيام { و } ركباناً { على كل ضامر } أي : بعير مهزول وهو يطلق على الذكر والأنثى .

تنبيه على كل ضامر حال معطوف على حال كأنه قال رجلاً وركباناً وقوله تعالى : { يأتين } صفة لكل ضامر لأنه في معنى الجمع { من كل فج } أي : طريق واسع بين جبلين { عميق } أي بعيد روى سعيد بن جبير بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة من حسنات الحرم قيل يا رسول الله وما حسنات الحرم قال كل حسنة بمائة ألف حسنة » وفي هذا دلالة على أنّ المشي أفضل من الركوب وفي ذلك خلاف بين الأئمة محله كتب الفقه .