التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ} (27)

{ وأذّن } عطف على { وطهر بيتي } [ الحج : 26 ] . وفيه إشارة إلى أن من إكرام الزائر تنظيف المنزل وأنّ ذلك يكون قبل نزول الزائر بالمكان .

والتأذين : رفع الصوت بالإعلام بشيء . وأصله مضاعف أذن إذا سمع ثم صار بمعنى بلغه الخبر فجاء منه آذن بمعنى أخبر . وأذّن بما فيه من مضاعفة الحروف مشعر بتكرير الفعل ، أي أكثر الإخبار بالشيء . والكثرة تحصل بالتكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار . ولكونه بمعنى الإخبار يُعدّى إلى المفعول الثاني بالباء .

والناس يعمّ كل البشر ، أي كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك .

والمراد بالحجّ : القصد إلى بيت الله . وصار لفظ الحجّ علماً بالغلبة على الحضور بالمسجد الحرام لأداء المناسك . ومن حكمة مشروعيته تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس لأن للنفوس ميلاً إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس . فهذه أصل في سنّة المؤثرات لأهل المقصد النافع .

وفي تعليق فعل { يأتوك } بضمير خطاب إبراهيم دلالة على أنه كان يحضر موسم الحجّ كل عام يبلّغ للناس التوحيد وقواعد الحنيفية . روي أن إبراهيم لما أمره الله بذلك اعتلى جبل أبي قيس وجعل أصبعيه في أذنيه ونادى : « إن الله كتب عليكم الحجّ فْحُجُّوا » . وذلك أقصى استطاعته في امتثال الأمر بالتأذين . وقد كان إبراهيم رحّالة فلعله كان ينادي في الناس في كل مكان يحل فيه .

وجملة { يأتوك } جواب للأمر ، جعل التأذين سبباً للإتيان تحقيقاً لتيسير الله الحج على الناس . فدل جواب الأمر على أنّ الله ضمن له استجابة ندائه .

وقوله { رجالاً } حال من ضمير الجمع في قوله { يأتوك } .

وعطف عليه و { على كل ضامر } بواو التقسيم التي بمعنى ( أو ) كقوله تعالى : { ثيبات وأبكاراً } [ التحريم : 5 ] إذ معنى العطف هنا على اعتبار التوزيع بين راجل وراكب ، إذ الراكب لا يكون راجلاً ولا العكس . والمقصود منه استيعاب أحوال الآتين تحقيقاً للوعد بتيسير الإتيان المشار إليه بجعل إتيانهم جواباً للأمر ، أي يأتيك من لهم رواحل ومن يمشون على أرجلهم .

ولكون هذه الحال أغرب قدّم قوله { رجالاً } ثم ذكر بعده { وعلى كل ضامر } تكملة لتعميم الأحوال إذ إتيان الناس لا يعدو أحد هذين الوصفين .

و { رجالاً } : جمع راجل وهو ضد الراكب .

والضامر : قليل لحم البطن . يقال : ضمر ضمُوراً فهو ضامر ، وناقة ضامر أيضاً . والضمور من محاسن الرواحل والخيللِ لأنه يعينها على السير والحركة .

فالضامر هنا بمنزلة الاسم كأنه قال : وعلى كلّ راحلة .

وكلمة ( كُلّ ) من قوله { وعلى كل ضامر } مستعملة في الكثرة ، أي وعلى رواحل كثيرة . وكلمة ( كلّ ) أصلها الدلالة على استغراق جنس ما تضاف إليه ويكثر استعمالها في معنى كثير مما تضاف إليه كقوله تعالى : { وأوتيت من كل شيء } [ النمل : 23 ] أي من أكثر الأشياء التي يؤتاها أهل الملك ، وقول النابغة :

بها كلّ ذيّال وخنساء ترعوي *** إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد

أي : بها وحش كثير في رمال كثيرة .

وتكرر هذا الإطلاق ثلاث مرات في قول عنترة :

جادت عليه كلّ بِكْرٍ حُرة *** فتركْنَ كلّ قرارة كالدرهم

سَحاً وتسكاباً فكلّ عشيةٍ *** يجري عليها الماء لم يتصرم

وتقدم عند قوله تعالى : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } في [ سورة البقرة : 145 ] . ويأتي إن شاء الله في سورة النمل .

و { يأتين } يجوز أن يكون صفة ل { كل ضامر } لأن لفظ ( كل ) صيره في معنى الجمع . وإذ هو جمع لما لا يعقل فحقه التأنيث ، وإنما أسند الإتيان إلى الرواحل دون الناس فلم يقل : يأتون ، لأنّ الرواحل هي سبب إتيان الناس من بُعد لمن لا يستطيع السفر على رجليه .

ويجوز أن تُجعل جملة { يأتين } حالاً ثانية من ضمير الجمع في { يأتوك } لأنّ الحال الأولى تضمنت معنى التنويع والتصنيف ، فصار المعنى : يأتوك جماعات ، فلما تأوّل ذلك بمعنى الجماعات جرى عليهم الفعل بضمير التأنيث .

وهذا الوجه أظهر لأنه يتضمن زيادة التعجيب من تيسير الحج حتى على المشاة . وقد تشاهد في طريق الحج جماعات بين مكة والمدينة يمشون رجالاً بأولادهم وأزوادهم وكذلك يقطعون المسافات بين مكة وبلادهم .

والفجّ : الشقّ بين جبلين تسير فيه الركاب ، فغلب الفجّ على الطريق لأن أكثر الطرق المؤدية إلى مكة تُسلك بين الجبال .

والعميق : البعيد إلى أسفل لأن العمق البعد في القعر ، فأطلق على البعيد مطلقاً بطريقة المجاز المرسل ، أو هو استعارة بتشبيه مكة بمكان مرتفع والناس مصعدون إليه . وقد يطلق على السفر من موطن المسافر إلى مكان آخر إصعاد كما يطلق على الرجوع انحدار وهبوط ، فإسناد الإتيان إلى الرواحل تشريف لها بأن جعلها مشاركة للحجيج في الإتيان إلى البيت .