الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ} (27)

قوله : { وَأَذِّن } : قرأ العامَّةُ بتشديد الذال بمعنى نادِ . وقرأ الحسنُ وابن محيصن " آذِنْ " بالمدِّ والتخفيف بمعنى أعْلِمْ . ويُبْعِدُه قوله : { فِي النَّاسِ } إذ كان ينبغي أَنْ يتعدَّى بنفسِه . وقرآ أيضاً فيما نقله عنهما أبو الفتح " أَذِنَ " بالقصر وتخفيف الذال . وخرَّجها أبو الفتح وصاحب " اللوامح " على أنها عطفٌ على " بَوَّأنا " أي : واذكرْ/ إذ بَوَّأْنا وإذ أَذِنَ في الناس وهي تخريجٌ واضح . وزاد صاحب " اللوامح " فقال : " فيصيرُ في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ويصير " يأتوك " جزماً على جواب الأمر الذي في " وطهِّرْ " : ونَسَب ابنُ عطية أبا الفتح في هذه القراءةِ إلى التصحيفِ فقال بعد أن حكى قراءةَ الحسنِ وابن محيصنٍ " وآذِنْ " بالمَدِّ و " تَصَحَّفَ هذا على ابن جني فإنَّه حكى عنهما " وأَذِنَ " على فعلٍ ماضٍ . وأعربَ على ذلك بأَنْ جَعَلَه عطفاً على " بَوَّأْنا " .

قلت : ولم يَتَصَحَّفْ فِعْلُه ، بل حكى تلك القراءةَ أبو الفضل الرازي في " اللوامح " له عنهما ، وذكرها أيضاً ابنُ خالويه ، ولكنه لم يَطَّلِعْ عليها فنسَب مَنْ اطَّلع إلى التصحيفِ ولو تأنَّى أصاب أو كاد .

وقرأ ابنُ أبي إسحاقَ " بالحِجِّ " بكسرِ الحاء حيث وَقَع كما قَدَّمْتُه عنه .

قوله : { رِجَالاً } نصبٌ على الحالِ ، وهو جمعُ راجِل نحو : صاحِب وصِحاب وتاجِر وتِجار وقائِم وقِيام . وقرأ عكرمة والحسن وأبو مجلز " رُجَّالاً " بضمِّ الراء وتشديدِ الجيمِ . ورُوي عنهم تخفيفُها . وافقهم ابنُ أبي إسحاق على التخفيفِ وجعفر من محمد ومجاهدٌ على التشديد . ورُوِيَتْ عن ابن عباس بالألف . فالمخفف اسمُ جمعٍ كظُؤَار ، والمشدَّدُ جمعُ تكسيرٍ كصائم وصُوَّام . ورُوي عن عكرمةَ أيضاً " رُجَالى " كنُعامى بألف التأنيث ، وكذلك عن ابنِ عباس وعطاء ، إلاَّ أنهما شدَّدا الجيمَ .

قوله : { وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } نسَقٌ على " رِجالاً " فيكون حالاً أي : مُشاةً وركباناً .

قوله : { يَأْتِينَ } النونُ ضميرُ " كلِّ ضامِرٍ " حَمْلاً على المعنى ؛ إذ المعنى : على ضوامرَ . و " يَأْتِيْنَ " صفةٌ ل " ضامِر " . وأتى بضميرِ الجمعِ حَمْلاً على المعنى . وكان قد تقرَّر أولَ هذا التصنيفِ أنَّ " كل " إذا أُضِيْفَتْ إلى نكرةٍ لم يُراعَ معناها ، إلاَّ في قليلٍ كقوله :

جادَتْ عليه كلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ *** فتركْنَ كلَّ حَديقةٍ كالدِّرْهَمِ

وهذه الآيةُ تَرُدُّه ؛ فإنَّ " كلاً " فيها مضافةٌ لنكرةٍ وقد روعي معناها . وكان بعضُهم أجاب عن بيتِ زهير بأنه إنما جاز ذلك لأنه في جملتين ، فقلت : فهذه الآيةُ جملةٌ واحدةٌ لأنَّ " يَأْتِيْنَ " صفةٌ ل " ضامِر " .

وجَوَّز الشيخ أَنْ يكونَ الضميرُ يَشْمَلُ رجالاً وكل ضامر قال : " على معنى الجماعات والرفاق " قلت : فعلى هذا يجوزُ أَنْ يقالَ عنده : الرجال يَأْتِيْنَ .

ولا ينفعُه كونُه اجتمع مع الرجال هنا كلُّ ضامر فيقال : جاز ذلك لَمَّا اجتمع معه ما يجوزُ فيه ذلك ؛ إذ يلزمُ منه تغليبُ غيرِ العاقلِ على العاقلِ ، وهو ممنوعٌ .

وقرأ ابن مسعود والضحاك وابنُ أبي عبلة " يَأْتُونَ " تغليباً للعقلاءِ الذكورِ ، وعلى هذا فيحتمل أَنْ يكونَ قولُه : { وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } حالاً أيضاً . ويكون " يَأْتُون " مستأنفاً يتعلَّقُ به { مِن كُلِّ فَجٍّ } أي : يَأْتُوك رِجالاً وركباناً ثم قال : يأتون من كلِّ فَج ، وأَنْ يتعلَّقَ بقوله : " يَأْتُون " أي : يأتون على كلِّ ضامرٍ من كلِّ فَج ، و " يَأْتُون " مستأنفٌ أيضاً . ولا يجوز أن يكونَ صفةً ل " رجالاً " ول " ضامِر " لاختلافِ الموصوفِ في الإِعرابِ ؛ لأنَّ أحدَهما منصوبٌ والآخَرَ مجرورٌ . لو قلت " رأيتُ زيداً ومررت بعمرٍو العاقِلَيْن " على النعتِ لم يَجُزْ ، بل على القطعِ . وقد جَوَّزَ ذلك الزمخشري فقال : " وقرىء " يِأْتُون " صفةً للرجال والركبان " وهو مردودٌ بما ذكرتُه .

والضَّامِرُ : المَهْزولِ ، يقال : . . . . والعميق : البعيدُ سُفلاً . يقال : بئر عَميق ومَعِيق ، فيجوز أن يكون مقلوباً ، لأنه أَقَلُّ من الأول قال :

إذا الخيلُ جاءت مِنْ فِجاجٍ عميقةٍ *** يَمُدُّ بها في السيرِ أشعثُ شاحِبُ

يقال : عَمِقَ وعَمُقَ بكسر العين وضَمِّها عَمْقاً بفتح الفاء . قال الليث : عَميق ومَعِيق ، والعَميق في الطريق أكثرُ " . وقال الفراء : " عميق " لغةُ الحجازِ ، و " مَعِيْق " لغةُ تميم " . وأَعْمَقْتُ البئرَ وأَمْعَقْتُها ، وعَمُقَتْ ومَعُقَتْ عَماقَةً ومَعَاقة وإعْماقاً وإمْعاقاً . قال رؤبة :

وقاتمِ الأعماقِ خاوي المُخْتَرَقْ ***

الأعماقُ هنا بفتح الهمزة جمع عُمْق ، وعلى هذا فلا قلبَ في مَعِيق لأنها لغة مستقلة ، وهو ظاهرُ قولِ الليث أيضاً . وقرأ ابن مسعود " فج مَعِيق " بتقديم الميم . ويقال : غَمِيق بالغين المعجمةِ أيضاً .