قوله تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } . قيل : أراد به العرب لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وله فيهم نسب إلا بني تغلب دليله ، قوله تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم ) . وقال الآخرون : أراد به جميع المؤمنين ، ومعنى قوله تعالى ( من أنفسهم ) أي بالإيمان والشفقة لا بالنسب ، دليله قوله تعالى ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) .
قوله تعالى : { يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا } . وقد كانوا .
ثم يختم الفقرة بالرجوع إلى محورها الأصيل : شخص الرسول [ ص ] ورسالته وعظم المنة بها على المؤمنين .
( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) . .
إن ختام هذه الفقرة بهذه الحقيقة الكبيرة . حقيقة الرسول [ ص ] وقيمتها الذاتية ، وعظم المنة الإلهية بها ، ودورها في إنشاء هذه الأمة وتعليمها وتربيتها وقيادتها ، ونقلها من الضلال المبين إلى العلم والحكمة والطهارة . . إن هذا الختام يتضمن لمسات قرآنية كثيرة منوعة عميقة :
إنها تجيء ابتداء تعقيبا على الغنائم والطمع فيها والغلول ، والانشغال بهذا الأمر الصغير ، الذي كان الإنشغال به هو السبب المباشر الذي قلب الموقف في المعركة ، وبدل النصر هزيمة ، وفعل بالمسلمين الأفاعيل . فالإشارة إلى حقيقة الرسالة الكبيرة ، والمنة العظيمة المتمثلة فيها ، لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية الفريدة . تبدو في ظلها غنائم الأرض كلها ، وأسلاب الأرض كلها ، وإعراض الأرض كلها ، شيئا تافها زهيدا ، لا يذكر ولا يقدر . شيئا تخجل النفس المؤمنة أن تذكره ، بل تستحي أن تفكر فيه ! فضلا عن أن تشغل به !
وهي تجيء في سياق الحديث عن الهزيمة والقرح والألم والخسارة التي أصابت الجماعة المسلمة في المعركة . . فالإشارة إلى تلك الحقيقة الكبيرة ، وما تمثله من منة عظيمة ، لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية العجيبة ، تصغر في ظلها الآلام والخسائر ، وتصغر إلى جانبها الجراح والتضحيات . على حين تعظم المنة ، ويتجلى العطاء الذي يرجح كل شيء في حياة الأمة المسلمة على الإطلاق .
ثم . . الإشارة إلى آثار هذه المنة في حياة الأمة المسلمة ( يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) . . وهي تشي بالنقلة من حال إلى حال ، ومن وضع إلى وضع ، ومن عهد إلى عهد . فتشعر الأمة المسلمة بما وراء هذه النقلة من قدر الله الذي يريد بهذه الأمة أمرا ضخما في تاريخ الأرض ، وفي حياة البشر ، والذي يعدها لهذا الأمر الضخم بإرسال الرسول [ ص ] فما ينبغي لأمة هذا شأنها ، أن تشغل بالها بالغنائم التي تبدو تافهة زهيدة في ظل هذا الهدف الضخم ، ولا أن تجزع من التضحيات والآلام ، التي تبدو هينة يسيرة في ظل هذه الغاية الكبيرة . .
هذه بعض اللمسات المستفادة من ذكر هذه المنة في هذا السياق . نذكرها باختصار وإجمال ، لنواجه النص القرآني الحافل بالإيحاءات والظلال :
( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) . .
إنها المنة العظمى أن يبعث الله فيهم رسولا ، وأن يكون هذا الرسول ( من أنفسهم ) . . إن العناية من الله الجليل ، بإرسال رسول من عنده إلى بعض خلقه ، هي المنة التي لا تنبثق إلا من فيض الكرم الإلهي . المنة الخالصة التي لا يقابلها شيء من جانب البشر . وإلا فمن هم هؤلاء الناس ، ومن هم هؤلاء الخلق ، حتى يذكرهم الله هذا الذكر ، ويعنى بهم هذه العناية ؟ ويبلغ من حفاوة الله بهم ، أن يرسل لهم رسولا من عنده ، يحدثهم بآياته - سبحانه - وكلماته ، لولا أن كرم الله يفيض بلا حساب ، ويغمر خلائقه بلا سبب منهم ولا مقابل ؟
وتتضاعف المنة بأن يكون هذا الرسول " من أنفسهم " . . لم يقل " منهم " فإن للتعبير القرآني " من أنفسهم " ظلالا عميقة الإيحاء والدلالة . . إن الصلة بين المؤمنين والرسول هي صلة النفس بالنفس ، لا صلة الفرد بالجنس .
فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى . إنما هي أعمق من ذلك وأرقى . ثم إنهم بالإيمان يرتفعون إلى هذه الصلة بالرسول ، ويصلون إلى هذا الأفق من الكرامة على الله . فهو منة على المؤمنين . . فالمنة مضاعفة ، ممثلة في إرسال الرسول ، وفي وصل أنفسهم بنفس الرسول ، ونفس الرسول بأنفسهم على هذا النحو الحبيب .
ثم تتجلى هذه المنة العلوية في آثارها العملية . . في نفوسهم وحياتهم وتاريخهم الإنساني :
( يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ) . .
تتجلى هذه المنة في أكبر مجاليها . في تكريم الله لهم . بإرسال رسول من عنده يخاطبهم بكلام الله الجليل :
ولو تأمل الإنسان هذه المنة وحدها لراعته وهزته حتى ما يتمالك أن ينصب قامته أمام الله ، حتى وهو يقف أمامه للشكر والصلاة !
ولو تأمل أن الله الجليل - سبحانه - يتكرم عليه ، فيخاطبه بكلماته . يخاطبه ليحدثه عن ذاته الجليلة وصفاته ؛ وليعرفه بحقيقة الألوهية وخصائصها . ثم يخاطبه ليحدثه عن شأنه هو - هو الإنسان - هو العبد الصغير الضئيل - وعن حياته ، وعن خوالجه ، وعن حركاته وسكناته . يخاطبه ليدعوه إلى ما يحييه ، وليرشده إلى ما يصلح قلبه وحاله ، ويهتف به إلى جنة عرضها السماوات والأرض .
فهل هو إلا الكرم الفائض الذي يجري بهذه المنة ، وهذا التفضل ، وهذا العطاء ؟
إن الله الجليل غني عن العالمين . وإن الإنسان الضئيل لهو الفقير المحووج . . ولكن الجليل هو الذي يحفل هذا الضئيل ، ويتلمسه بعنايته ، ويتابعه بدعوته ! والغني هو الذي يخاطب الفقير ويدعوه ويكرر دعوته ! فيا للكرم ! ويا للمنة ! ويا للفضل والعطاء الذي لا كفاء له من الشكر والوفاء !
يطهرهم ويرفعهم وينقيهم . يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم . ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم . ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم . . يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة ، وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته . . ويطهرم من دنس الحياة الجاهلية ، وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم .
وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها ، وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها .
من أرجاسها هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب وهو يحدث نجاشي الحبشة في مواجهة رسولي قريش إليه ، وقد جاءا إليه ليسلمهما المهاجرين من المسلمين عنده . . يقول جعفر :
" أيها الملك . كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف . . فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء . ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام . .
ومن أرجاسها ما حكته عائشة - رضي الله عنها - وهي تصور أنواع الاتصال بين الجنسين في الجاهلية كما جاء في صحيح البخاري ، في هذه الصورة الهابطة الحيوانية المزرية :
" إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء . فنكاح منها نكاح الناس اليوم : يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته ، فيصدقها ، ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ! ويعتزلها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ! فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الرجل ! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة ، فيدخلون على المرأة ، كلهم يصيبها . فإذا حملت ووضعت ، ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت . فهو إبنك يا فلان . تسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها . ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل ! والنكاح الرابع : يجتمع الناس الكثير ، فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا ، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما - فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها ، ودعوا لهم القافة ، ثم الحقوا ولدها بالذي يرون ، فالتاطه ، ودعي إبنه ، لا يمتنع من ذلك ! " . .
ودلالة هذه الصورة على هبوط التصور الإنساني وبهيميته لا تحتاج إلى تعليق . ويكفي تصور الرجل ، وهو يرسل امرأته إلى " فلان " لتأتي له منه بولد نجيب . تماما كما يرسل ناقته أو فرسه أو بهيمته إلى الفحل النجيب ، لتأتي له منه بنتاج جيد !
ويكفي تصور الرجال - ما دون العشرة ! - يدخلون إلى المرأة مجتمعين - " كلهم يصيبها ! " . . ثم تختار هي أحدهم لتلحق به ولدها !
أما البغاء - وهو الصورة الرابعة - فهو البغاء ! يزيد عليه إلحاق نتاجه برجل من البغاة ! لا يجد في ذلك معرة ! ولا يمتنع من ذلك !
إنه الوحل . الذي طهر الإسلام منه العرب . وزكاهم . وكانوا - لولا الإسلام - غارقين إلى الأذقان فيه !
ولم يكن هذا الوحل في العلاقات الجنسية إلا طرفا من النظرة الهابطة إلى المرأة في الجاهلية . يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم : " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " :
" وكانت المرأة في المجتمع الجالهي عرضة غبن وحيف ، تؤكل حقوقها ، وتبتز أموالها ، وتحرم من إرثها ، وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجا ترضاه وتورث كما يورث المتاع أو الدابة عن ابن عباس قال : " كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه ، فهو أحق بامرأته ، إن شاء أمسكها أو يحبسها حتىتفتدى بصداقها ، أو تموت فيذهب بمالها " . . وقال عطاء بن رباح . . " إن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل ، فترك امرأة حبسها أهله على الصبي يكون فيهم " . . وقال السدي : إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو إبنه ، فإذا مات وترك امرأته ، فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه ، أو ينكحها فيأخذ مهرها . وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهي أحق بنفسها " . وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل ، فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها ، يؤخذ مما تؤتي من مهر ، وتمسك ضرارا للاعتداء . وتلاقي من بعلها نشوزا أو إعراضا ، وتترك في بعض الأحيان كالمعلقة . ومن المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث . وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من غير تحديد .
" وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد . ذكر الهيثم بن عدي - على ما حكاه عنه الميداني - أن الوأد كان مستعملا في قبائل العرب قاطبة ، فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة . فجاء الإسلام ، وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد . فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن . ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء . أو شيماء [ سوداء ] أو برشاء [ برصاء ] أو كسحاء [ عرجاء ] تشاؤما منهم بهذه الصفات . ومنهم كان يقتل أولاده خشية الإنفاق ، وخوف الفقر . .
" وكانوا يقتلون البنات ويئدونهن بقسوة نادرة في بعض الأحيان ، فقد يتأخر وأد الموءودة لسفر الوالد وشغله ، فلا يئدها إلا وقد كبرت ، وصارت تعقل . وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات . وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق " . .
ومن أرجاسها - وأصل هذه الأرجاس جميعا - الشرك والوثنية الهابطة الساذجة : كما يصورها في إجمال الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه :
" انغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها . فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة ، صنم خاص ، بل كان لكل بيت صنم خصوصي . قال الكلبي : كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه ، فإذا أراد أحدهم السفر ، كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به ، وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضا " . واستهترت العرب في عبادة الأصنام ، فمنهم من اتخذ بيتا ، ومنهم من اتخذ صنما ؛ ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجرا أمام الحرم ، وامام غيره مما استحسن ، ثم طاف به كطوافه بالبيت ، وسموها الأنصاب . وكان في جوف الكعبة - البيت الذي بني لعبادة الله وحده - وفي فنائها ثلاثمائة وستون صنما . وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة جنس الحجارة . روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي ، قال : كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجرا هو خيرا منه القيناه وأخذنا الآخر ؛ فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب ، ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به . وقال الكلبي : كان الرجل إذا سافر فنزل منزلا ، أخذ أربعة أحجار ، فنظر إلى أحسنها ، فاتخذه ربا ، وجعل ثلاث أثافي لقدره ، وإذاارتحل تركه .
" وكان للعرب - شأن كل أمة مشركة في كل زمان ومكان - آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب . فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله ، ويعبدونهم ، ويتوسلون بهم عند الله . واتخذوا كذلك معه الجن شركاء لله ، وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم ، وعبدوهم . قال الكلبي : كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن . وقال صاعد : كانت حمير تعبد الشمس . وكنانة القمر . وتميم الدبران . ولخم وجذام المشتري . وطي سهيلا . وقيس الشعري العبور . وأسد عطاردا " .
ويكفي أن يتصفح الإنسان هذه الصورة البدائية الغليظة من الوثنية ، ليعرف أي رجس كانت تنشره في القلوب والتصورات وفي واقع الحياة ! ويدرك النقلة الضخمة التي نقلها الإسلام للقوم ، والطهارة التي أسبغها على تصوراتهم وعلى حياتهم سواء . ومن هذه الأرجاس تلك الأدواء الخلقية والاجتماعية ، التي كانت في الوقت ذاته من مفاخرهم في أشعارهم ! ومن مفاخراتهم في أسواقهم ! من الخمر إلى القمار إلى الثارات القبلية الصغيرة ، التي تشغل اهتماماتهم ، فلا ترتفع على تلك التصورات المحلية المحدودة :
" هانت عليهم الحرب وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر . فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب إبني وائل ، ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة ، وما ذاك إلا أن كليبا رئيس معد ، رمى ضرع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها ؛ وقتل جساس بن مرة كليبا ، واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب . وكانت كما قال المهلهل أخو كليب : " قد فني الحياة ، وثكلت الأمهات ، ويتم الأولاد . دموع لا ترقأ ، وأجساد لا تدفن " .
" وكذلك حرب داحس والغبراء . فما كان سببها إلا أن داحسا فرس قيس بن زهير ، كان سابقا في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر ، فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة ، فلطم وجهه وشغله ، ففاتته الخيل . وتلا ذلك قتل ، ثم أخذ بالثأر . ونصر القبائل لأبنائها ، وأسر ، ونزح للقبائل ، وقتل في ذلك ألوف من الناس " .
وكان ذلك علامة فراغ الحياة من الاهتمامات الكبيرة ، التي تشغلهم عن تفريغ الطاقة في هذه الملابسات الصغيرة . إذ لم تكن لهم رسالة للحياة ، ولا فكرة للبشرية ، ولا دور للإنسانية ، يشغلهم عن هذا السفساف . . ولم تكن هناك عقيدة تطهرهم من هذه الأرجاس الاجتماعية الذميمة . . وماذا يكون الناس من غير عقيدة إلهية ؟ ماذا تكون اهتماماتهم ؟ وماذا تكون تصوراتهم ؟ وماذا تكون أخلاقهم ؟
إن الجاهلية هي الجاهلية . ولكل جاهلية أرجاسها وأدناسها . لا يهم موقعها من الزمان والمكان . فحيثما خلت قلوب الناس من عقيدة إلهية تحكم تصوراتهم ، ومن شريعة - منبثقة من هذه العقيدة - تحكم حياتهم ، فلن تكون إلا الجاهلية في صورة من صورها الكثيرة . . والجاهلية التي تتمرغ البشرية اليوم في وحلها ، لا تختلف في طبيعتها عن تلك الجاهلية العربية أو غيرها من الجاهليات التي عاصرتها في أنحاء الأرض ، حتى أنقذها منها الإسلام وطهرها وزكاها .
إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير ! ونظرة إلى صحافتها وأفلامها ومعارض أزيائها . ومسابقات جمالها ، ومراقصها ، وحاناتها . وإذاعاتها . ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري ، والأوضاع المثيرة ، والإيحاءات المريضة ، في الأدب والفن واجهزة الإعلام كلها . . إلى جانب نظامها الربوي ، وما يكمن وراءه من سعار للمال ، ووسائل خسيسة لجمعه وتثميره ، وعمليات نصب واحتيال وابتزاز تلبس ثوب القانون . . وإلى جانب التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي ، الذي أصبح يهدد كل نفس وكل بيت ، وكل نظام ، وكل تجمع إنساني . . نظرة إلى هذا كله تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية في ظل هذه الجاهلية .
إن البشرية تتآكل إنسانيتها ، وتتحلل آدميتها ، وهي تلهث وراء الحيوان ، ومثيرات الحيوان ، لتلحق بعالمه الهابط ! والحيوان أنظف وأشرف وأطهر . لأنه محكوم بفطرة حازمة لا تتميع ، ولا تأسن كما تأسن شهوات الإنسان حين ينفلت من رباط العقيدة ، ومن نظام العقيدة ، ويرتد إلى الجاهلية التي أنقذه الله منها ، والتي يمتن الله على عباده المؤمنين بتطهيرهم منها في تلك الآية الكريمة :
( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) . .
وكان المخاطبون بهذه الآية أميين جهالا . أمية القلم ، وأمية العقل سواء . وما كان لهم من المعرفة شيء ذو قيمة بالمقاييس العالمية للمعرفة ، في أي باب من الأبواب . وما كان لهم في حياتهم من هموم كبيرة تنشىء معرفة ذات قيمة عالمية في أي باب من الأبواب . فإذا هذه الرسالة تحيلهم أساتذة الدنيا ، وحكماء العالم ، وأصحاب المنهج العقيدي والفكري والاجتماعي والتنظيمي ، الذي ينقذ البشرية كلها من جاهليتها في ذلك الزمان . والذي يرتقب دوره في الجولة القادمة - بإذن الله - لإنقاذ البشرية مرة أخرى من جاهليتها الحديثة ، التي تتمثل فيها كل خصائص الجاهلية القديمة ؛ من النواحي الأخلاقية والاجتماعية ؛ وتصور أهداف الحياة الإنسانية وغاياتها كذلك ! على الرغم من فتوحات العلم المادي والإنتاج الصناعي ، والرخاء الحضاري !
( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) .
ضلال في التصور والاعتقاد ، وضلال في مفهومات الحياة ، وضلال في الغاية والاتجاه ، وضلال في العادات والسلوك ، وضلال في الأنظمة والأوضاع ، وضلال في المجتمع والأخلاق . .
والعرب الذين كانوا يخاطبون بهذه الآية كانوا يذكرون - ولا شك - ماضي حياتهم وأوضاعهم ، ويعرفون طبيعة النقلة التي نقلهم إليها الإسلام ، وما كانوا ببالغيها بغير الإسلام ؛ وهي نقلة غير معهودة في تاريخ بني الإنسان .
كانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي نقلهم من طور القبيلة ، واهتمامات القبيلة ، وثارات القبيلة ، لا ليكونوا أمة فحسب . ولكن ليكونوا - على حين فجأة ومن غير تمهيد يتدخل فيه الزمن - أمة تقود البشرية ، وترسم لها مثلها ، ومناهج حياتها ، وأنظمتها كذلك ، في صورة غير معهودة في تاريخ البشرية الطويل .
كانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي منحهم وجودهم القومي ، ووجودهم السياسي ووجودهم الدولي . . وقبل كل شيء وأهم من كل شيء . . وجودهم الإنساني ، الذي يرفع إنسانيتهم ، ويكرمآدميتهم ، ويقيم نظام حياتهم كله على أساس هذا التكريم ، الذي جاءهم هدية ومنه من لدن ربهم الكريم . والذي أفاضوه هم على البشرية كلها بعد ذلك ، وعلموها كيف تحترم " الإنسان " وتكرمه بتكريم الله . غير مسبوقين في هذا ، لا في الجزيرة العربية ، ولا في أي مكان . . وفي اللفتة السابقة إلى " الشورى " طرف من هذا المنهج الإلهي ، الذي كانوا يدركون فيه عظم المنة عليهم من الله .
وكانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي جعل لهم رسالة يقدمونها للعامل ، ونظرية للحياة البشرية ، ومذهبا مميزا للحياة الإنسانية . . والأمة لا توجد في الحقل الإنساني الكبير إلا برسالة ونظرية ومذهب ، تقدمه للبشرية ، لتدفع بالبشرية إلى الإمام .
وقد كان الإسلام ، وتصوره للوجود ، ورأيه في الحياة ، وشريعته للمجتمع ، وتنظيمه للحياة البشرية ، ومنهجه المثالي الواقعي الإيجابي لإقامة نظام يسعد في ظله " الإنسان " . . كان الإسلام بخصائصه هذه هو " بطاقة الشخصية " التي تقدم بها العرب للعالم ، فعرفهم ، واحترمهم ، وسلمهم القيادة .
وهم اليوم وغدا لا يحملون إلا هذه البطاقة . ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم . وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم ؛ وإما أن ينبذوها فيعودوا هملا - كما كانوا - لا يعرفهم أحد ، ولا يعترف بهم أحد !
وما الذي يقدمونه للبشرية حين لا يتقدمون إليها بهذه الرسالة ؟
يقدمون لها عبقريات في الآداب والفنون والعلوم ؟ لقد سبقتهم شعوب الأرض في هذه الحقول . والبشرية تغص بالعبقريات في هذه الحقول الفرعية للحياة . وليست في حاجة ولا في انتظار إلى عبقريات من هناك في هذه الحقول الفرعية للحياة !
يقدمون لها عبقريات في الإنتاج الصناعي المتفوق ، تنحني له الجباه ، ويغرقون به أسواقها ، ويغطون به على ما عندها من انتاج ؟ ؟ لقد سبقتهم شعوب كثيرة ، في يدها عجلة القيادة في هذا المضمار !
يقدمون لها فلسفة مذهبية اجتماعية ، ومناهج اقتصادية وتنظيمية من صنع أيديهم ، ومن وحي أفكارهم البشرية ؟ إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية . وتشقى بها جميعا غاية الشقاء !
ماذا إذن يقدمون للبشرية لتعرفهم به ، وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز ؟
لا شيء إلا هذه الرسالة الكبيرة . لا شيء إلا هذا المنهج الفريد . لا شيء إلا هذه المنة التي اختارهم الله لها ، وأكرمهم بها ، وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم . والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها ، وهي تتردى في هاوية الشقاء والحيرة والقلق والإفلاس !
إنها - وحدها - بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديما للبشرية ، فأحنت لها هامتها . والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم ، فيكون فيها الخلاص والإنقاذ .
إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة . وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة . وهي التي تقدم أكبر منهج . وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة .
والعرب يملكون هذه الرسالة - وهم فيها أصلاء ، وغيرهم من الشعوب هم شركاء - فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم ؟ أي شيطان ؟ !
لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة . وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان . . وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان !
وقوله : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي : من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به ، كما قال تَعالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ{[6098]} لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا } [ الروم : 21 ] أي : من جنسكم . وقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [ الكهف : 110 ] وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } [ الفرقان : 20 ] وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] وقال تعالى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } [ الأنعام : 130 ] فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسل إليهم منهم ، بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فَهْم الكلام عنه ، ولهذا قال : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } يعني : القرآن { وَيُزَكِّيهِمْ } أي : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكُوَ نفوسهم وتطهر من الدَّنَسِ والخَبَث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم{[6099]} { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } يعني : القرآن والسنة { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل هذا الرسول { لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : لفي غَي وجهل ظاهر جليّ بين لكُل أحد .
{ لقد من الله على المؤمنين } أنعم على من آمن مع الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه وتخصيصهم مع أن نعمة البعثة عامة لزيادة انتفاعهم بها . وقرئ " لمن من الله " على أنه خبر مبتدأ محذوف مثل منه أو بعثه . { إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } من نسبهم ، أو من جنسهم عربيا مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على حاله في الصدق والأمانة مفتخرين به . وقرئ من { أنفسهم } أي من أشرفهم لأنه عليه السلام كان من أشرف قبائل العرب وبطونهم . { يتلو عليهم آياته } أي القرآن بعدما كانوا جهالا لم يسمعوا الوحي . { ويزكيهم } يطهرهم من دنس الطباع وسوء الاعتقاد والأعمال . { ويعلمهم الكتاب والحكمة } أي القرآن والسنة . { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } إن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والمعنى وإن الشأن كانوا من قبل بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم في ضلال ظاهر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته}، يعني القرآن، {ويزكيهم}، يعني ويصلحهم، {ويعلمهم الكتاب}، يعني القرآن {والحكمة}، يعني المواعظ التي في القرآن من الحلال والحرام والسنة، {وإن كانوا من قبل} أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم {لفي ضلال مبين}، يعني بيّن...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك: لقد تطوّل الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولاً، حين أرسل فيهم رسولاً من أنفسهم، نبيا من أهل لسانهم، ولم يجعله من غير أهل لسانهم فلا يفقهوا عنه ما يقول {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} يقول: يقرأ عليهم آي كتابه وتنزيله. {ويزكّيهم} يعني: يطهرهم من ذنوبهم باتباعهم إياه، وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم {وَيُعَلّمُهُمُ الكِتَابَ والحِكْمَةَ} يعني: ويعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه، ويبين لهم تأويله ومعانيه، "والحكمة "ويعني بالحكمة: السنة التي سنها الله جلّ ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه لهم {وَإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} يعني: إن كانوا من قبل أن يمنّ الله عليهم بإرساله رسوله الذي هذه صفته، لفي ضلال مبين، يقول: في جهالة جهلاء، وفي حيرة عن الهدى عمياء، لا يعرفون حقا، ولا يبطلون باطلاً. وقد بينا أصل الضلالة فيما مضى، وأنه الأخذ على غير هدى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع والمبين: الذي يبين لمن تأمله بعقله وتدبره بفهمه أنه على غير استقامة ولا هدى. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل... عن ابن إسحاق، قال: {لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلى المُؤمِنينَ} إلى قوله {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}: أي لقد منّ اللّهُ عليكم يا أهل الإيمان إذ بعث فيكم رسولاً من أنفسكم، يتلو عليكم آياته، ويزكيكم فيما أخذتم، وفيما علمتم، ويعلمكم الخير والشرّ، لتعرفوا الخير فتعملوا به، والشرّ فتتقوه، ويخبركم برضاه عنكم إذ أطعتموه، لتستكثروا من طاعته، وتجتنبوا ما سخط منكم من معصيته، فتتخلصوا بذلك من نقمته، وتدركوا بذلك ثوابه من جنته. {وَإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في عمياء من الجاهلية لا تعرفون حسنة، ولا تستغيثون من سيئة، صمّ عن الحقّ، عمي عن الهدى.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أجزل لديهم العارفة، وأحسن إليهم النعم حيث أرسل إليهم مثل المصطفى سيد الورى صلوات الله عليه وعلى آله، وعرَّفهم دينهم، وأوضح لهم براهينهم، وكان لهم بكل وجه فلا نِعَمَهُ شكروا، ولا حَقَّه وقَروا، ولا بما أرشدهم استبصروا، ولا عن ضلالتهم أقصروا.. هذا وصف أعدائه الذين جحدوا واستكبروا. وأمَّا المؤمنون فتقلدوا المِنَّة في الاختيار، وقابلوا الأمر بالسمع والطاعة عن كنه الاقتدار، فسَعِدُوا في الدنيا والعُقْبَى، واستوجبوا من الله الكرامة والزُّلفى...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وموضع المنة في بعثه من أنفسهم للعرب: أنه كان شرفا لهم، حيث بعث الرسول منهم، وأيضا فإن القرآن نزل بلسان العرب؛ إذ كان الرسول عربيا، وكان التعلم أسهل عليهم؛ لكونه أقرب إلى أفهامهم، فالمنة في السهولة عليهم، ولأنه لما نشأ فيهم، وعرفوا صدقة وأمانته، وكان أميا مثلهم ما كان يحسن الخط، ولا يعلم شيئا، ولا سافر، ثم أتى بكتاب يخبر عن القرون الماضية وقصص الأولين، ووافق الكتب المنزلة قبله، كان أقرب إلى قلوبهم، فكان يسهل طريق الإيمان عليهم. وقوله: (يتلو عليهم آياته ويزكيهم) أي: يشهد بتزكية سائر الأمم، ويجعلهم أزكياء، وقيل: يطهرهم من الذنوب (ويعلمهم الكتاب) يعني: القرآن (والحكمة)، قال ابن عباس: الفقه والشرائع، وقال غيره: الحكمة: السنة. (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) أي: ما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون بمبعثه {مّنْ أَنفُسِهِمْ} من جنسهم عربياً مثلهم...
الأول: أنه تعالى لما بين خطأ من نسبه إلى الغلول والخيانة أكد ذلك بهذه الآية، وذلك لأن هذا الرسول ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم، ولم يظهر منه طول عمره إلا الصدق والأمانة والدعوة إلى الله والإعراض عن الدنيا، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة.
الوجه الثاني: أنه لما بين خطأهم في نسبته إلى الخيانة والغلول قال: لا أقنع بذلك ولا أكتفي في حقه بأن أبين براءته عن الخيانة والغلول، ولكني أقول: إن وجوده فيكم من أعظم نعمتي عليكم فإنه يزكيكم عن الطريق الباطلة، ويعلمكم العلوم النافعة لكم في دنياكم وفي دينكم، فأي عاقل يخطر بباله أن ينسب مثل هذا الإنسان إلى الخيانة.
الوجه الثالث: كأنه تعالى يقول: إنه منكم ومن أهل بلدكم ومن أقاربكم، وأنتم أرباب الخمول والدناءة، فإذا شرفه الله تعالى وخصه بمزايا الفضل والإحسان من جميع العالمين، حصل لكم شرف عظيم بسبب كونه فيكم، فطعنكم فيه واجتهادكم في نسبة القبائح إليه على خلاف العقل. الوجه الرابع: أنه لما كان في الشرف والمنقبة بحيث يمن الله به على عباده وجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه، فوجب عليكم أن تحاربوا أعداءه وأن تكونوا معه باليد واللسان والسيف والسنان، والمقصود منه العود إلى ترغيب المسلمين في مجاهدة الكفار وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: للمن في كلام العرب معان: أحدها: الذي يسقط من السماء وهو قوله: {وأنزلنا عليكم المن والسلوى}
وثانيها: أن تمن بما أعطيت وهو قوله: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}
وثالثها: القطع وهو قوله: {لهم أجر غير ممنون} {وإن لك لأجرا غير ممنون} ورابعها: الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه، ومنه قوله: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك} وقوله: {ولا تمنن تستكثر} والمنان في صفة الله تعالى: المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا وقوله: {لقد من الله على المؤمنين} أي أنعم عليهم وأحسن إليهم ببعثه هذا الرسول.
المسألة الثانية: أن بعثة الرسول إحسان إلى كل العالمين، وذلك لأن وجه الإحسان في بعثته كونه داعيا لهم إلى ما يخلصهم من عقاب الله ويوصلهم إلى ثواب الله، وهذا عام في حق العالمين، لأنه مبعوث إلى كل العالمين، كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} إلا أنه لما لم ينتفع بهذا الإنعام إلا أهل الإسلام، فلهذا التأويل خص تعالى هذه المنة بالمؤمنين، ونظيره قوله تعالى: {هدى للمتقين} مع أنه هدى للكل، كما قال: {هدى للناس} وقوله: {إنما أنت منذر من يخشاها}.
المسألة الثالثة: اعلم أن بعثة الرسول إحسان من الله إلى الخلق ثم إنه لما كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الإنعام في بعثة الرسل أكثر، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت مشتملة على الأمرين: أحدهما: المنافع الحاصلة من أصل البعثة، والثاني: المنافع الحاصلة بسب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره. أما المنفعة بسبب أصل البعثة فهي التي ذكرها الله تعالى في قوله: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} قال أبو عبد الله الحليمي: وجه الانتفاع ببعثة الرسل ليس إلا في طريق الدين وهو من وجوه:
الأول: أن الخلق جبلوا على النقصان وقلة الفهم وعدم الدراية، فهو صلوات الله عليه أورد عليهم وجوه الدلائل ونقحها، وكلما خطر ببالهم شك أو شبهة أزالها وأجاب عنها.
والثاني: أن الخلق وإن كانوا يعلمون أنه لا بد لهم من خدمة مولاهم، ولكنهم ما كانوا عارفين بكيفية تلك الخدمة، فهو شرح تلك الكيفية لهم حتى يقدموا على الخدمة آمنين من الغلط ومن الإقدام على ما لا ينبغي.
والثالث: أن الخلق جبلوا على الكسل والغفلة والتواني والملالة فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات حتى إنه كلما عرض لهم كسل أو فتور نشطهم للطاعة ورغبهم فيها. الرابع: أن أنوار عقول الخلق تجري مجرى أنوار البصر، ومعلوم أن الانتفاع بنور البصر لا يكمل إلا عند سطوع نور الشمس، ونوره عقلي إلهي يجري مجرى طلوع الشمس، فيقوي العقول بنور عقله، ويظهر لهم من لوائح الغيب ما كان مستترا عنهم قبل ظهوره، فهذا إشارة حقيقية إلى فوائد أصل البعثة. وأما المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمد صلى الله عليه وسلم من الصفات، فأمور ذكرها الله تعالى في هذه الآية أولها قوله: {من أنفسهم}...
واعلم أن وجه الانتفاع بهذا من وجوه:...
[منها]: أنه بعد ادعاء النبوة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والأزواج ليترك هذه الدعوى فلم يلتفت إلى شيء من ذلك، بل قنع بالفقر وصبر على المشقة، ولما علا أمره وعظم شأنه وأخذ البلاد وعظمت الغنائم لم يغير طريقه في البعد عن الدنيا والدعوة إلى الله، والكاذب إنما يقدم على الكذب ليجد الدنيا، فإذا وجدها تمتع بها وتوسع فيها، فلما لم يفعل شيئا من ذلك علم أنه كان صادقا...
[ومنها] أن الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلا تقرير التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة وإثبات المعاد وشرح العبادات وتقرير الطاعات، ومعلوم أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، ولما كان كتابه ليس إلا في تقرير هذين الأمرين علم كل عاقل أنه صادق فيما يقوله...
[ومنها] أن قبل مجيئه كان دين العرب أرذل الأديان وهو عبادة الأوثان، وأخلاقهم أرذل الأخلاق وهو الغارة والنهب والقتل وأكل الأطعمة الرديئة. ثم لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم نقلهم الله ببركة مقدمة من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطيباتها. ولا شك أن فيه أعظم المنة. إذا عرفت هذه الوجوه فنقول: إن محمدا عليه الصلاة والسلام ولد فيهم ونشأ فيما بينهم وكانوا مشاهدين لهذه الأحوال، مطلعين على هذه الدلائل، فكان إيمانهم مع مشاهدة هذه الأحوال أسهل مما إذا لم يكونوا مطلعين على هذه الأحوال. فلهذه المعاني من الله عليهم بكونه مبعوثا منهم فقال: {إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} وفيه وجه آخر من المنة وذلك لأنه صار شرفا للعرب وفخر لهم، كما قال: {وإنه لذكر لك ولقومك} وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب. ثم إن اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل، فما كان للعرب ما يقابل ذلك، فلما بعث الله محمدا عليه السلام وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم، فهذا هو وجه الفائدة في قوله: {من أنفسهم}. ثم قال بعد ذلك: {يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}. واعلم أن كمال حال الإنسان في أمرين: في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وبعبارة أخرى: للنفس الإنسانية قوتان، نظرية وعملية، والله تعالى أنزل الكتاب على محمد عليه السلام ليكون سببا لتكميل الخلق في هاتين القوتين، فقوله: {يتلو عليهم ءاياته} إشارة إلى كونه مبلغا لذلك الوحي من عند الله إلى الخلق، وقوله: {ويزكيهم} إشارة إلى تكميل القوة النظرية بحصول المعارف الإلهية {والكتاب} إشارة إلى معرفة التأويل، وبعبارة أخرى {الكتاب} إشارة إلى ظواهر الشريعة {والحكمة} إشارة إلى محاسن الشريعة وأسرارها وعللها ومنافعها، ثم بين تعالى ما تتكمل به هذه النعمة. وهو أنهم كانوا من قبل في ضلال مبين، لأن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان توقعها أعظم، فإذا كان وجه النعمة العلم والإعلام، عقيب الجهل والذهاب عن الدين، كان أعظم ونظيره قوله: {ووجدك ضالا فهدى}.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر الفريقين: فريق الرضوان، وفريق السخط، وأنهم درجات عند الله مجملاً من غير تفصيل، فصَّل أحوالهم وبدأ بالمؤمنين، وذكر ما امتن عليهم به من بعث الرسول إليهم تالياً لآيات الله، ومبيناً لهم طريق الهدى، ومطهراً لهم من أرجاس الشرك، ومنقذاً لهم من غمرة الضلالة بعد أن كانوا فيها. وسلاهم عما أصابهم يوم أحد من الخذلان والقتل والجرح، لما أنالهم يوم بدر من الظفر والغنيمة. ثم فصَّل حال المنافقين الذين هم أهل السخط بما نص عليه تعالى. ومعنى مَن تطوّل وتفضل، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون ببعثه، والظاهر عمومه. فعلى هذا يكون معنى من أنفسهم من أهل ملتهم، كما قال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أرشدهم إلى هذه المراشد، وبين لهم بعض ما اشتملت عليه من الفوائد، وبان بهذه القصة قدر من أسدى إليهم ذلك على لسانه صلى الله عليه وسلم بما له من الفضائل التي من أعظمها كونه من جنسهم، يميل إليهم ويرحمهم ويعطف عليهم، فيألفونه فيعلمهم؛ نبه على ذلك سبحانه وتعالى ليستمسكوا بغرزه، ولا يلتفتوا لحظة عن لزوم هديه فقال سبحانه وتعالى -مؤكداً لما اقتضاه الحال من فعل يلزم منه النسبة إلى الغلول -: {لقد من الله} أي ذو الجلال والإكرام {على المؤمنين} خصهم لأنهم المجتبون لهذه النعمة {إذا بعث فيهم} أي فيما بينهم أو بسببهم {رسولاً} وزادهم رغبة فيه بقوله: {من أنفسهم} أي نوعاً وصنفاً، يعلمون أمانته و صيانته وشرفه ومعاليه وطهارته قبل النبوة وبعدها {يتلوا عليهم آياته} أي فيمحو ببركة نفس التلاوة كبيراً من شر الجان وغيرها مما ورد في منافع القرآن مما عرفناه، وما لم نعرفه أكثر {ويزكيهم} أي يطهرهم من أوزار الدنيا والأوزار بما يفهمه بفهمه الثاقب من دقائق الإشارات وبواطن العبارات، وقدم التزكية لاقتضاء مقام المعاتبة على الإقبال على الغنيمة ذلك، كما مضى في سورة البقرة {ويعلمهم الكتاب} أي تلاوة بكونه من نوعهم يلذ لهم التلقي منه {والحكمة} تفسيراً وإبانة وتحريراً {وإن} أي والحال أنهم {كانوا} ولما كانوا قد مرت لهم أزمان وهم على دين أبيهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام نبه على ذلك بإدخال الجار فقال {من قبل} أي من قبل ذلك {لفي ضلال مبين} أي ظاهر، وهو من شدة ظهوره كالذي ينادي على نفسه بإيضاح لبسه، وفي ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام علمهم من الحكمة في هذه الوقعة ما أوجب نصرتهم في أول النهار، فلما خالفوه حصل الخذلان.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} من عليهم غمرهم بالمنة وأثقلهم بالنعمة. قال الأستاذ الإمام: انتقل من نفي الغلول عن النبي عليه الصلاة والسلام ومن وصفه قبل ذلك بالرحمة واللين وأمره بالمشاورة إلى التفرقة بين الصحابة الذين عاملهم هذه المعاملة الذين اتبعوا رضوان الله وبين من باء بسخط من الله وتفاوت درجاتهم في ذلك وقالوا ما قالوا مما دل على جهلهم وكفرهم بحرمانهم من هدايته- ولعله يعني من كان مع أبي سفيان في أحد من الكافرين- ثم عاد إلى ذكر منته تعالى على المؤمنين ببعثه النبي صلى الله عليه وسلم فيم. وقد كان ما تقدم من وصفه صلى الله عليه وسلم بالرحمن واللين وأمره بتلك المعاملة الحسنى وتنزيهه عن الغلول تمهيدا لهذه المنة.
ثم وصفه بأوصاف أخرى أكد بها المنة: (أولها) أنه من أنفسهم أي من جنسهم أي العرب. ووجه هذه المنة الخاص، التي لا تنافي كونه صلى الله عليه وسلم رحمة عامة، هو أن كونه منهم يزيد في شرفهم ويجعلهم أول المهتدين به، لأنهم أسرع الناس فهما لدعوته، والنعمة العامة قد ذكرت في آيات أخرى كقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ويمكن أن يستدل على هذا التخصيص بالعرب دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم التي تقدمت في سورة البقرة (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك) [البقرة: 179] الخ الأوصاف المذكورة هنا.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بأنفسهم ههنا البشر لا العرب. أقول: وهذا القول ضعيف وإن وجب الإيمان بكون جميع الأنبياء من البشر. أما ضعفه فمن وجوه:
(أحدها) ان المراد بالمؤمنين في الآية من كانوا متصفين بالإيمان عند نزولها في عقب غزوة أحد وهم من العرب.
(ثانيها): موافقة دعوة أبوية إبراهيم وإسماعيل عليهم الصلاة والتسليم وإنما دعوا أن يكون النبي من ذريتهما وذرية إسماعيل هم العرب المستعربة كما هو مشهور.
(ثالثها): موافقة آية سورة الجمعة التي في معنى هذه الآية: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) [الجمعة: 2] والأميون هم العرب.
(رابعها وخامسها): ما يأتي قريبا في تفسير "ويعلمهم الكتاب "وما يأتي في تفسير وصفهم بالضلال المبين.
(سادسها): أن العرب هم الذين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه آيات الله وباشر بنفسه تزكيتهم وتعليمهم وهم الذين حملوا دعوته إلى غيرهم من الناس وقد نص العلماء على أن الإيمان بكون النبي صلى الله عليه وسلم من العرب شرط في صحة الإسلام والإيمان لا بد من تلقينه لكل من يدخل في كل هذا الدين، ومن جحده بعد العلم به يكون مرتدا عن الإسلام. ثم صار ينشر الدعوة كل قوم قبلوها واهتدوا بها فصح قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) [سبأ: 28] وقوله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء: 107]. الوصف الثاني قوله (يتلو عليهم آياته) قال الأستاذ الإمام: الآيات هي الآيات الكونية الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته وتلاوته عبارة عن تلاوة ما فيه بيانها، وتوجيه النفوس إلى الاستفادة منها والاعتبار بها، وهو القرآن كقوله عز وجل في أواخر هذه السورة: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) [آل عمران: 190] وقوله في سورة البقرة: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) [البقرة: 164] ومنها ما لم يذكر فيه كلمة "الآيات" كقوله تعالى: (والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها) [الشمس: 1-2] الخ. الوصف الثالث والرابع قوله تعالى: (ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة).
قال الأستاذ تزكيته إياهم في تطهيرهم من العقائد الزائغة ووساوس الوثنية وأدرانها والعقائد هي أساس الملكات ولذلك نقول إن العرب وغيرهم كانوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ملوثين في عقولهم ونفوسهم. أقول: قد سبق عنه في تفسير آية (البقرة: 129] أن المراد بالتزكية تربية النفوس وأنه صلى الله عليه وسلم كان مربيا ومعلما، وأراد بقوله إن العقائد أساس الملكات: إن من لم يتزك عقله ويتطهر من خرافات الوثنية وجميع العقائد الباطلة لا تتزكى نفسه بالتخلي عن الأخلاق الذميمة والتحلي بالملكات الفاضلة، فإن الوثني من يعتقد أن وراء الأسباب الطبيعية التي ارتبطت بها المسببات منافع ترجى ومضار تخشى من بعض المخلوقات وأنه يجب تعظيم هذه المخلوقات والالتجاء إليها ليؤمن ضرها، وينال خيرها، ويتقرب بها إلى خالقها وأن من يعتقد هذا يكون دائما أسير الأوهام، وأخيذ الخرافات، يخاف في موضع الأمن ويرجو حيث يجب الحذر والخوف، وتتعدى قذارة عقله إلى نفسه فتفسد أخلاقها، وتدنس آدابها، فتزكية النفس لا تتم إلا بتزكية العقل ولا تتم تزكية العقل إلا بالتوحيد الخالص.
قال الأستاذ الإمام: أما تعليمهم الكتاب فمعناه أن هذا الدين الذي جاء به قد اضطرهم إلى تعلم الكتابة بالقلم وأخرجهم من الأمية لأنه دين حث على المدنية وسياسة الأمم. أقول: كان أول حاجتهم إلى تعلم الكتابة وجوب كتابة القرآن وقد اتخذ صلى الله عليه وسلم كتبة للوحي وكتبوا له كتبا دعا بها الملوك والرؤساء إلى الإسلام وكان يأمرهم بتعلم الكتابة. ثم كان ذلك يكثر فيهم على قدر نماء مدنيتهم وامتداد سلطتهم قال: وأما الحكمة فهي أسرار الأمور وفقه الأحكام وبيان المصلحة فيها والطريق إلى العمل بها ذلك الفقه الذي يبعث على العمل، أو هي العمل الذي يوصل إلى هذا الفقه في الأحكام. أو طرق الاستدلال ومعرفة الحقائق ببراهينها لأن هذه الطريقة هي طريقة القرآن. وسنته في العقائد وكذا في الآداب والعبادات وقد مرت الشواهد الكثيرة على ذلك وسيأتي ما هو أكثر وأغزر إن شاء الله تعالى. (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) أي وإنهم كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في ضلال بين واضح: وأي ضلال أبين من ضلال قوم مشركين يعبدون الأصنام ويتبعون الأوهام أميين لا يقرؤون ولا يكتبون فيعرفوا كنه ضلالتهم وحقيقة جهالتهم، فضلالهم أبين من ضلال أهل الكتاب، كما هو ظاهر لأولي الألباب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يختم الفقرة بالرجوع إلى محورها الأصيل: شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته وعظم المنة بها على المؤمنين. (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).. إن ختام هذه الفقرة بهذه الحقيقة الكبيرة. حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وقيمتها الذاتية، وعظم المنة الإلهية بها، ودورها في إنشاء هذه الأمة وتعليمها وتربيتها وقيادتها، ونقلها من الضلال المبين إلى العلم والحكمة والطهارة..
إن هذا الختام يتضمن لمسات قرآنية كثيرة منوعة عميقة: إنها تجيء ابتداء تعقيبا على الغنائم والطمع فيها والغلول، والانشغال بهذا الأمر الصغير، الذي كان الانشغال به هو السبب المباشر الذي قلب الموقف في المعركة، وبدل النصر هزيمة، وفعل بالمسلمين الأفاعيل. فالإشارة إلى حقيقة الرسالة الكبيرة، والمنة العظيمة المتمثلة فيها، لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية الفريدة. تبدو في ظلها غنائم الأرض كلها، وأسلاب الأرض كلها، وإعراض الأرض كلها، شيئا تافها زهيدا، لا يذكر ولا يقدر. شيئا تخجل النفس المؤمنة أن تذكره، بل تستحي أن تفكر فيه! فضلا عن أن تشغل به! وهي تجيء في سياق الحديث عن الهزيمة والقرح والألم والخسارة التي أصابت الجماعة المسلمة في المعركة..
فالإشارة إلى تلك الحقيقة الكبيرة، وما تمثله من منة عظيمة، لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية العجيبة، تصغر في ظلها الآلام والخسائر، وتصغر إلى جانبها الجراح والتضحيات. على حين تعظم المنة، ويتجلى العطاء الذي يرجح كل شيء في حياة الأمة المسلمة على الإطلاق. ثم.. الإشارة إلى آثار هذه المنة في حياة الأمة المسلمة (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).. وهي تشي بالنقلة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن عهد إلى عهد. فتشعر الأمة المسلمة بما وراء هذه النقلة من قدر الله الذي يريد بهذه الأمة أمرا ضخما في تاريخ الأرض، وفي حياة البشر، والذي يعدها لهذا الأمر الضخم بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فما ينبغي لأمة هذا شأنها، أن تشغل بالها بالغنائم التي تبدو تافهة زهيدة في ظل هذا الهدف الضخم، ولا أن تجزع من التضحيات والآلام، التي تبدو هينة يسيرة في ظل هذه الغاية الكبيرة..
هذه بعض اللمسات المستفادة من ذكر هذه المنة في هذا السياق. نذكرها باختصار وإجمال، لنواجه النص القرآني الحافل بالإيحاءات والظلال: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم).. إنها المنة العظمى أن يبعث الله فيهم رسولا، وأن يكون هذا الرسول (من أنفسهم).. إن العناية من الله الجليل، بإرسال رسول من عنده إلى بعض خلقه، هي المنة التي لا تنبثق إلا من فيض الكرم الإلهي. المنة الخالصة التي لا يقابلها شيء من جانب البشر. وإلا فمن هم هؤلاء الناس، ومن هم هؤلاء الخلق، حتى يذكرهم الله هذا الذكر، ويعنى بهم هذه العناية؟ ويبلغ من حفاوة الله بهم، أن يرسل لهم رسولا من عنده، يحدثهم بآياته -سبحانه- وكلماته، لولا أن كرم الله يفيض بلا حساب، ويغمر خلائقه بلا سبب منهم ولا مقابل؟ وتتضاعف المنة بأن يكون هذا الرسول "من أنفسهم".. لم يقل "منهم "فإن للتعبير القرآني "من أنفسهم "ظلالا عميقة الإيحاء والدلالة..
إن الصلة بين المؤمنين والرسول هي صلة النفس بالنفس، لا صلة الفرد بالجنس. فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى. إنما هي أعمق من ذلك وأرقى. ثم إنهم بالإيمان يرتفعون إلى هذه الصلة بالرسول، ويصلون إلى هذا الأفق من الكرامة على الله. فهو منة على المؤمنين.. فالمنة مضاعفة، ممثلة في إرسال الرسول، وفي وصل أنفسهم بنفس الرسول، ونفس الرسول بأنفسهم على هذا النحو الحبيب. ثم تتجلى هذه المنة العلوية في آثارها العملية.. في نفوسهم وحياتهم وتاريخهم الإنساني: (يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة).. تتجلى هذه المنة في أكبر مجاليها. في تكريم الله لهم. بإرسال رسول من عنده يخاطبهم بكلام الله الجليل: يتلو عليهم آياته.. ولو تأمل الإنسان هذه المنة وحدها لراعته وهزته حتى ما يتمالك أن ينصب قامته أمام الله، حتى وهو يقف أمامه للشكر والصلاة! ولو تأمل أن الله الجليل -سبحانه- يتكرم عليه، فيخاطبه بكلماته. يخاطبه ليحدثه عن ذاته الجليلة وصفاته؛ وليعرفه بحقيقة الألوهية وخصائصها. ثم يخاطبه ليحدثه عن شأنه هو -هو الإنسان- هو العبد الصغير الضئيل -وعن حياته، وعن خوالجه، وعن حركاته وسكناته. يخاطبه ليدعوه إلى ما يحييه، وليرشده إلى ما يصلح قلبه وحاله، ويهتف به إلى جنة عرضها السماوات والأرض. فهل هو إلا الكرم الفائض الذي يجري بهذه المنة، وهذا التفضل، وهذا العطاء؟ إن الله الجليل غني عن العالمين. وإن الإنسان الضئيل لهو الفقير المحووج.. ولكن الجليل هو الذي يحفل هذا الضئيل، ويتلمسه بعنايته، ويتابعه بدعوته! والغني هو الذي يخاطب الفقير ويدعوه ويكرر دعوته! فيا للكرم! ويا للمنة! ويا للفضل والعطاء الذي لا كفاء له من الشكر والوفاء! (ويزكيهم).. يطهرهم ويرفعهم وينقيهم. يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم. ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم. ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم.. يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة، وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته.. ويطهر هم من دنس الحياة الجاهلية، وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم. وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها، وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها. من أرجاسها هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب وهو يحدث نجاشي الحبشة في مواجهة رسولي قريش إليه، وقد جاءا إليه ليسلمهما المهاجرين من المسلمين عنده.. يقول جعفر:"أيها الملك. كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام...
(ويعلمهم الكتاب والحكمة).. وكان المخاطبون بهذه الآية أميين جهالا. أمية القلم، وأمية العقل سواء. وما كان لهم من المعرفة شيء ذو قيمة بالمقاييس العالمية للمعرفة، في أي باب من الأبواب. وما كان لهم في حياتهم من هموم كبيرة تنشئ معرفة ذات قيمة عالمية في أي باب من الأبواب. فإذا هذه الرسالة تحيلهم أساتذة الدنيا، وحكماء العالم، وأصحاب المنهج العقيدي والفكري والاجتماعي والتنظيمي، الذي ينقذ البشرية كلها من جاهليتها في ذلك الزمان. والذي يرتقب دوره في الجولة القادمة- بإذن الله -لإنقاذ البشرية مرة أخرى من جاهليتها الحديثة، التي تتمثل فيها كل خصائص الجاهلية القديمة؛ من النواحي الأخلاقية والاجتماعية؛ وتصور أهداف الحياة الإنسانية وغاياتها كذلك! على الرغم من فتوحات العلم المادي والإنتاج الصناعي، والرخاء الحضاري!
(وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). ضلال في التصور والاعتقاد، وضلال في مفهومات الحياة، وضلال في الغاية والاتجاه، وضلال في العادات والسلوك، وضلال في الأنظمة والأوضاع، وضلال في المجتمع والأخلاق.. والعرب الذين كانوا يخاطبون بهذه الآية كانوا يذكرون- ولا شك -ماضي حياتهم وأوضاعهم، ويعرفون طبيعة النقلة التي نقلهم إليها الإسلام، وما كانوا ببالغيها بغير الإسلام؛ وهي نقلة غير معهودة في تاريخ بني الإنسان. كانوا يدركون أن الإسلام- والإسلام وحده -هو الذي نقلهم من طور القبيلة، واهتمامات القبيلة، وثارات القبيلة، لا ليكونوا أمة فحسب. ولكن ليكونوا- على حين فجأة ومن غير تمهيد يتدخل فيه الزمن -أمة تقود البشرية، وترسم لها مثلها، ومناهج حياتها، وأنظمتها كذلك، في صورة غير معهودة في تاريخ البشرية الطويل. كانوا يدركون أن الإسلام- والإسلام وحده -هو الذي منحهم وجودهم القومي، ووجودهم السياسي ووجودهم الدولي.. وقبل كل شيء وأهم من كل شيء.. وجودهم الإنساني، الذي يرفع إنسانيتهم، ويكرم آدميتهم، ويقيم نظام حياتهم كله على أساس هذا التكريم، الذي جاءهم هدية ومنه من لدن ربهم الكريم. والذي أفاضوه هم على البشرية كلها بعد ذلك، وعلموها كيف تحترم "الإنسان" وتكرمه بتكريم الله. غير مسبوقين في هذا، لا في الجزيرة العربية، ولا في أي مكان.. وفي اللفتة السابقة إلى "الشورى" طرف من هذا المنهج الإلهي، الذي كانوا يدركون فيه عظم المنة عليهم من الله. وكانوا يدركون أن الإسلام- والإسلام وحده -هو الذي جعل لهم رسالة يقدمونها للعامل، ونظرية للحياة البشرية، ومذهبا مميزا للحياة الإنسانية..
والأمة لا توجد في الحقل الإنساني الكبير إلا برسالة ونظرية ومذهب، تقدمه للبشرية، لتدفع بالبشرية إلى الإمام. وقد كان الإسلام، وتصوره للوجود، ورأيه في الحياة، وشريعته للمجتمع، وتنظيمه للحياة البشرية، ومنهجه المثالي الواقعي الإيجابي لإقامة نظام يسعد في ظله "الإنسان".. كان الإسلام بخصائصه هذه هو" بطاقة الشخصية "التي تقدم بها العرب للعالم، فعرفهم، واحترمهم، وسلمهم القيادة. وهم اليوم وغدا لا يحملون إلا هذه البطاقة. ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم. وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم؛ وإما أن ينبذوها فيعودوا هملا- كما كانوا -لا يعرفهم أحد، ولا يعترف بهم أحد! وما الذي يقدمونه للبشرية حين لا يتقدمون إليها بهذه الرسالة؟ يقدمون لها عبقريات في الآداب والفنون والعلوم؟ لقد سبقتهم شعوب الأرض في هذه الحقول. والبشرية تغص بالعبقريات في هذه الحقول الفرعية للحياة. وليست في حاجة ولا في انتظار إلى عبقريات من هناك في هذه الحقول الفرعية للحياة! يقدمون لها عبقريات في الإنتاج الصناعي المتفوق، تنحني له الجباه، ويغرقون به أسواقها، ويغطون به على ما عندها من انتاج؟؟ لقد سبقتهم شعوب كثيرة، في يدها عجلة القيادة في هذا المضمار! يقدمون لها فلسفة مذهبية اجتماعية، ومناهج اقتصادية وتنظيمية من صنع أيديهم، ومن وحي أفكارهم البشرية؟ إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية. وتشقى بها جميعا غاية الشقاء! ماذا إذن يقدمون للبشرية لتعرفهم به، وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز؟ لا شيء إلا هذه الرسالة الكبيرة. لا شيء إلا هذا المنهج الفريد. لا شيء إلا هذه المنة التي اختارهم الله لها، وأكرمهم بها، وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم. والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها، وهي تتردى في هاوية الشقاء والحيرة والقلق والإفلاس! إنها- وحدها -بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديما للبشرية، فأحنت لها هامتها. والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم، فيكون فيها الخلاص والإنقاذ.
إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة. وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة. وهي التي تقدم أكبر منهج. وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة. والعرب يملكون هذه الرسالة- وهم فيها أصلاء، وغيرهم من الشعوب هم شركاء -فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم؟ أي شيطان؟! لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة. وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان.. وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف لتذكير رِجال يومِ أُحُد وغيرهم من المؤمنين بنعمة الله عليهم. ومناسبةُ ذكره هنا أنّ فيه من التسلية على مصيبة الهزيمة حظّاً عظيماً، إذ قد شاع تصْبير المحزون وتعزيته بتذكيره ما هو فيه من النعم، وله مزيد ارتباط بقوله: {فبما رحمة من الله لنت لهم} [آل عمران: 159]، وكذلك جاءت آي هذا الغرض في قصة أُحُد ناشئاً بعضها عن بعض، متفنّنة في مواقعها بحسب ما سمحت به فرصُ الفراغ من غرض والشروع في غيره فما تجد طراد الكلام يغدو طَلْقاً في حلبة الاستطراد إلا وتجد له رواحاً إلى مُنْبَعثه. والمنّ هنا: إسداء المِنّة أي النِّعمة، وليس هو تعداد النعمة على المنعم عليه مثل الَّذي في قوله: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمَن والأذى} في سورة [البقرة: 264]، وإن كان ذكرُ هذا المنّ مَنّاً بالمعنى الآخر. والكلّ محمود من الله تعالى لأنّ المنّ إنَّما كان مذموماً لما فيه من إبداء التطاول على المنعم عليه، وطوْل الله ليس بمجحود. والمراد بالمؤمنين هنا المؤمنون يومئذ وهم الَّذين كانوا مع النَّبيء بقرينة السياق وهو قوله: {إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} أي من أمَّتهم العربية. و (إذ) ظرف ل (مَنّ) لأنّ الإنعام بهذه النِّعمة حصل أوقات البعث. ومعنى {من أنفسهم} المماثلةُ لهم في الأشياء التي تكون المماثلة فيها سبباً لقوّة التواصل، وهي هنا النسب، واللغة، والوطن. والعرب تقول: فلان من بني فلان من أنفسهم، أي من صميمهم ليس انتسابه إليهم بوَلاء أو لصق، وكأنّه هذا وجه إطلاق النفس عليه التي هي في معنى المماثلة، فكونه من أهل نسبهم أي كونه عربياً يوجب أنسهم به والركون إليه وعدم الاستيحاش منه، وكونه يتكلّم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به، وكونه جاراً لهم وربيّا فيهم يعجّل لهم التصديق برسالته، إذ يكونون قد خبَروا أمره، وعلموا فضله، وشاهدوا استقامته ومعجزاته.
وعن النقاش: قيل ليس في العرب قبيلة إلا ولها ولادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ تغْلِب، وبذلك فسّر: « قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى». وهذه المنّة خاصّة بالعرب ومزيّة لهم، زيادة على المنّة ببعثة محمد على جميع البشر، فالعرب وهم الذين تلقّوا الدعوة قبل الناس كلّهم، لأنّ الله أراد ظهور الدين بينهم ليتلقّوه التلقّي الكامل المناسب لصفاء أذهانهم وسرعة فهمهم لدقائق اللغة، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر، فيكونوا أعواناً على عموم الدعوة، ولمن تخلّق بأخلاق العرب وأتقن لسانهم والتبس بعوائدهم وأذواقهم اقتراب من هذه المزيّة وهو معظمها، إذ لم يَفته منها إلا النسب والموطن وما هما إلا مكمّلان لحسن التلقّي، ولذلك كان المؤمنون مدّة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصّة بحيث إنّ تلقّيهم الدعوة كان على سواء في الفهم حتى استقرّ الدين. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"من دخل في الإسلام فهو من العرب". وقوله: {يتلوا عليهم آياته} أي يقرأ عليهم القرآن، وسمّيت جمل القرآن آيات لأنّ كلّ واحدة منها دليل على صدق الرسول من حيث بلاغة اللفظ وكمال المعنى، كما تقدّم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير، فكانوا صالحين لفهم ما يتلى عليهم من غير حاجة لترجمان. والتزكية: التطهير، أي يطهر النفوس بهدي الإسلام.
وتعليم الكتاب هو تبيين مقاصد القرآن وأمرُهم بحفظ ألفاظه، لتكون معانيه حاضرة عندهم. والمراد بالحكمة ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق وتقنين الأحكام لأنّ ذلك كلّه مانع للأنفس من سوء الحال واختلال النظام، وذلك من معنى الحكمة، وتقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء} [البقرة: 269]. وعطفُ الحكمة على الكتاب عطف الأخصّ من وجه على الأعمّ من وجه، فمن الحكمة ما هو في الكتاب نحو: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9] ومنها ما ليس في الكتاب مثل قوله عليه السلام: "لا يُلدَغُ المؤمن من جحر مرّتين "وفي الكتاب ما هو علم وليس حكمة مثل فَرْض الصلاة والحجّ. وجملة {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} حال، وإنْ مخففة مهملة، والجملة بعدها خبر عن ضمير الشأن محذوف، والجملة خبره على رأي صاحب « الكشاف»، وهو التحقيق إذ لا وجه لزوال عملها مع بقاء معناها، ولا وجه للتفرقة بينها وبين المفتوحة إذا خففت فقد قدّروا لها اسماً هو ضمير الشأن، بل نجد المكسورة أولى ببقاء العمل عند التخفيف لأنها أمّ الباب فلا يزول عملها بسهولة، وقال جمهور النحاة: يبطل عملها وتكون بعدها جملة، وعلى هذا فالمراد بإهمالها أنّها لا تنصب مفردين بل تعمل في ضمير شأن وجملة إمَّا اسمية، أو فعلية فعلها من النواسخ غالباً. ووصف الضلال بالمبين لأنّه لشدّته لا يلتبس على أحد بشائبة هُدى، أو شبهة، فكان حاله مبيّناً كونَه ضلالاً كقوله: {وقالوا هذا سحر مبين} [النمل: 13]. والمراد به ضلال الشرك والجهالة والتقاتل وأحكام الجاهلية. ويجوز أن يشمل قوله: {على المؤمنين} المؤمنين في كل العصور ويراد بكونه من أنفسهم أنّه من نوع البشر. ويراد بإسناد تعليم الكتاب والحكمة إليه ما يجمع بين الإسناد الحقيقي والمجازي، لأنّ تعليم ذلك متلقّي منه مباشرة أو بالواسطة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد خولفت أوامره في غزوة أحد، فنزل بالمؤمنين فيها ما نزل، ولقد ناسب أن يبين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين نعمته عليهم في إرسال الرسول الأمين، ويشير إلى الهداية التي اشتملت عليها رسالته، وأن اتباعه اتباع رضوان الله، ومخالفته اتباع لسخط الله، فقال سبحانه: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من انفسهم} لقد من الله تعالى، ونعمه على المؤمنين كثيرة، باختيار رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فلقد كان حكيما أمينا فيهم من قبل الرسالة، وكان رفيقا بهم لا يعنتهم بعد الرسالة، لان لهم، ولم يكن فظا غليظا بهم، وفي هذا النص السامي يبين أن ذات رسالته نعمة، فقال: {لقد من}، أنعم وأعطى ووهب، وأكد عظيم المنة والعطاء باللام، ولقد كانت منته في بعث الرسول من أنفسهم، ومعنى {من أنفسهم} يصح تخريجها تخريجين:
الأول: أن يكون من نفس العرب، ومن قومهم، ويكون كلمة المؤمنين خاصة بمؤمني العرب.
والثاني: أن يكون من أنفسهم، أي أنه بشر مثل سائر البشر آتاه الحكم والنبوة، وكان رسول رب العالمين ليرسم لهم طريق الهداية ويكون لهم أسوة حسنة؛ إذ لا يمكن أن يكون أسوة حسنة لهم إلا إذا كان من جنسهم، وكان بشرا مثلهم، يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون، وما يأتيه من خير يكون جنسه في طاقة البشر، وإن كان مقام النبي صلى الله عليه وسلم فيه أعلى وأزكى وأوفر خيرا، وقد بين سبحانه وجه النعم في هذا البعث المحمدي فقال:
{يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} التلاوة: القراءة المتابعة المرتلة التي يكون بعضها تلو بعض، أي يعقبه في نظام محكم دقيق، والتلاوة في أكثر أحوالها لا تكون إلا في آيات مقروءة، والآيات تطلق على الآيات الكونية باعتبارها أمارة وشاهدا على قدرة الله تعالى ووحدانيته، وتطلق على الآيات المتلوة باعتبار أن كل آية من كتاب الله تعالى دليل على أنه من عند الله، وظاهر السياق أن الآيات التي تتلى هنا هي الآيات القرآنية، والمعنى في ذلك أن الله سبحانه يلقي على نبيه القرآن الكريم فيتلوه عليهم متحديا العرب أن يأتوا بمثله، وقيل: إن المراد بالآيات.. الكونية، ومعنى تلاوتها تلاوة القرآن المشتمل على أنبائها، وعلى توجيه الأنظار إليها، وإن الظاهر هو الأول، ولا يخلو الرأي الثاني من تكلف. وإنه من أعظم منن الله أن يخاطب المؤمنون بكتاب يتلى عليهم من السماء، وأن يوجه إليهم الخطاب مباشرة من الله تعالى.
والتزكية هي العمل الثاني من عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تطهير نفوس المؤمنين من أدران الجاهلية، وتنميتهم وتقويتهم، فالرسالة المحمدية كان آثارها في المؤمنين تتجه إلى ثلاث نواح: تهذيب نفوسهم آحادا، والربط بين قلوبهم جماعات، والعمل على رفع شأنهم والتمكين لهم في الأرض بأسباب القوة، كما قال تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين5} [القصص]. والكلمة" {ويزكيهم} تشتمل على كل هذه المعاني التي ترفع من شأن أهل الإيمان.
وتعليم الكتاب هو تعليمهم ما اشتمل عليه من أحكامه ببيان ما عساه يكون فيه من نصوص تعلو على مداركهم، وتفصيل المجمل فيه، وتطبيقه عليهم، فتعليم علم الكتاب غير تلاوته قراءته مرتلا مفهوما، وتعليمه بيان أحكامه، فقد أمر بالصلاة، والنبي صلى اله عليه وسلم علمها، وأمر بالحج، والنبي صلى الله عليه وسلم علمه، وهكذا، وقيل: عن تعليم الكتاب هو تعليم المؤمنين الكتابة ونقلهم من الأمية إلى العلم، فتعليم العلم في ذاته غاية من غايات الإسلام، ولذا كانت أولى آيات القرآن: {اقرأ باسم ربك الذي خلق1 خلق الإنسان من علق2 اقرأ وربك الأكرم3 الذي علم بالقلم4 علم الإنسان ما لم يعلم5} [العلق].
وتعليم الحكمة، فسره الشافعي بأنه تعليم السنن العملية، ويصح أن تفسر الحكمة بما هو أعم من ذلك وأشمل، فتشمل العلم بأسرار الكون، وأسرار النفوس، والسلوك القويم الذي يسدد الخطى في الدنيا، ويرضي الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.
{وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} أي إن حال الناس، وخصوصا العرب، أنهم كانوا من قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم في ضلال واضح بين، تنفر منه العقول المستقيمة وتأباه الأذواق السليمة، ألم يكن العرب في عمياء من أمورهم متنابذين متدابرين يئدون بناتهم؟ وألم تكن فارس في اضطراب ونزاع وانحلال؟ وألم يكن الرومان ومن أخضعوهم في طغيان واضطراب عقائد؟ كل ذلك كان وقت أن بزغ فجر الإسلام. اللهم أتم علينا نعمة الهداية والتوفيق.
والذي يمن على الآخر هو الذي يعطيه عطية يحتاج إليها هذا الآخذ، فكأن الحق يقول: وهل أنا في حاجة إلى إيمانكم؟ في حاجة إلى إسلامكم؟ أصفة من صفاتي معطلة حتى تأتوا أنتم لتكملوها لي؟ لا، إذن فحين أبعث لكم رسولا رحيما بكم، فالمنة تكون لي وحدي...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الرَّسول نعمة كبرى للخير والخلاص: ويبقى للفكرة جوّها الكبير الذي يحتوي كلّ ما في الساحة من تطلّعات ومواقف ووسائل وأهداف، ليدفع بالقضية إلى الواقع الجديد في حدود القضايا الإيجابية التي تحكمه وتوجّهه في اتجاه الأعلى والأفضل، في مقارنةٍ بالواقع القديم في سلبيّاته المغرقة بالضلال، فليست حركة التغيير من نوع الحركات التي يُراد منها تغيير الصورة كلّها وما تشتمل عليه من ملامح الظلمة والضلال والاهتزاز، وفي ضوء ذلك، كان للشخص الجديد معنًى آخر، وسرّ جديد يتّسع للحياة، حسب الدور الكبير الذي أعدّ له، فهو لا يتحرّك من خلال ذاته، كمفكّر يعيش تجربته الشخصية، بل هو رسول من اللّه يتحرّك من خلال رسالته... وليس غريباً عنهم لتكون مشاعره غريبة عن مشاعرهم، أو تكون أفكاره غريبة عن قضاياهم، بل هو من أنفسهم، من قلب الجماعة التي ينتمون إليها، أرسله اللّه إليهم يتلو عليهم آياته التي تفتح قلوبهم على عظمته وخطّ هداه، وليزكّيهم فيطهّر كلّ ما لديهم من رذائل الأخلاق والسلوك والأفكار والعادات، ويعلّمهم كتاب اللّه الواحد الذي تجتمع فيه كلّ الرسالات ويلتقي عليه كلّ الرّسل، كما يعلّمهم الحكمة التي تربط حركتهم بالحياة في موقعها الطبيعي الذي لا اهتزاز فيه ولا التواء، لأنَّه لا يكفي للشخصية الإسلامية أن تلتقي بالكتاب في تفكيرها النظري، بل لا بُدَّ لها، في طريق التكامل، من أن تلتقي بالتطبيق السليم لأفكاره وتعاليمه في خطّ الحكمة الذي يمثِّل التوازن في مواجهة الفكر والواقع معاً. إنَّه جاء من أجل هذا كلّه، ليخلّصهم من الضلال الواضح الذي كانوا يتخبطون فيه، سواء في ذلك جانب الفكر أو جانب العمل، وتلك هي المنّة التي منَّ اللّه بها عليهم، لأنَّ قضية تصحيح المسار، وتقويم الشخصية، وتركيز الخطّ، هي الخير كلّ الخير، بعيداً عن كلّ شهوات الحياة ولذائذها وأطماعها، فلا بُدَّ لهم من أن يعيشوها في جوّ النعمة عندما تتحرّك بهم خطوات الحرب والسَّلام، في الشدّة أو في الرخاء، ليستقيم لهم كلّ ما يريدونه لأنفسهم من خيرٍ ومحبّة وسلام...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الآية يدور الحديث حول أكبر النعم الإلهية، ألا وهي نعمة «بعثة الرسول الأكرم والنبي الخاتم» (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو في الحقيقة إجابة قوية على التساؤل الذي خالج بعض الأذهان من الحديثي العهد بالإسلام بعد «معركة أُحد» وهو: لماذا لحق بنا ما لحق، ولماذا أصبنا بما أصبنا به؟ فيجيبهم القرآن الكريم بقوله: (لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم) أي إذا كنتم قد تحملتم كلّ هذه الخسائر، وأصبتم بكلّ هذه المصائب، فإن عليكم أن لا تنسوا أن الله قد أنعم عليكم بأكبر نعمة، ألا وهي بعثه نبي يقوم بهدايتكم وتربيتكم، وينقذكم من الضلالات وينجيكم من المتاهات، فمهما تحملتم في سبيل الحفاظ على هذه النعمة العظمى والموهبة الكبرى، ومهما كلفكم ذلك من ثمن، فهو ضئيل إلى جانبها، وحقير بالنسبة إليها.
والجدير بالاهتمام في المقام هو أن هذه النعمة قد شرع ذكرها بكلمة «منّ» التي قد لا تبدو جميلة ولا مستحسنة في بادئ الأمر، ولكننا عندما نراجع مادة هذه اللفظة وأصلها اللغوي يتضح لنا الأمر غاية الوضوح، وتوضيحه هو: أن المن كما قال الراغب في مفرداته: هو ما يوزن به، ولذلك أطلق على النعمة الثقيلة: المنة، ويقال ذلك إذا كان ذلك بالفعل، فيقال: منَّ فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة الجميلة الثمينة وهو حسن لا بأس فيه، أما إذا عظّم أحد في القول والادعاء ما قام به من حقير الخدمات والأفعال والصنائع فهو في غاية القبح.
وعلى هذا فإن المن المستقبح هو الذي يكون استعظاماً للصنائع والنعم في القول، أما المنة المستحسنة فهي بذل النعم الكبرى والصنائع العظيمة.
أما تخصيص المؤمنين بالذكر في هذه الآية في حين أن الهدف من بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو هداية عموم البشر، فلأن المؤمنين هم الذين سيستفيدون بالنتيجة والمآل من هذه النعمة العظمى فهم الذين يستأثرون بآثارها عملاً دون غيرهم.
ثمّ إن الله سبحانه يقول: (من أنفسهم) أن إحدى مميزات هذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أنه من نفس الجنس والنوع البشري، لا من جنس الملائكة وما شابهها، وذلك لكي يدرك كلّ احتياجات البشر بصورة دقيقة، ولا يكون غريباً عنها، غير عارف بها، وحتّى يلمس آلام الإنسان وآماله، ومشكلاته ومصائبه، ومتطلبات الحياة ومسائلها، ثمّ يقوم بما يجب أن يقوم به من التربية والتوجيه على ضوء هذه المعرفة.
هذا مضافاً إلى أن القسط الأكبر من برامج الأنبياء التربوية يتكون من تبليغهم العملي بمعنى أن أعمالهم تعتبر أفضل مثل، وخير وسيلة تربوية للآخرين، لأن التبليغ بلسان العمل أشد تأثيراً، وأقوى أثراً من التبليغ بأية وسيلة أخرى، وهذا إنما يمكن إذا كان المبلّغ من نوع البشر وجنسه بخصائصه، ومواصفاته الجسمية، وبذات غرائزه وبنائه الروحي.
فإذا كان الأنبياء من جنس الملائكة مثلاً كان للبشر الذين أرسل الأنبياء إليهم أن يقولوا: إذا كان الأنبياء لا يعصون أبداً، فلأجل أنهم من الملائكة ليست في طبائعهم الشهوات والغرائز، ولا الغضب ولا الحاجة.
وهكذا كانت رسالة الأنبياء ومهمتهم تتعطل وتفقد تأثيرها، ولا تحقق أغراضها.
ولهذا اختير الأنبياء من جنس البشر ومن فصيلة الإنسان بغرائزه، واحتياجاته، ليمكنهم أن يكونوا أسوة لغيرهم من البشر، وقدوة لسواهم من بني الإنسان.
ثمّ إن الله سبحانه يقول واصفاً مهمات هذا النبي العظيم: (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) أي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم بثلاثة أُمور في حقّهم:
تلاوة آيات الله على مسامعهم، وإيقافهم على هذه الآيات والكلمات الإلهية.
تعليمهم بمعنى إدخال هذه الحقائق في أعماق ضمائرهم وقلوبهم.
تزكية نفوسهم، وتنمية قابلياتهم الخلقية، ومواهبهم الإنسانية.
ولكن حيث إن الهدف الأصلي هو «التربية» لذلك قدمت على «التعليم» مع أن الحال من حيث الترتيب الطبيعي تقتضي تقديم التعليم على التربية.
إن الذين يبتعدون عن الحقائق الإنسانية بالمرة، ليس من السهل إخضاعهم للتربية، فلابدّ أولاً من إسماعهم آيات الله مدة من الزمن حتّى تذهب عنهم الوحشة التي وقعوا فريسة لها من قبل، ليتسنى حينئذ إدخالهم في مرحلة التعليم، ثمّ يمكن اقتطاف ثمار التربية بعد ذلك.
ثم إن هناك احتمالا آخر في تفسير الآية وهو أن المقصود من التزكية هو التنقية من رواسب الجاهلية والشرك، ومن بقايا العقائد الباطلة والأفكار الخرافية، والأخلاق الحيوانية القبيحة لأن الضمير الإنساني ما دام لم يطهر من الأدران والرواسب لم يمكن إعداده وتهيئته لتعليم الكتاب الإلهي، والحكمة والعلم الواقعيين، تماماً مثل اللوحة التي لا تقبل الألوان والنقوش الجميلة ما لم تنظف من النقوش القبيحة أولاً.
ولهذا السبب قدمت التزكية في الآية الحاضرة على تعليم الكتاب والحكمة التي يراد بها معارف الإسلام العالمية، ومفاهيمه السامية.
إن أهمية هذه النعمة العظمى (البعثة النبوية) إنما تتضح تمام الوضوح وتتجلى تمام الجلاء عندما يقاس الوضع الذي آلوا إليه بالوضع الذي كانوا عليه، وملاحظة مدى التفاوت بينهما وهذا هو ما يعنيه قوله: (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).
وكأن القرآن يخاطبهم قائلاً: ارجعوا إلى الوراء وانظروا إلى ما كنتم عليه من سوء الحال قبل الإسلام، كيف كنتم، وكيف صرتم؟؟
إن الجدير بالتأمل هو وصف القرآن الكريم للعهد الجاهلي بقوله: (ضلال مبين) لأن للضلال أنواعاً وأصنافاً: فمن الضلال ما لا يمكن معه للإنسان أن يميز بين الحق والباطل، والخطأ والصواب بسهولة، ومن الضلال ما يكون بحيث لو رجع الإنسان إلى نفسه أدنى رجوع، وتمتع بأقل قدر من الإدراك والشعور اهتدى إلى الصواب وأدرك الخطأ فوراً.
ولقد كان الناس وخاصة سكان الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية المباركة، ومجيء الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإسلام في ضلال مبين، فقد كان الشقاء والجهل، وغير ذلك من حالات الانحطاط والسقوط والفساد سائداً في كلّ أرجاء المعمورة في ذلك العصر، وهو أمر لم يكن خافياً على أحد.