" لقد من الله " جوابٌ لقسم محذوفٌ ، وقُرِئ : لَمِنْ مَنَّ الله{[6170]} - ب " من " الجارة ، و " منِّ " - بالتشديد مجرورها - وخرَّجه الزمخشريُّ على وجهينِ :
أحدهما : أن يكون هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوفٌ ، تقديره : لمن من الله على المؤمنين مَنُّهُ ، أو بعثه إذ بَعَثَ فيهم ، فحذف لقيامِ الدَّلالةِ .
الثاني : أنه جعل المبتدأ نفس " إذ " بمعنى : وقتٍ : وخبرها الجارُّ قبلها ، وتقديره : لمن من الله على المؤمنين وقت بَعْثِهِ ، ونظره بقولهم : أخطب ما يكون الأميرُ إذا كان قائماً .
وهذان وجهانِ - في هذه القراءة - مما يدلان على رسوخ قدمِهِ في هذا العلمِ .
قال شهابُ الدينِ : إلا أن أبا حيان قد ردَّ عليه الوجه الثاني بأن " إذْ " غيرُ متصرفةٍ ، لا تكون إلا ظرفاً ، أو مضافاً إليها اسم زمان أو مفعولة ب " اذكر " - على قول - ونقل قول أبي علي - فيها وفي " إذا " أنهما لم يردا في كلام العربِ إلا ظرفين ، ولا يكونان فاعلين ، ولا مفعولين ، ولا مبتدأين .
قال : ولا يحفظ من كلامهم : إذْ قام زيد طويل - يريد : وقت قيامه طويل - وبأن تنظيره القراءة بقولهم : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً ، خطأ ؛ من حيث إن المشبه مبتدأ ، والمشبهُ به ظرف في موضعِ الخبرِ - عند من يُعْرِب هذا الإعرابَ - ومن حيثُ إنَّ هذا الخبرَ - الذي قد أبرزه ظاهراً - واجب الحذف ؛ لسَدِّ الحال مَسَدَّه{[6171]} ، نص عليه النحويونَ الذين يعربونه هكذا ، فكيف يبرزه في اللفظ ؟
قال شهابُ الدين : " وجواب هذا الردِّ واضحٌ وليت أبا القاسم لم يذكر تخريج هذه القراءة ؛ لكي نسمع ما يقول هو " .
والجمهورُ على ضم الفاء - من أنفسهم - أي : من جملتهم وجنسهم ، وقرأت عائشةُ ، وفاطمة والضّحّاكُ ، ورواها أنس عنه صلى الله عليه وسلم بفتح الفاء{[6172]} ، من النفاسة - وهي الشرف - أي : من أشرفهم نسباً ، وخَلْقاً ، وخُلُقاً .
وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنا أنفسكم نسباً ، وحسباً ، وصهراً " {[6173]} وهذا الجارُّ يحتمل وجهين :
الأول : أن يتعلق بنفس " بعث " .
الثاني : أن يتعلق بمحذوف ، على أنه وصف ل " رسولاً " فيكون منصوب المحل ، ويقوي هذا الوجه قراءة فتح الفاء .
قيل : أراد به العرب ؛ لأنه ليس حَيّ من أحياء العرب إلا وقد ولد صلى الله عليه وسلم ولد فيهم نسب ، إلا بني تغلب ، لقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] .
وقال آخرون : أراد به جميع المؤمنين .
ومعنى قوله : " من أنفسهم " أي : بالإيمان والشفقة ، لا بالنسب ، كقوله تعالى :
{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] .
ووجه هذه المِنَّة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ما يُخَلِّصُهم من عقابِ الله ، ويوصلهم إلى ثواب الله ، كقوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }
[ الأنبياء : 107 ] وأيضاً كونه من أنفسهم لأنه لو كان من غير جنسهم لم يَرْكَنوا إليه .
وخص هذه المنة بالمؤمنين لأنهم المنتفعون بها ، كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
قال الواحدي : المَنّ - في كلام العرب - بإزاء مَعَانٍ :
أحدها : الذي يسقط من السماء ، قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى }
ثانيها : أن تُمَنَّ بما أعطيتَ كقوله : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى } [ البقرة : 264 ] .
ثالثها : القَطْع ، كقوله : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ الانشقاق : 25 ] وقوله : { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } [ القلم : 3 ] .
رابعها : الإنعام والإحسان إلى مَنْ يطلب الجزاء منه ، ومنه قوله : { هَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] . وقوله : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] . والمنَّان - في صفة الله تعالى - : المُعْطِي ابتداءً من غير طلب عِوَضٍ ، ومنه الآية :
{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ } [ آل عمران : 164 ] أي : أنعم عليهم ، وأحْسَن إليهم ببعثِهِ هذا الرسول .
قوله : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } في محل نصب حال ، أو مستأنف .
وقال القرطبي : " يتلو " في موضع نصب ، نعت ل " رسولاً " - وقد تقدم نظيرها في البقرة .
{ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ آل عمران : 164 ] معنى الآية : يبلغهم الوحي ، ويطهرهم ، ويعلمهم الكتاب - أي : معرفة الأحكام الشرعية - والحكمة - أي : أسرارها وعِلَلَها ومنافعها - ثم قال : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } وهذا وَجْه النعمة ؛ لأن ورود العلم عقيب الجهل من أعظم النعم .
قوله : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } هي " إن " المخففة ، واللام فارقة - وقد تقدم تحقيقه - إلا أن الزمخشري ومكيًّا - هنا - حين جعلاها مخففة قدَّرَا لها اسماً محذوفاً .
فقال الزمخشري : " وتقديره : إن الشأن ، وإن الحديث كانوا من قبل " . وقال مكي : " وأما سيبويه فإنه قال " إن " مخففة من الثقيلة ، واسمها مضمر ، والتقدير - على قوله - : وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين " . وهذا ليس بجيّد ؛ لأن " إن " المخففة إنما تعمل في الظاهر - على غير الأفصح - ولا عمل لها في المضمر ولا يقَدَّر لها اسمٌ محذوفٌ ألبتة ، بل تُهْمَل ، أو تعمل - على ما تقدم - مع أن الزمخشريَّ لم يُصَرِّحْ بأن اسمها محذوف ، بل قال : " إن " هي المخففةٌ من الثَّقِيلَةِ ، واللام فارقة بينها وبين النافية ، وتقديره : وإن الشأن والحديث كانوا ؛ وهذا تفسيرُ معنى لا إعراب .
أحدهما : أنها استئنافية ، لا محلَّ لَهَا مِنَ الأعْرَاب .
والثاني أنها محل نَصْب على الحال من المفعول به - في : " يعلمهم " وهو الأظهر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.