البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ} (164)

{ لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } مناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر الفريقين : فريق الرضوان ، وفريق السخط ، وأنهم درجات عند الله مجملاً من غير تفصيل ، فصَّل أحوالهم وبدأ بالمؤمنين ، وذكر ما امتن عليهم به من بعث الرسول إليهم تالياً لآيات الله ، ومبيناً لهم طريق الهدى ، ومطهراً لهم من أرجاس الشرك ، ومنقذاً لهم من غمرة الضلالة بعد أن كانوا فيها .

وسلاهم عما أصابهم يوم أحد من الخذلان والقتل والجرح ، لما أنالهم يوم بدر من الظفر والغنيمة .

ثم فصَّل حال المنافقين الذين هم أهل السخط بما نص عليه تعالى .

ومعنى مَن تطوّل وتفضل ، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون ببعثه ، والظاهر عمومه .

فعلى هذا يكون معنى من أنفسهم من أهل ملتهم ، كما قال : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } والمعنى : من جنس بني آدم ، والامتنان بذلك لحصول الأنس بكونه من الإنس ، فيسهل المتلقى منه ، وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين ، ولمعرفة قوى جنسهم .

فإذا ظهرت المعجزة أدركوا أنَّ ذلك ليس في قوى بني آدم ، فعلموا أنّه من عند الله ، فكان ذلك داعية إلى الإجابة .

ولو كان الرسول من غير الجنس لتخيل أن تلك المعجزة هي في طباعه ، أشار إلى هذه العلة الماتريدي .

وقيل : المراد بالمؤمنين العرب ، لأنه ليس حيٌّ من أحياء العرب إلا له فيهم نسب ، من قبل أمهاته ، إلا بني تغلب لنصرانيتهم قاله : النقاش ، فصار بعثه فيهم شرفاً لهم على سائر الأمم .

ويكون معنى من أنفسهم : أي من جنسهم عربياً مثلهم .

وقيل : من ولد إسماعيل ، كما أنهم من ولده .

قال ابن عباس وقتادة : قال من أنفسهم لكونه معروف النسب فيهم ، معروفاً بالأمانة والصدق .

قال أبو سليمان الدمشقي : ليسهل عليهم التعليم منه ، لموافقة اللسان .

وقال الماوردي : لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم انتهى .

والمنة عليهم بكونه من أنفسهم ، إذْ كان اللسان واحداً ، فيسهل عليهم أخذ ما يجب أخذه عنه .

وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة ، فكان ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به .

وقرئ شاذاً : لمن منّ الله على المؤمنين بمن الجارة ومن مجرور بها بدل قد منّ .

قال الزمخشري : وفيه وجهان : أنْ يراد لمن منّ الله على المؤمنين منه أو بعثه فيهم ، فحذف لقيام الدلالة .

أو يكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك : أخطب ما يكون الأمير ، إذ كان قائما بمعنى لمن مَنَّ الله على المؤمنين وقت بعثه انتهى .

أمّا الوجه الأوّل فهو سائغ ، وقد حذف المبتدأ مع من في مواضع منها : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بها } { وما منا إلا له مقام } { وما دون ذلك } على قول .

وأما الوجه الثاني فهو فاسد ، لأنه جعل إذ مبتدأة ولم يستعملها العرب متصرفة ألبتة ، إنما تكون ظرفاً أو مضافاً إليها اسم زمان ، ومفعولة باذكر على قول .

أمّا أنْ تستعملَ مبتدأة فلم يثبت ذلك في لسان العرب ، ليس في كلامهم نحو : إذ قام زيد طويل وأنت تريد وقت قيام زيد طويل .

وقد قال أبو علي الفارسي : لم ترد إذ وإذا في كلام العرب إلا ظرفين ، ولا يكونان فاعلين ولا مفعولين ، ولا مبتدأين انتهى كلامه .

وأمّا قوله : في محل الرفع كإذا ، فهذا التشبيه فاسد ، لأن المشبه مرفوع بالابتداء ، والمشبه به ليس مبتدأ .

إنما هو ظرف في موضع الخبر على زعم من يرى ذلك .

وليس في الحقيقة في موضع رفع ، بل هو في موضع نصب بالعامل المحذوف ، وذلك العامل هو مرفوع .

فإذا قال النحاة : هذا الظرف الواقع خبراً في محل الرفع ، فيعنون أنه لما قام مقام المرفوع صار في محله ، وهو في التحقيق في موضع نصب كما ذكرنا .

وأما قوله في قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً ، فهذا في غاية الفساد .

لأن هذا الظرف على مذهب من يجعله في موضع خبر المبتدأ الذي هو أخطب ، لا يجيز أن ينطق به ، إنما هو أمر تقديري .

ونصّ أرباب هذا المذهب وهم القائلون بإعراب أخطب مبتدأ ، أنَّ هذه الحال سدت مسد الخبر ، وأنه مما يجب حذف الخبر فيه لسد هذه الحال مسده .

وفي تقرير هذا الخبر أربعة مذاهب ، ذكرت في مبسوطات النحو .

وقرأ الجمهور : من أنفُسهم بضم الفاء ، جمع نفس .

وقرأت فاطمة ، وعائشة ، والضحاك ، وأبو الجوزاء : من أنفَسهم بفتح الفاء من النفاسة ، والشيء النفيس .

وروي عن أنس أنه سمعها كذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وروى عليّ عنه عليه السلام : « أنا من أنفسكم نسباً وحسباً وصهراً ، ولا في آبائي من آدم إلى يوم ولدت سفاح كلها نكاح والحمد لله »

قيل : والمعنى من أشرفهم ، لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل ، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان ، وخندف ذروة مضر ، ومدركة ذروة خندف ، وقريش ذروة مدركة ، وذروة قريش محمد صلى الله عليه وسلم .

وفيما خطب به أبو طالب في تزويج خديجة رضي الله عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر : الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع اسماعيل ، وضئضىء معه ، وعنصر مضر ، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه ، وجعل لنا بيتاً محجوجاً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا الحكام على الناس ، ثم إنَّ ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل .

وقال ابن عباس : ما خلق الله نفساً هي أكرم على الله من محمد رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما أقسم بحياة أحد غيره فقال : لعمرك .

{ يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } تقدّم تفسير هذه الجمل .

{ وإن كانوا من قبل } أي من قبل بعثه .

{ لفي ضلال } أي حيرة واضحة فهداهم به .

وإنْ هنا هي الخففة من الثقيلة ، وتقدّم الكلام عليها وعلى اللام في قوله : { وإن كانت لكبيرة } والخلاف في ذلك فأغنى عن إعادته هنا .

وقال الزمخشري : إنْ هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، وتقديره : وإنّ الشأن والحديث كانوا من قبل لفي ضلال مبين . انتهى .

وقال مكي : وقد ذكر أنه قبل إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، أي : وما كانوا من قبلُ إلا في ضلال مبين ، قال : وهذا قول الكوفيين .

وأما سيبويه فإنه قال : إنْ مخففة من الثقيلة ، واسمها مضمر ، والتقدير على قوله : وإنهم كانوا من قبل في ضلال مبين .

فظهر من كلام الزمخشري أنه حين خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن والحديث .

ومن كلام مكي أنها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير عائد على المؤمنين ، وكلا هذين الوجهين لا نعرف .

نحو : يا ذهب إليه .

إنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنّك إذا قلت : إن زيداً قائم ثم خففت ، فمذهب البصريين فيها إذ ذاك وجهان : أحدهما : جواز الأعمال ، ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشدّدة ، إلا أنها لا تعمل في مضمر .

ومنع ذلك الكوفيون ، وهم محجوجون بالسماع الثابت من لسان العرب .

والوجه الثاني : وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل ، لا في ظاهر ، ولا في مضمر لا ملفوظ به ولا مقدّر ألبتة .

فإنْ وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر ، ولزمت اللام في ثاني مضمونيها إن لم ينف ، وفي أولهما إن تأخر فنقول : إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيداً قائم .

وإنْ وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من فواتح الابتداء .

وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم .

والجملة من قوله : وإن كانوا ، حالية .

والظاهر أن العامل فيها هو : ويعلمهم ، فهو حال من المفعول .

/خ170