{ قل هو الذي ذراكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين . قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين* فلما رأوه } يعني : العذاب في الآخرة -على قول أكثر المفسرين- وقال مجاهد : يعني العذاب ببدر ، { زلفةً } أي قريباً ، وهو اسم يوصف به المصدر ، ويستوي فيه المذكر والمؤنث ، والواحد والاثنان والجميع ، { سيئت وجوه الذين كفروا } اسودت وعلتها الكآبة ، فالمعنى قبحت وجوههم بالسواد ، يقال : ساء الشيء يسوء فهو سيء إذا قبح ، وسيء يساء إذا قبح ، { وقيل } لهو الذي قال لهم الخزنة ، { هذا } أي هذا العذاب ، { الذي كنتم به تدعون } تفتعلون من الدعاء ، أي : أن تدعوه وتتمنوه أن يعجل لكم ، وقرأ يعقوب { تدعون } بالتخفيف ، وهي قراءة قتادة ، ومعناهما واحد ، مثل تذكرون وتذكرون .
وبينما هم يسألون في شك ويجابون في جزم ، يخيل السياق القرآني كأن هذا اليوم الذي يسألون عنه قد جاء ، والموعد الذي يشكون فيه قد حان ؛ وكأنما هم واجهوه الآن . فكان فيه ما كان :
( فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا ، وقيل : هذا الذي كنتم به تدعون ) !
فقد رأوه قريبا مواجها لهم حاضرا أمامهم دون توقع ودون تمهيد . فسيئت وجوههم ، وبدا فيها الاستياء . ووجه إليهم التأنيب : ( وقيل : هذا الذي كنتم به تدعون ) . . هذا هو حاضرا قريبا . وهو الذي كنتم تدعون أنه لن يكون !
وهذه الطريقة في عرض ما سيكون تتكرر في القرآن ، لمواجهة حالة التكذيب أو الشك بمفاجأة شعورية تصويرية تقف المكذب أو الشاك وجها لوجه مع مشهد حاضر لما يكذب به أو يشك فيه .
ثم هي في الوقت ذاته تصور حقيقة . فهذا اليوم كائن في علم الله ؛ أما خط الزمن بينه وبين البشر فهو قائم بالقياس إلى البشر . وهي مسألة نسبية لا تمثل الحقيقة المجردة كما هي في حساب الله . ولو أذن الله لرأوه اللحظة كما هو في علم الله . فهذا الانتقال المفاجئ لهم من الدنيا إلى الآخرة ، ومن موقف الشك والارتياب إلى موقف المواجهة والمفاجأة ، يشير إلى حقيقة قائمة لو أذن الله بها لانكشفت لهم . في الوقت الذي يصور لهم هذه الحقيقة تصويرا يهز مشاعرهم .
قال الله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : لما قامت القيامة وشاهدها الكفار ، ورأوا أن الأمر كان قريبا ؛ لأن كل ما هو آتٍ آتٍ وإن طال زمنه ، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك ، لما يعلمون ما لهم هناك من الشر ، أي : فأحاط بهم ذلك ، وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب ، { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا{[29120]} وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الزمر : 47 ، 48 ] ؛ ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ : { هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } أي : تستعجلون .
وقوله : { فَلَمّا رأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الّذِينَ كَفَرُوا } يقول تعالى ذكره : فلما رأى هؤلاء المشركون عذاب الله زلفة : يقول : قريبا ، وعاينوه ، سيئت وجوه الذين كفروا ، يقول : ساء الله بذلك وجوه الكافرين . وبنحو الذي قلنا في قوله : زُلْفَة ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : فَلَمّا رأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ ، قال : لما عاينوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، قال : سألت الحسن ، عن قوله : فَلَمّا رأَوْهُ زُلْفَة ، قال : معاينة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَلَمّا رأَوْهُ زُلْفَةً قال : قد اقترب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلَمّا رأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجوهُ الّذِينَ كَفَرُوا ، لما عاينت من عذاب الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فَلَمّا رأَوْهُ زُلْفَةً قال : لما رأوا عذاب اللّه زُلفة ، يقول : سيئت وجوههم حين عاينوا من عذاب الله وخزيه ما عاينوا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلَمّا رأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ ، قيل : الزلفة حاضر ، قد حضرهم عذاب الله عزّ وجلّ .
{ وَقِيلَ هَذَا الّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدّعُونَ } يقول : وقال الله لهم : هذا العذاب الذي كنتم به تذكرون ربكم أن يعجله لكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقِيلَ هَذَا الّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدّعُونَ ، قال : استعجالهم بالعذاب .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار هَذَا الّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدّعُونَ ، بتشديد الدال ، بمعنى تفتعلون من الدعاء .
وذُكر عن قتادة والضحاك أنهما قرءا ذلك : «تَدْعُونَ » بمعنى تفعلون في الدنيا .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، قال : أخبرنا أبان العطار وسعيد بن أبي عُروبة ، عن قتادة أنه قرأها : «الذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدْعُونَ » خفيفة ، ويقول : كانوا يدعون بالعذاب ، ثم قرأ : { وَإذْ قالُوا اللهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِندِكَ فأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بعَذَابٍ أليمٍ } .
والصواب من القراءة في ذلك ، ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.