قوله تعالى : { وإذا مس الإنسان الضر } ، الجهد والشدة ، { دعانا لجنبه } ، أي : على جنبه مضطجعا ، { أو قاعدا أو قائما } ، يريد في جميع حالاته ، لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات . { فلما كشفنا } ، دفعنا { عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } ، أي استمر على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر ، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء ، كأنه لم يدعنا إلى ضر مسه أي : لم يطلب منا كشف ضر مسه . { كذلك زين للمسرفين } المجاوزين الحد في الكفر والمعصية ، { ما كانوا يعملون } ، من العصيان . قال ابن جريج : كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون من الدعاء عند البلاء وترك الشكر عند الرخاء . وقيل : معناه كما زين لكم أعمالكم زين للمسرفين الذين كانوا من قبلكم أعمالهم .
وبمناسبة الحديث عن استعجال الشر يعرض صورة بشرية للإنسان عندما يمسه الضر ، تكشف عن التناقض في طبيعة هذا الإنسان الذي يستعجل الشر وهو يشفق من مس الضر ، فإذا كشف عنه عاد إلى ما كان فيه :
( وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ؛ فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه . كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ) . .
إنها صورة مبدعة لنموذج بشري مكرور . . وإن الإنسان ليظل مدفوعا مع تيار الحياة ، يخطئ ويذنب ويطغى ويسرف ، والصحة موفورة ، والظروف مواتية . وليس - إلا من عصم الله ورحم - من يتذكر في إبان قوته وقدرته أن هناك ضعفا وأن هناك عجزا . وساعات الرخاء تنسي ، والإحساس بالغنى يطغي . . ثم يمسه الضر فإذا هو جزوع هلوع ، وإذا هو كثير الدعاء ، عريض الرجاء ، ضيق بالشدة مستعجل للرخاء . فإذا استجيب الدعاء وكشف الضر انطلق لا يعقب ولا يفكر ولا يتدبر . انطلق إلى ما كان فيه من قبل من اندفاع واستهتار .
والسياق ينسق خطوات التعبير وإيقاعه مع الحالة النفسية التي يصورها ، والنموذج البشري الذي يعرضه . فيصور منظر الضر في بطء وتلبث وتطويل :
( دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً ) . .
يعرض كل حالة وكل وضع وكل منظر ، ليصور وقفة هذا الإنسان وقد توقف التيار الدافع في جسمه أو في ماله أو في قوته كما يتوقف التيار أمام السد ، فيقف أو يرتد . حتى إذا رفع الحاجز( مر )كلمة واحدة تصور الاندفاع والمروق والانطلاق . ( مر )لا يتوقف .
ليشكر ، ولا يلتفت ليتدبر ، ولا يتأمل ليعتبر :
( مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) . .
واندفع مع تيار الحياة دون كابح ولا زاجر ولا مبالاة !
وبمثل هذه الطبيعة . طبيعة التذكر فقط عند الضر ، حتى إذا ارتفع انطلق ومر . بمثل هذه الطبيعة استمر المسرفون في إسرافهم ، لا يحسون ما فيه من تجاوز للحدود :
يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الضر ، كقوله : { وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] أي : كثير ، وهما في معنى واحد ؛ وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها ، وأكثر الدعاء عند ذلك ، فدعا الله في كشفها وزوالها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه ، وفي جميع أحواله ، فإذا فرج الله شدته وكشف كربته ، أعرض ونأى بجانبه ، وذهب كأنه ما كان به من ذاك شيء ، { مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ }
ثم ذم تعالى مَنْ هذه صفته وطريقته{[14089]} فقال : { كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد ، فإنه مستثنى من ذلك ، كما قال تعالى : { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ هود : 11 ] ، وكقول{[14090]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن{[14091]} لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له " ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن{[14092]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا مَسّ الإِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرّهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىَ ضُرّ مّسّهُ كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا أصاب الإنسان الشدّة والجهد دَعانا لِجَنْبِهِ يقول : استغاث بنا في كشف ذلك عنه ، لجنبه : يعني مضطجعا لجنبه . أوْ قاعِدا أوْ قائما الحال التي يكون بها عند نزول ذلك الضرّ به . فَلَمّا كَشَفْنا عَنْه ضُرّهُ يقول : فلما فرّجنا عنه الجهد الذي أصابه ، مرّ كأنْ لَمْ يَدعُنَا إلى ضُرّ مَسّهُ يقول : استمرّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضرّ ، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء ، أو تناساه ، وترك الشكر لربه الذي فرّج عنه ما كان قد نزل به من البلاء حين استعاذ به ، وعاد للشرك ودعوى الاَلهة والأوثان أربابا معه . يقول تعالى ذكره : كذلكَ زُيّنَ للْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يقول : كما زين لهذا الإنسان الذي وصفنا صفته استمراره على كفره بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضرّ ، كذلك زين للذين أسرفوا في الكذب على الله وعلى أنبيائه ، فتجاوزوا في القول فيهم إلى غير ما أذن الله لهم به ، ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : دَعانا لِجَنْبهِ قال : مضطجعا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.