فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنۢبِهِۦٓ أَوۡ قَاعِدًا أَوۡ قَآئِمٗا فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُ ضُرَّهُۥ مَرَّ كَأَن لَّمۡ يَدۡعُنَآ إِلَىٰ ضُرّٖ مَّسَّهُۥۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡمُسۡرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (12)

ثم بيّن الله سبحانه أنهم كاذبون في استعجال الشرّ ، ولو أصابهم ما طلبوه لأظهروا العجز والجزع ، فقال : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر } أي : هذا الجنس الصادق على كل ما يحصل التضرر به { دَعَانَا لِجَنبِهِ } اللام للوقت ، كقوله : جئته لشهر كذا ، أو في محل نصب على الحال بدلالة عطف قاعداً أو قائماً عليه ، وتكون اللام بمعنى على : أي دعانا مضطجعاً { أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا } وكأنه قال : دعانا في جميع الأحوال المذكورة وغيرها ، وخصّ المذكورة بالذكر ؛ لأنها الغالب على الإنسان ، وما عداها نادر كالركوع والسجود ، ويجوز أن يراد أنه يدعو الله حال كونه مضطجعاً غير قادر على القعود ، وقاعداً غير قادر على القيام ، وقائماً غير قادر على المشي ، والأوّل : أولى .

قال الزجاج : إن تعديل أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحوال المضرّة ، لأنه إذا كان داعياً على الدوام ، ثم نسي في وقت الرخاء كان أعجب .

قوله : { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَمْ يَدْعُنَا إلى ضُرّ مَسَّهُ } أي : فلما كشفنا عنه ضرّه الذي مسه ، كما تفيده الفاء ، مضى على طريقته التي كان عليها قبل أن يمسه الضرّ ، ونسي حالة الجهد والبلاء ، أو مضى عن موقف الدعاء والتضرّع ، لا يرجع إليه ؛ كأنه لا عهد له به ، كأنه لم يدعنا عند أن مسه الضرّ إلى كشف ذلك الضرّ الذي مسه . وقيل معنى { مَرَّ } استمرّ على كفره ، ولم يشكر ، ولم يتعظ . قال الأخفش : «أن » في { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا } هي المخففة من الثقيلة ، والمعنى : كأنه انتهى . والجملة التشبيهية في محل نصب على الحال ، وهذه الحالة التي ذكرها الله سبحانه للداعي لا تختص بأهل الكفر ، بل تتفق لكثير من المسلمين ، تلين ألسنهم بالدعاء وقلبهم بالخشوع والتذلل عند نزول ما يكرهون بهم . فإذا كشفه الله عنهم غفلوا عن الدعاء والتضرّع ، وذهلوا عما يجب عليهم من شكر النعمة التي أنعم الله بها عليهم ، من إجابة دعائهم ورفع ما نزل بهم من الضرّ ، ودفع ما أصابهم من المكروه . وهذا مما يدلّ على أن الآية تعمّ المسلم والكافر ، كما يشعر به لفظ الناس ، ولفظ الإنسان ، اللهم أوزعنا شكر نعمك ، وأذكرنا الأحوال التي مننت علينا فيها بإجابة الدعاء ، حتى نستكثر من الشكر الذي لا نطيق سواه ، ولا نقدر على غيره ، وما أغناك عنه وأحوجنا إليه { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } . والإشارة بقوله : { كذلك زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إلى مصدر الفعل المذكور بعده كما مرّ غير مرة ، أي : مثل ذلك التزيين العجيب زين للمسرفين عملهم . والمسرف في اللغة : هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس ، ومحل كذلك النصب على المصدرية . والتزيين هو : إما من جهة الله تعالى على طريقة التحلية وعدم اللطف بهم ، أو من طريق الشيطان بالوسوسة ، أو من طريق النفس الأمارة بالسوء . والمعنى : أنه زين لهم الإعراض عن الدعاء ، والغفلة عن الشكر ، والاشتغال بالشهوات .

/خ16