اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنۢبِهِۦٓ أَوۡ قَاعِدًا أَوۡ قَآئِمٗا فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُ ضُرَّهُۥ مَرَّ كَأَن لَّمۡ يَدۡعُنَآ إِلَىٰ ضُرّٖ مَّسَّهُۥۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡمُسۡرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (12)

قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر } : الجهد والشدة { دَعَانَا لِجَنبِهِ } أي : على جنبه مضطجعاً { أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } يريد في جميع حالاته ؛ لأنَّ الإنسان لا يعدُو إحدى هذه الحالات ، وفي كيفية النظم وجهان :

الأول : أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّه لو أنزل العذاب على العبد في الدُّنيا ، لهلك ولقُضِيَ عليه ؛ فبيَّن في هذه الآية ما يدُلُّ على ضعفه ، ونهاية عجزه ؛ ليكون ذلك مؤكداً لما ذكره ، من أنَّه لو أنزل عليه العذاب لمات .

الثاني : أنه - تعالى - حكى عنهم : أنَّهُم يستعجلُون نُزُول العذاب ، فبيَّن في هذه الآية ، أنَّهم كاذبُون في ذلك الاستعجال ؛ لأنَّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يُؤذيه ، فإنَّه يتضرَّعُ في إزالته عنه ، فدلَّ على أنَّهُ ليس صادقاً في هذا الطَّلب .

قوله : " لِجَنْبِهِ " في محلِّ نصبٍ على الحال ؛ ولذلك عطف الحال الصَّريحة عليه ، والتقدير : دعانا مضطجعاً لجنبه ، أو مُلْقياً لجنبه ، واللاَّمُ على بابها عند البصريين ، وزعم بعضهم : أنَّها بمعنى : " عَلَى " ، ولا حاجة إليه ، واختلف في صاحب الحال : فقيل : الإنسان والعامل فيها " مسَّ " ، قاله ابن عطية ، ونقله أبو البقاء عن غيره ، واستضعفه من وجهين :

أحدهما : أنَّ الحال على هذا واقعةٌ بعد جواب " إذا " ، وليس بالوجه ، كأنه يعني : أنَّه ينبغي ألاَّ يجاب الشَّرطُ ، إلاَّ إذا استوفى معمولاته ، وهذه الحال معمولةٌ للشرط ، وهو " مسَّ " ، وقد أجيب قبل أن يستوفي معموله .

ثم قال : " والثاني : أن المعنى : كثرةُ دعائه في كلِّ أحواله ، لا على أن الضُّرَّ يُصيبُهُ في كل أحواله ، وعليه جاءت آياتٌ كثيرةٌ في القرآن " ، وقال أبو حيَّان : " وهذا الثاني يلزم فيه من مسِّه الضُّرَّ ، دعاؤه في هذه الأحوال ؛ لأنَّه جوابُ ما ذكرت فيه هذه الأحوال ، فالقَيْدُ في الشرط قيدٌ في الجواب ، كما تقول : إذا جاءنا زيدٌ فقيراً أحْسَنَّا إليه ، فالمعنى ، أحْسَنَّا إليه في حال فَقْرِه " .

وقيل : صاحبُ الحال هو الضمير الفاعل في " دعانا " ، وهو واضحٌ ، أي : دعانا في جميع أحواله ؛ لأنَّ هذه الأحوال الثلاثة لا يخلو الإنسان عن واحدةٍ منها .

فصل

قيل : المراد ب " الإنسان " هنا : الكَافِر .

وقيل : أبو حذيفة بن المغيرة ، تصيبه البأساء والشدة والجهد ، { دَعَانَا لِجَنبِهِ } أي : على جنبه مضطجعاً { أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } وإنَّما أرادَ تسمية حالاته ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يعدُو هذه الحالات .

وقيل : وإنَّما بدأ بالمضطجع ؛ لأنَّه بالضُّر أشدّ في غالب الأمْرِ ، فهو يدعُو أكثر ، والاجتهاد فيه أشدّ ، ثمَّ القاعد ثم القَائم .

وقيل : المراد بالإنسان : الجنسُ ، وهذه الأحوال بالنسبة إلى المجموع ، أي : مِنْهم من يدعُو مُسْتلقياً ، ومنهم مَنْ يدعُو قَائِماً ، أو يرادُ به شخصٌ واحدٌ ، جمع بين هذه الأحوال الثلاثة بحسب الأوقات ، فيدعو في وقت على هذه الحال ، وفي وقت على أخرى ، والصحيحُ أنَّ المراد ب " الإنسان " : الجنس ، وقال آخرون : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به : الكافر ، وهذا باطل ؛ لقوله : { يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [ الانشقاق : 6 ، 7 ] لا شبهة في أنَّ المؤمنَ داخلٌ ، وكذا قوله : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر } [ الإنسان : 1 ] ، وقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] ، { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } [ ق : 19 ] ، والحقُّ : أنَّ اللفظ المفرد ، المحلَّى بالألف واللام ، إن حصل معهودٌ سابقٌ ، صرف إليه ، وإن لم يحصل معهودٌ سابقٌ ، حمل على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتَّعطيل ، وقال صاحبُ النَّظْم : قوله { وَإِذَا مَسَّ الإنسان } وضعهُ للمستقبل ، وقوله : { فَلَمَّا كَشَفْنَا } للماضي ، فهذا النَّظْمُ يدلُّ على أنَّ معنى الآية يدل : على أنَّهُ كان هكذا فيما مضى ، وهكذا يكون في المستقبل ، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل ، وما فيه من الماضي ، على الماضي " .

قوله : { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ } قد تقدَّم الكلامُ على مثل هذا ، عند قوله : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ } [ النساء : 73 ] ، تقديره : كأنَّه لم يدعنا ، ثم أسقط الضمير تخفيفاً ، كقوله تعالى { كَأَن لَّمْ يلبثوا } [ يونس : 45 ] قال الزمخشري : " فحذف ضمير الشَّأن ؛ كقوله : [ الهزج ]

. . . *** كأنْ ثَدْيَاهُ حُقَّانِ " {[18335]}

يعني : على رواية من رواه " ثَدْيَاهُ " بالألف ، ويروى : " كأن ثَدْيَيه " بالياء ، على أنها أعملت في الظَّاهر ، وهو شاذٌّ ، وهذا البيت صدره : [ الهزج ]

وَوجهٍ مُشْرقِ النَّحْرِ *** كَأنْ ثدْيَاهُ حقَّانِ{[18336]}

وهذه الجملةُ التَّشبيهيَّةُ : في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " مرَّ " ، أي : مضى على طريقته ، مشبهاً من لم يدعُ إلى كشف ضُرٍّ ، و " مسَّهُ " صفةً ل " ضُرّ " ، وقيل : " مَرَّ " عن موقف الابتهال والتضرُّع لا يرجع إليه ، ونسي ما كان فيه من الجهدِ والبلاء ، كأن لم يدعنا ، ولم يطلُب منَّا كشف ضُرِّه .

قوله : { كذلك زُيِّنَ } الكاف من " كذلِكَ " في موضع نصب على المصدر ، أي : مثل ذلك التَّزيين والإعراض عن الابتهال ، وفاعل " زُيِّنَ " المحذوف : إمَّا الله - تعالى - ، وإمَّا الشيطان ، و{ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في محل رفع لقيامه مقام الفاعل ، و " مَا " يجوز أن تكون مصدريَّة ، وأن تكون بمعنى " الذي " .

فصل

قال أبو بكر الأصم : سُمّي الكافرُ مُسْرفاً ؛ لأنَّه ضيَّع ماله ونفسه ، أمَّا النَّفس ، فإنه جعلها عبداً للوثن ؛ وأمَّا المالُ ؛ فلأنهم كانوا يُضَيِّعُون أموالهم في البحيرة ، والسَّائبة ، والوصيلة والحامِ .

وقيل : من كانت عادتُه كثرة التضرُّع والدعاء ، عند نزول البلاء ، وعند زوال البلاء بعرضُ عن ذكرِ الله وعن شكره ، يكون مُسْرِفاً في أمر دينه ، وقال ابن الخطيب{[18337]} : " المُسرفُ هو الذي ينفقُ المال الكثير ؛ لأجل الغرضِ الخسيس ، ومعلومٌ أنَّ لذَّاتِ الدنيا وطيباتها خسيسةٌ جداً ، في مقابلة سعادات الآخرة ، والله - تعالى - أعطى الحواسَّ ، والعقل والفهم ، والقدرة ، لاكتساب السعادات العظيمة الأخرويَّة ، فمن بذل هذه الآلات العظيمة الشريفة ؛ ليفوز بالسعادات الخسيسة ، كان قد أنفق أشياء عظيمة ؛ ليفوز بأشياء حقيرة ؛ فوجب أن يكون من المسرفين " .


[18335]:تقدم.
[18336]:تقدم.
[18337]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 17/43.