معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (62)

قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } . يعني اليهود سموا به لقولهم : ( إنا هدنا إليك ) أي ملنا إليك ، وقيل : لأنهم هادوا أي تابوا عن عبادة العجل ، وقيل : لأنهم مالوا عن دين الإسلام ، وعن دين موسى عليه السلام ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة ويقولون : إن السماوات والأرض تحركت حين آتى الله موسى التوراة .

قوله تعالى : { والنصارى } . سموا به لقول الحواريين : ( نحن أنصار الله ) ، وقال مقاتل : لأنهم نزلوا قرية يقال لها ناصرة ، لاعتزائهم إلى نصرة . وهي قرية كان ينزلها بعيسى عليه السلام .

قوله تعالى : { والصابئين } . قرأ أهل المدينة : والصابين والصابون بترك الهمزة والباقون بالهمزة ، وأصله : الخروج ، يقال : صبأ فلان أي خرج من دين إلى دين آخر ، وصبأت النجوم إذا خرجت من مطالعها ، وصبأ ناب البعير إذا خرج ، فهؤلاء سموا به لخروجهم من دين إلى دين .

قال عمر بن الخطاب وابن عباس : هم قوم من أهل الكتاب ، قال عمر : تحل ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب ، وقال ابن عباس : لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم ، وقال مجاهد : هم قبيلة نحو الشام بين اليهود والمجوس ، وقال الكلبي : هم قوم بين اليهود والنصارى يحلقون أوساط رؤوسهم ويجبون مذاكيرهم ، وقال قتادة : هم قوم يقرون بالله ويقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة ، ويصلون إلى الكعبة ، أخذوا من كل دين شيئاً ، قال عبد العزيز بن يحيى : انقرضوا .

قوله تعالى : { من آمن بالله واليوم الآخر } . فإن قيل : كيف يستقيم قوله ( من آمن بالله ) وقد ذكر في ابتداء الآية ( إن الذين آمنوا ) ، قيل : اختلفوا في حكم الآية فقال بعضهم : أراد بقوله ( إن الذين آمنوا ) على التحقيق ثم اختلفوا في هؤلاء المؤمنين فقال قوم : هم الذين آمنوا قبل المبعث وهم طلاب الدين مثل حبيب النجار ، وقس بن ساعدة ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، والبراء الشني ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وبحيرا الراهب ، ووفد النجاشي ، فمنهم من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه ، ومنهم من لم يدركه . وقيل : هم المؤمنون من الأمم الماضية ، وقيل : هم المؤمنين من هذه الأمة ( والذين هادوا ) الذين كانوا على دين موسى عليه السلام ، ولم يبدلوا ، ( والنصارى ) ، الذين كانوا على دين عيسى عليه السلام ولم يغيروا وماتوا على ذلك . قالوا : وهذان الاسمان لزماهم زمن موسى وعيسى عليهما السلام حيث كانوا على الحق ، كالإسلام لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والصابئون زمن استقامة أمرهم ( من آمن ) أي من مات منهم وهو مؤمن لأن حقيقة الإيمان بالموافاة ، ويجوز أن يكون الواو مضمراً . أي : ومن آمن بعدك يا محمد إلى يوم القيامة ، وقال بعضهم : إن المذكورين بالإيمان في أول الآية على طريق المجاز دون الحقيقة ، ثم اختلفوا فيهم فقال بعضهم : الذين آمنوا بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك وقيل : أراد بهم المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم ، واليهود والنصارى الذين اعتقدوا اليهودية والنصرانية بعد التنزيل والصابئون بعض أصناف الكفار من آمن بالله واليوم الآخر من هذه الأصناف بالقلب واللسان .

قوله تعالى : { وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم } . وإنما ذكر بلفظ الجمع لأن من يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث .

قوله تعالى : ولا خوف عليهم } . في الدنيا .

قوله تعالى : { ولا هم يحزنون } . في الآخرة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (62)

40

ولم يشهد تاريخ أمة ما شهده تاريخ إسرائيل من قسوة وجحود واعتداء وتنكر للهداة . فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عددا من أنبيائهم - وهي أشنع فعلة تصدر من أمة مع دعاة الحق المخلصين - وقد كفروا أشنع الكفر ، واعتدوا أشنع الاعتداء ، وعصوا أبشع المعصية . وكان لهم في كل ميدان من هذه الميادين أفاعيل ليست مثلها أفاعيل !

ومع هذا كله فقد كانت لهم دعاوى عريضة عجيبة . كانوا دائما يدعون أنهم هم وحدهم المهتدون ، وهم وحدهم شعب الله المختار ، وهم وحدهم الذين ينالهم ثواب الله ؛ وأن فضل الله لهم وحدهم دون شريك . . وهنا يكذب القرآن هذه الدعوى العريضة ، ويقرر قاعدة من قواعده الكلية ، التي تتخلل القصص القرآني ، أو تسبقه أو تتلوه . يقرر قاعدة وحدة الإيمان . . ووحدة العقيدة ، متى انتهت إلى إسلام النفس لله ، والإيمان به إيمانا ينبثق منه العمل الصالح . وإن فضل الله ليس حجرا محجورا على عصبية خاصة ، إنما هو للمؤمنين أجمعين ، في كل زمان وفي كل مكان ، كل بحسب دينه الذي كان عليه ، حتى تجيء الرسالة التالية بالدين الذي يجب أن يصير المؤمنون إليه :

( إن الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والنصارى ، والصابئين - من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا - فلهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . .

والذين آمنوا يعني بهم المسلمين . والذين هادوا هم اليهود - إما بمعنى عادوا إلى الله ، وإما بمعنى أنهم أولاد يهوذا - والنصارى هم اتباع عيسى - عليه السلام - والصابئون : الأرجح أنهم تلك الطائفة من مشركي العرب قبل البعثة ، الذي ساورهم الشك فيما كان عليه قومهم من عبادة الأصنام ، فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها ، فاهتدوا إلى التوحيد ، وقالوا : إنهم يتعبدون على الحنيفية الأولى ، ملة إبراهيم ، واعتزلوا عبادة قومهم دون أن تكون لهم دعوة فيهم . فقال عنهم المشركون : إنهم صبأوا - أي مالوا عن دين آبائهم - كما كانوا يقولون عن المسلمين بعد ذلك . ومن ثم سموا الصابئة . وهذا القول أرجح من القول بأنهم عبدة النجوم كما جاء في بعض التفاسير .

والآية تقرر أن من آمن بالله واليوم الآخر من هؤلاء جميعا وعمل صالحا ، فإن لهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . فالعبرة بحقيقة العقيدة ، لا بعصبية جنس أو قوم . . وذلك طبعا قبل البعثة

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (62)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

قال أبو جعفر : أما الذين آمنوا فهم المصدّقون رسول الله فيما أتاهم به من الحقّ من عند الله ، وإيمانهم بذلك : تصديقهم به على ما قد بيناه فيما مضى من كتابنا هذا . وأما الذين هادوا ، فهم اليهود ، ومعنى هادوا : تابوا ، يقال منه : هاد القوم يهودون هَوْدا وهادةً . وقيل : إنما سميت اليهود يهود من أجل قولهم : إنا هُدْنا إلَيْكَ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاح ، عن ابن جريج ، قال : إنما سميت اليهود من أجل أنهم قالوا : إنّا هُدْنا إلَيْكَ .

القول في تأويل قوله تعالى : وَالنّصَارَى .

قال أبو جعفر : والنصارى جمع ، واحدهم نَصْران ، كما واحد سَكارى سكران ، وواحد النّشاوى نشوان . وكذلك جمع كل نعت كان واحده على فعلان ، فإن جمعه على فعالى إلا أن المستفيض من كلام العرب في واحد النصارى نصرانيّ . وقد حُكي عنهم سماعا «نَصْرَان » بطرح الياء ، ومنه قول الشاعر :

تَرَاهُ إذَا زَارَ العَشِيّ مُحَنّفا *** ويُضْحِي لَدَيْهِ وَهْوَ نَصْرانُ شَامِسُ

وسمع منهم في الأنثى نصرانة ، قال الشاعر :

فكِلْتاهُما خَرّتْ وأسْجَدَ رأسُها *** كما سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لمْ تَحَنّفِ

يقال : أسجد : إذا مال . وقد سمع في جمعهم أنصار بمعنى النصارى ، قال الشاعر :

لَمّا رأيْتُ نَبَطا أنْصَارَا *** شَمّرْتُ عَنْ رُكْبَتِي الإزارَا

*** كُنْتُ لَهُمْ مِن النّصَارَى جارَا ***

وهذه الأبيات التي ذكرتها تدل على أنهم سُموا نصارى لنصرة بعضهم بعضا وتناصرهم بينهم . وقد قيل إنهم سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها «ناصرة » .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : النصارى إنما سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها ناصرة .

ويقول آخرون : لقوله : مَنْ أنْصارِي إلى اللّهِ .

وقد ذكر عن ابن عباس من طريق غير مرتضى أنه كان يقول : إنما سميت النصارى نصارى ، لأن قرية عيسى ابن مريم كانت تسمى ناصرة ، وكان أصحابه يسمون الناصريين ، وكان يقال لعيسى : الناصري .

حدثت بذلك عن هشام بن محمد ، عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : إنما سموا نصارى لأنهم كانوا بقرية يقال لها ناصرة ينزلها عيسى ابن مريم ، فهو اسم تسموا به ولم يؤمروا به .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : الّذِين قالُوا إنا نَصَارَى قال : تسموا بقرية يقال لها ناصرة ، كان عيسى ابن مريم ينزلها .

القول في تأويل قوله تعالى : والصّابِئِينَ

قال أبو جعفر : والصابئون جمع صابىء ، وهو المستحدث سوى دينه دينا ، كالمرتدّ من أهل الإسلام عن دينه . وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب صابئا ، يقال منه : صَبَأ فلان يَصْبَأ صَبْأً ، ويقال : صبأت النجوم : إذا طلعت ، وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا ، يعني به طلع .

واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل . فقال بعضهم : يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين . وقالوا : الذين عنى الله بهذا الاسم قوم لا دين لهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق جميعا ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : الصّابِئُونَ ليسوا بيهود ولا نصارى ولا دين لهم .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حجام ، عن عنبسة ، عن الحجاج ، عن مجاهد ، قال : الصابئون بين المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن حجاج ، عن قتادة ، عن الحسن مثل ذلك .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح : الصابئين بين اليهود والمجوس لا دين لهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : الصابئين بين المجوس واليهود ، لا دين لهم .

قال ابن جريج : قلت لعطاء : «الصابئين » زعموا أنها قبيلة من نحو السواد ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى . قال : قد سمعنا ذلك ، وقد قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : قد صبأ .

وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : الصّابِئُون قال : الصابئون : دين من الأديان ، كانوا بجزيرة الموصل يقولون : «لا إلَه إلاّ الله » ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبيّ إلا قول لا إلَه إلاّ الله . قال : ولم يؤمنوا برسول الله ، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه : هؤلاء الصابئون . يشبهونهم بهم .

وقال آخرون : هم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى القبلة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الحسن ، قال : حدثني زياد : أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس . قال : فأراد أن يضع عنهم الجزية . قال : فخُبّر بعد أنهم يعبدون الملائكة .

وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : والصّابِئِين قال : الصابئون قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى القبلة ، ويقرؤن الزبور .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور .

قال أبو جعفر الرازي : وبلغني أيضا أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ، ويقرءون الزبور ، ويصلون إلى القبلة .

وقال آخرون : بل هم طائفة من أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سفيان ، قال : سئل السديّ عن الصابئين فقال : هم طائفة من أهل الكتاب .

القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ وعمِل صَالِحا فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهمْ .

قال أبو جعفر : يعني بقوله : مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ : من صدق وأقرّ بالبعث بعد الممات يوم القيامة وعمل صالحا فأطاع الله ، فلهم أجرهم عند ربهم ، يعني بقوله : فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم .

فإن قال لنا قائل : فأين تمام قوله : إن الّذينَ آمَنُوا والّذِين هادُوا وَالنّصَارَى والصّابِئين ؟ قيل : تمامه جملة قوله : مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ لأن معناه : من آمن منهم بالله واليوم الاَخر فترك ذكر منهم لدلالة الكلام عليه استغناء بما ذكر عما ترك ذكره .

فإن قال : وما معنى هذا الكلام ؟ قيل : إن معناه : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من يؤمن بالله واليوم الاَخر فلهم أجرهم عند ربهم .

فإن قال : وكيف يؤمن المؤمن ؟ قيل : ليس المعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته من انتقال من دين إلى دين كانتقال اليهودي والنصراني إلى الإيمان ، وإن كان قد قيل إن الذين عنوا بذلك من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى ، وبما جاء به ، حتى أدرك محمدا صلى الله عليه وسلم ، فآمن به وصدّقه ، فقيل لأولئك الذين كانوا مؤمنين بعيسى وبما جاء به إذ أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم : آمنوا بمحمد وبما جاء به ، ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع ثباته على إيمانه وتركه تبديله .

وأما إيمان اليهود والنصارى والصابئين ، فالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به ، فمن يؤمن منهم بمحمد ، وبما جاء به واليوم الاَخر ، ويعمل صالحا ، فلم يبدّل ولم يغير ، حتى توفي على ذلك ، فله ثواب عمله وأجره عند ربه ، كما وصف جل ثناؤه .

فإن قال قائل : وكيف قال : فلهم أجرهم عند ربهم ، وإنما لفظ من لفظ واحد ، والفعل معه موحد ؟ قيل : «مَنْ » وإن كان الذي يليه من الفعل موحدا ، فإن له معنى الواحد والاثنين والجمع والتذكير والتأنيث ، لأنه في كل هذه الأحوال على هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغير ، فالعرب توحد معه الفعل وإن كان في معنى جمع للفظه ، وتجمع أخرى معه الفعل لمعناه ، كما قال جل ثناؤه : ومِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أفأنْتَ تُسْمع الصّمّ ولَوْ كانُوا لا يَعْقِلُون ومِنهم مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أفأنْتَ تَهْدِي العُمْي وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ فجمع مرة مع ( من ) الفعل لمعناه ، ووحد أخرى معه الفعل لأنه في لفظ الواحد ، كما قال الشاعر :

ألِمّا بسَلْمَى عَنْكما إنْ عَرَضْتُما *** وَقُولا لَهَا عُوجي على مَنْ تَخَلّفُوا

فقال : تخلفوا ، وجعل «من » بمنزلة الذين . وقال الفرزدق :

تَعالَ فإنْ عاهَدْتَنِي لا تخُونُنِي *** نَكُنْ مِثْل مَنْ يا ذِئبُ يَصْطَحِبانِ

فثنى يصطحبان لمعنى «من » . فكذلك قوله : مَنْ آمَنَ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ ربّهِمْ وحد آمن وعمل صالحا للفظ من ، وجمع ذكرهم في قوله : فَلَهُمْ أجْرُهُمْ لمعناه ، لأنه في معنى جمع .

وأما قوله : ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون فإنه يعني به جل ذكره : ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها عند معاينتهم ما أعدّ الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده .

ذكر من قال عُنِي بقوله : مَنْ آمَنَ باللّهِ : مؤمنوا أهل الكتاب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السديّ : إنّ الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هادُوا الآية ، قال : نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي ، وكان سلمان من جُنْد نيْسابور ، وكان من أشرافهم ، وكان ابن الملك صديقا له مواخيا ، لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه ، وكانا يركبان إلى الصيد جميعا . فبينما هما في الصيد إذ رفع لهما بيت من خبَاء ، فأتياه فإذا هما فيه برجل بين يديه مصحف يقرأ فيه وهو يبكي ، فسألاه ما هذا ، فقال : الذي يريد أن يعلم هذا لا يقف موقفكما ، فإن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانزلا حتى أعلمكما ، فنزلا إليه ، فقال لهما : هذا كتاب جاء من عند الله ، أمر فيه بطاعته ، ونهى عن معصيته ، فيه : أن لا تزني ، ولا تسرق ، ولا تأخذ أموال الناس بالباطل . فقصّ عليهما ما فيه ، وهو الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى . فوقع في قلوبهما وتابعاه فأسلما ، وقال لهما : إن ذبيحة قومكما عليكما حرام ، فلم يزالا معه كذلك يتعلمان منه ، حتى كان عيد للملك ، فجعل طعاما ، ثم جمع الناس والأشراف ، وأرسل إلى ابن الملك فدعاه إلى صنيعه ليأكل مع الناس ، فأبى الفتى وقال : إني عنك مشغول ، فكل أنت وأصحابك ، فلما أكثر عليه من الرسل ، أخبرهم أنه لا يأكل من طعامهم ، فبعث الملك إلى ابنه ، فدعاه وقال : ما أمرك هذا ؟ قال : إنا لا نأكل من ذبائحكم ، إنكم كفار ليس تحلّ ذبائحكم ، فقال له الملك : من أمرك بهذا ؟ فأخبره أن الراهب أمره بذلك ، فدعا الراهب فقال : ماذا يقول ابني ؟ قال : صدق ابنك ، قال له : لولا أن الدم فينا عظيم لقتلتك ، ولكن اخرج من أرضنا فأجّله أجلاً . فقال سلمان : فقمنا نبكي عليه ، فقال لهما : إن كنتما صادقين ، فإنا في بيعة بالموصل مع ستين رجلاً نعبد الله فيها ، فأتونا فيها . فخرج الراهب ، وبقي سلمان وابن الملك فجعل يقول لابن الملك : انطلق بنا ، وابن الملك يقول : نعم ، وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز . فلما أبطأ على سلمان ، خرج سلمان حتى أتاهم ، فنزل على صاحبه وهو ربّ البيعة ، وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان ، فكان سلمان معهم يجتهد في العبادة ، ويتعب نفسه ، فقال له الشيخ : إنك غلام حدث تتكلف من العبادة ما لا تطيق ، وأنا خائف أن تفتر وتعجز ، فارفق بنفسك وخفف عليها فقال له سلمان : أرأيت الذي تأمرني به أهو أفضل ، أو الذي أصنع ؟ قال : بل الذي تصنع ؟ قال : فخلّ عني . ثم إن صاحب البيعة دعاه فقال : أتعلم أن هذه البيعة لي ، وأنا أحقّ الناس بها ، ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت ؟ ولكني رجل أضعف عن عبادة هؤلاء ، وأنا أريد أن أتحوّل من هذه البيعة إلى بيعة أخرى هم أهون عبادة من هؤلاء ، فإن شئت أن تقيم ههنا فأقم ، وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق . قال له سلمان : أيّ البيعتين أفضل أهلاً ؟ قال : هذه . قال سلمان : فأنا أكون في هذه . فأقام سلمان بها وأوصى صاحب البيعة عالم البيعة بسلمان ، فكان سلمان يتعبد معهم ، ثم إن الشيخ العالم أراد أن يأتي بيت المقدس ، فقال لسلمان : إن أردت أن تنطلق معي فانطلق ، وإن شئت أن تقيم فأقم . فقال له سلمان : أيهما أفضل أنطلق معك أم أقيم ؟ قال : لا بل تنطلق معي . فانطلق معه فمرّوا بمقعد على ظهر الطريق ملقى ، فلما رآهما نادى : يا سيد الرهبان ارحمني يرحمك الله ، فلم يكلمه ، ولم ينظر إليه ، وانطلقا حتى أتيا بيت المقدس ، فقال الشيخ لسلمان : اخرج فاطلب العلم فإنه يحضر هذا المسجد علماء أهل الأرض . فخرج سلمان يسمع منهم ، فرجع يوما حزينا ، فقال له الشيخ : مالك يا سلمان ؟ قال : أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم ، فقال له الشيخ : يا سلمان لا تحزن ، فإنه قد بقي نبيّ ليس من نبيّ بأفضل تبعا منه وهذا زمانه الذي يخرج فيه ، ولا أراني أدركه ، وأما أنت فشاب لعلك أن تدركه ، وهو يخرج في أرض العرب ، فإن أدركته فآمن به واتبعه فقال له سلمان : فأخبرني عن علامته بشيء . قال : نعم ، هو مختوم في ظهره بخاتم النبوّة ، وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة . ثم رجعا حتى بلغا مكان المقعد ، فناداهما فقال : يا سيد الرهبان ارحمني يرحمك الله ، فعطف إليه حماره ، فأخذ بيده فرفعه ، فضرب به الأرض ودعا له ، وقال : قم بإذن الله ، فقام صحيحا يشتدّ ، فجعل سلمان يتعجب وهو ينظر إليه يشتدّ . وسار الراهب فتغيب عن سلمان ولا يعلم سلمان . ثم إن سلمان فزع فطلب الراهب ، فلقيه رجلان من العرب من كلب فسألهما : هل رأيتما الراهب ؟ فأناخ أحدهما راحلته ، قال : نعم راعي الصّرْمة هذا ، فحمله فانطلق به إلى المدينة . قال سلمان : فأصابني من الحزن شيء لم يصبني مثله قط . فاشترته امرأة من جهينة فكان يرعى عليها هو وغلام لها يتراوحان الغنم هذا يوما وهذا يوما ، فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمد صلى الله عليه وسلم . فبينا هو يوما يرعى ، إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه ، فقال : أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبيّ ؟ فقال له سلمان : أقم في الغنم حتى آتيك . فهبط سلمان إلى المدينة ، فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودار حوله ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم عرف ما يريد ، فأرسل ثوبه ، حتى خرج خاتمه ، فلما رآه أتاه وكلمه ، ثم انطلق ، فاشترى بدينار ببعضه شاة وببعضه خبزا ، ثم أتاه به ، فقال : «ما هذا ؟ » قال سلمان : هذه صدقة قال : «لا حاجة لي بها فأخْرِجْها فليأْكُلْها المسلمون » . ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما ، فأتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ما هذا ؟ » قال : هذه هدية ، قال : «فاقْعُدْ » ، فقعد فأكلا جميعا منها . فبينا هو يحدّثه إذ ذكر أصحابه ، فأخبره خبرهم ، فقال : كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ، ويشهدون أنك ستبعث نبيا فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «يا سَلْمانُ هُمْ مِنْ أهْلِ النّارِ » . فاشتدّ ذلك على سلمان ، وقد كان قال له سلمان : لو أدركوك صدّقوك واتبعوك ، فأنزل الله هذه الآية : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا وَالنّصَارَى والصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ .

فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى حتى جاء عيسى ، فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا . وإيمان النصارى أنه من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولاً منه ، حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا الآية . قال سلمان الفارسي للنبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم ، قال : لم يموتوا على الإسلام . قال سلمان : فأظلمت عليّ الأرض . وذكر اجتهادهم ، فنزلت هذه الآية ، فدعا سلمان فقال : «نزلت هذه الآية في أصحابك » . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ مَاتَ على دِينِ عِيسَى ومات على الإسْلامِ قَبْلَ أنْ يَسْمَعَ بِي فَهُوَ على خَيْرٍ وَمَنْ سَمِعَ بِي اليَوْمَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِي فَقَدْ هَلَكَ » .

وقال ابن عباس بما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا والذِين هادُوا وَالنّصَارَى وَالصّابِئِينَ إلى قوله : ولا هُمْ يَحْزَنُونَ . فأنزل الله تعالى بعد هذا : وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ . وهذا الخبر يدلّ على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا من اليهود والنصارى والصابئين على عمله في الاَخرة الجنة ، ثم نسخ ذلك بقوله : وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ .

فتأويل الآية إذا على ما ذكرنا عن مجاهد والسدي : إن الذين آمنوا من هذه الأمة ، والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن من اليهود والنصارى والصابئين بالله واليوم الاَخر ، فلهُمْ أجرُهمْ عندَ ربهمْ ولاَ خَوْفٌ عليهِمْ ولاَ هُمْ يحزَنُونَ .

والذي قلنا من التأويل الأول أشبه بظاهر التنزيل ، لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان بعض خلقه دون بعض منهم ، والخبر بقوله : مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ عن جميع ما ذكر في أول الآية .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (62)

توسطت هاته الآية بين آيات ذكر بني إسرائيل بما أنعم الله عليهم وبما قابلوا به تلك النعم من الكفران وقلة الاكتراث فجاءت معترضة بينها لمناسبة يدركها كل بليغ وهي أن ما تقدم من حكاية سوء مقابلتهم لنعم الله تعالى قد جرت عليهم ضرب الذلة والمسكنة ورجوعهم بغضب من الله تعالى عليهم ، ولما كان الإنحاء عليهم بذلك من شأنه أن يفزعهم إلى طلب الخلاص من غضب الله تعالى لم يترك الله تعالى عادته مع خلقه من الرحمة بهم وإرادته صلاح حالهم فبين لهم في هاته الآية أن باب الله مفتوح لهم وأن اللجأ إليه أمر هين عليهم وذلك بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات ، ومن بديع البلاغة أن قرن معهم في ذلك ذكر بقية من الأمم ليكون ذلك تأنيساً لوحشة اليهود من القوارع السابقة في الآيات الماضية وإنصافاً للصالحين منهم ، واعترافاً بفضلهم ، وتبشيراً لصالحي الأمم من اليهود وغيرهم الذين مضوا مثل الذين كانوا قبل عيسى وامتثلوا لأنبيائهم ، ومثل الحواريين ، والموجودين في زمن نزول الآية مثل عبد الله بن سَلاَم وصهيب ، فقد وفَّت الآية حق الفريقين من الترغيب والبشارة ، وراعت المناسبتيْن للآيات المتقدمة مناسبةَ اقتران الترغيب بالترهيب ، ومناسبةَ ذكر الضد بعد الكلام على ضده .

فمجيء { إنَّ } هنا لمجرد الاهتمام بالخبر وتحقيقِه لدفع توهم أن ما سبق من المذمات شامل لجميع اليهود ، فإن كثيراً من الناس يتوهم أن سلف الأمم التي ضَلَّت كانوا مثلهم في الضلال ، ولقد عجب بعض الأصحاب لما ذكرت لهم أني حين حللت في رومة تبركت بزيارة قبر القديس بطرس توهماً منهم بكون قبره في كنيسة رومة فبيّنت لهم أنه أحد الحواريين أصحاب المسيح عيسى عليه السلام .

وابتُدىء بذكر المؤمنين للاهتمام بشأنهم ليكونوا في مقدمة ذكر الفاضلين فلا يذكر أهلُ الخير إلا ويذكرون معهم ، ومن مراعاة هذا المقصد قوله تعالى في سورة النساء ( 162 ) { لكن الراسخون في العلم منهم } أي الذين هادوا والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك الآية ، ولأنهم القدوة لغيرهم كما قال تعالى : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا } [ البقرة : 137 ] فالمراد من الذين آمنوا في هذه الآية هم المسلمون الذين صدقوا بالنبيء محمد صلى الله عليه وسلم وهذا لقب للأمة الإسلامية في عرف القرآن .

و { الذين هادوا } هم بنو إسرائيل وقد مضى الكلام عليهم وإنما نذكر هنا وجه وصفهم بالذين هادوا ، ومعنى { هادوا } كانوا يهوداً أو دانوا بدين اليهود . وأصل اسم يهود منقول في العربية من العبرانية وهو في العبرانية بذال معجمة في آخره وهو علم أحد أسباط إسرائيل ، وهذا الاسم أطلق على بني إسرائيل بعد موت سليمان سنة 975 قبل المسيح فإن مملكة إسرائيل انقسمت بعد موته إلى مملكتين مملكة رحبعام بننِ سليمان ولم يتبعه إلا سِبط يهوذا وسبط بِنْيَامِين وتُلقب بمملكة يهوذا لأن معظم أتباعه من سبط يهوذا وجعل مقر مملكته هو مقر أبيه ( أورشليم ) ، ومملكة مَلِكُها يورْبعام بن بناط غلام سليمان وكان شجاعاً نجيباً فملَّكَتْه بقية الأسباط العشرة عليهم وجَعل مقر مملكته السامرة وتلقب بمَلِككِ إسرائيل إلا أنه وقومه أفسدوا الديانة الموسوية وعبدوا الأوثان فلأجل ذلك انفصلوا عن الجامعة الإسرائيلية ولم يدم ملكهم في السامرة إلا مائتين ونيفاً وخمسين سنة ثم انقرض على يد ملوك الآشوريين فاستأصلوا الإسرائيليين الذين بالسامرة وخربوها ونقلوا بني إسرائيل إلى بلاد آشور عبيداً لهم وأسكنوا بلاد السامرة فريقاً من الآشوريين فمن يومئذ لم يبق لبني إسرائيل مُلك إلا مُلك يهوذا بأورشليم يتداوله أبناءُ سليمان عليه السلام فمنذ ذلك غلب على بني إسرائيل اسم يَهود أي يَهوذا ودام ملكهم هذا إلى حد سنة 120 قبل المسيح مسيحية في زمن الأمبراطور أدريان الروماني الذي أجلى اليهود الجلاءَ الأخير فتفرقوا في الأقطار باسم اليهود هم ومن التحق بهم من فلول بقية الأسباط .

ولعل هذا وجه اختيار لفظ { الذين هادوا } في الآية دون اليهود للإشارة إلى أنهم الذين انتسبوا إلى اليهود ولو لم يكونوا من سبط يهوذا . ثم صار اسم اليهود مطلقاً على المتدينين بدين التوراة قال تعالى : { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } [ البقرة : 113 ] الآية ويقال تَهوّد إذا اتبع شريعة التوراة وفي الحديث : " يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهوِّدانِه أو ينصِّرانه أو يمَجِّسانه " ويقال هاد إذا دان باليهودية قال تعالى : { وعلى الذين هادوا حرَّمنا كل ذي ظفر } [ الأنعام : 146 ] . وأما ما في سورة الأعراف ( 156 ) من قول موسى : { إنَّا هدنا إليك } فذلك بمعنى المتاب .

وأما النصارى فهو اسم جمع نَصْرى ( فتح فسكون ) أو ناصري نسبة إلى الناصرة وهي قرية نشأت منها مريم أم المسيح عليهما السلام وقد خرجت مريم من الناصرة قاصدة بيت المقدس فولدت المسيح في بيت لحم ولذلك كان بنو إسرائيل يدعونه يشوع الناصري أو النَّصْرى فهذا وجه تسمية أتباعه بالنصارى .

وأما قوله : والصابين } فقرأه الجمهور بهمزة بعدَ الموحدة على صيغة جمع صَابىء بهمزة في آخره ، وقرأه نافع وحده بياء ساكنة بعد الموحدة المكسورة على أنه جمع صَابٍ منقوصاً فأما على قراءة الجمهور فالصابئون لعله جمع صابىء ، وصابىء لعله اسم فاعل صَبَأ مهموزاً أي ظهر وطلع ، يقال صَبَأ النجم أي طلع وليس هو من صبَا يصبو إذا مال لأن قراءة الهمز تدل على أن ترك تخفيف الهمز في غيرها تخفيف لأن الأصل توافق القراءات في المعنى . وزعم بعض علماء الأفرنج{[135]} أنهم سموا صابئة لأن دينهم أتى به قوم من سبأ . وأما على قراءة نافع فجعلوها جمع صاب مثل رام على أنه اسم فاعل من صبا يصبو إذا مال قالوا : لأن أهل هذا الدين مالوا عن كل دين إلى دين عبادة النجوم ( ولو قيل لأنهم مالوا عن أديان كثيرة إذ اتخذوا منها دينهم كما ستعرفه لكان أحسن ) .

وقيل إنما خَفَّف نافع همزة { الصابين } فجعلها ياء مثل قراءَته { سَالَ سائل } [ المعارج : 1 ] ، ومثل هذا التخفيف سماعي لأنه لا موجب لتخفيف الهمز المتحرك بعد حرف متحرك .

والأظهر عندي أن أصل كلمة الصابي أو الصابئة أوما تفرع منها هو لفظ قديم من لغة عربية أو سامية قديمة هي لغة عرب ما بين النهرين من العراق وفي « دائرة المعارف الإسلامية »{[136]} أن اسم الصابئة مأخوذ من أصل عبري هو ( ص~ ب~ ع~ ) أي غطس عرفت به طائفة ( المنديا ) وهي طائفة يهودية نصرانية في العراق يقومون بالتعميد كالنصارى .

ويقال الصابئون بصيغة جمع صابىء والصابئة على أنه وصف لمقدر أي الأمة الصابئة وهم المتدينون بدين الصابئة ولا يعرف لهذا الدّين إلا اسم الصابئة على تقدير مضاف أي دين الصابئة إضافةً إلى وصف أتباعه ويقال دين الصابئة . وهذا الدين دين قديم ظهر في بلاد الكلدان في العراق وانتشر معظم أتباعه فيما بين الخابور ودجلة وفيما بين الخابور والفرات فكانوا في البطائح وكَسْكَر في سواد واسط وفي حَرَّان من بلاد الجزيرة .

وكان أهل هذا الدين نَبَطاً في بلاد العراق فلما ظهر الفرس على إقليم العراق أزالوا مملكة الصابئين ومنعوهم من عبادة الأصنام فلم يجسروا بعد على عبادة أوثانهم . وكذلك منع الروم أهلَ الشام والجزيرة من الصابئين فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على التنصر فبطلت عبادة الأوثان منهم من ذلك الوقت وتظاهروا بالنصرانية فلما ظهر الإسلام على بلادهم اعتبروا في جملة النصارى وقد كانت صابئة بلاد كَسْكَر والبَطَائح معتبرين صنفاً من النصارى ينتمون إلى النبيء يحيى بن زكرياء ومع ذلك لهم كتب يزعمون أن الله أنزلها على شيث بن آدم ويسمونه ( أغاثاديمون ) ، والنصارى يسمونهم يُوحَنَّاسِية ( نسبة إلى يوحنا وهو يحيى ) .

وجامع أصل هذا الدين هو عبادة الكواكب السيارة والقمر وبعض النجوم مثل نجم القطب الشمالي وهم يؤمنون بخالق العالم وأنه واحد حكيم مقدس عن سمات الحوادث غير أنهم قالوا : إن البشر عاجزون عن الوصول إلى جلال الخالق فلزم التقرب إليه بواسطة مخلوقات مقربين لديه وهي الأرواح المجردات الطاهرة المقدسة وزعموا أن هذه الأرواح ساكنة في الكواكب وأنها تنزل إلى النفوس الإنسانية وتتصل بها بمقدار ما تقترب نفوس البشر من طبيعة الروحانيات فعبدوا الكواكب بقصد الاتجاه إلى رُوحانياتها ولأجل نزول تلك الروحانيات على النفوس البشرية يتعين تزكية النفس بتطهيرها من آثار القوى الشهوانية والغضبية بقدر الإمكان والإقبال على العبادة بالتضرع إلى الأرواح وبتطهير الجسم والصيام والصدقة والطيب وألزموا أنفسهم فضائل النفس الأربع الأصلية ( وهي العفة والعدالة والحكمة والشجاعة ) والأخذَ بالفضائل الجزئية ( المتشعبة عن الفضائل الأربع وهي الأعمال الصالحة ) وتجنب الرذائل الجزئية ( وهي أضداد الفضائل وهي الأعمال السيئة ) .

ومن العلماء من يقول إنهم يقولون بعدم الحاجة إلى بعثة الرسل وأنهم يعللون ذلك بأن مدعي الرسالة من البشر فلا يمكن لهم أن يكونوا واسطة بين الناس والخالق . ومن العلماء من ينقل عنهم أنهم يدعون أنهم على دين نوح . وهم يقولون إن المعلِّمَيْن الأولَيْن لدين الصابئة هما أغَاثَاد يمون وهُرمس وهما شيث بن آدم وإدريس ، وهم يأخذون من كلام الحكماء ما فيه عون على الكمال فلذلك يكثر في كلامهم المماثلة لأقوال حكماء اليونان وخاصة سولون وأفلاطون وأرسطاطاليس ، ولا يبعد عندي أن يكون أولئك الحكماء اقتبسوا بعض الآراء من قدماء الصابئة في العراق فإن ثمة تشابهاً بينهم في عبادة الكواكب وجعلها آلهة وفي إثبات إلاه الآلهة .

وقد بنوا هياكل للكواكب لتكون مهابط لأرواح الكواكب وحرصوا على تطهيرها وتطييبها لكي تألفها الروحانيات وقد يجعلون للكواكب تماثيل من الصور يتوخون فيها محاكاة صور الروحانيات بحسب ظنهم .

ومن دينهم صلوات ثلاث في كل يوم ، وقبلتهم نحو مهب ريح الشمال ويتطهرون قبل الصلاة وقراآتهم ودعواتهم تسمى الزمزمة بزايين كما ورد في ترجمة أبي إسحاق الصابىء . ولهم صيام ثلاثين يوماً في السنة ، موزعة على ثلاثة مواقيت من العام . ويجب غسل الجنابة وغسل المرأة الحائض . وتحرم العزوبة ، ويجوز للرجل تزوج ما شاء من النساء ولا يتزوج إلا امرأة صابئة على دينه فإذا تزوج غير صابئة أو تزوجت الصابئة غير صابىء خرجا من الدين ولا تقبل منهما توبة . ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ويدفنونهم في الأرض . ولهم رئيس للدين يسمونه الكمر بكاف وميم وراء .

وقد اشتهر هذا الدين في حران من بلاد الجزيرة ، ولذلك تعرف الصابئة في كتب العقائد الإسلامية بالحَرْنَانية ( بنونين نسبة إلى حرَّان على غير قياس كما في « القاموس » ) . قال ابن حزم في كتاب « الفِصَل » : كان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا فيه الحوادث فبعث الله إبراهيم عليه السلام بالحنيفية اهـ .

ودين الصابئة كان معروفاً للعرب في الجاهلية ، بسبب جوار بلاد الصابئة في العراق والشام لمنازل بعض قبائل العرب مثل ديار بكر وبلاد الأنباط المجاورة لبلاد تغلب وقضاعة . ألا ترى أنه لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم وصفه المشركون بالصابىء ، وربما دَعوه بابن أبي كبشة الذي هو أحد أجداد آمنة الزهرية أمِّ النبيء صلى الله عليه وسلم كان أظهر عبادة الكواكب في قومه فزعموا أن النبيء ورث ذلك منه وكَذَبُوا . وفي حديث عمران بن حصين أنهم كانوا في سفر مع النبيء صلى الله عليه وسلم ونفد دماؤهم فابتغوا الماء فلقوا امرأة بين مزادتين على بعير فقالوا لها : انطلقي إلى رسول الله فقالت : الذي يقال له الصابىء قالوا : هو الذين تَعنين . وساق حديث تكثير الماء .

وكانوا يُسمُّون المسلمين الصُّبَاةَ كما ورد في خبر سعد بن معاذ أنه كان صديقاً لأمية بن خلف وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية فلما هاجر النبيء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انطلق سعد ذات يوم معتمراً فنزل على أمية بمكة وقال لأمية : انظُر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت فخرج به فلقيهما أبو جهل فقال لأمية يا أبا صفوان من هذا معك قال : سعد ، فقال له أبو جهل : ألا أراك تطوف بمكة آمناً وقد أوَيْتم الصُّباةَ .

وفي حديث غزوة خالد بن الوليد إلى جذيمة أنه عرض عليهم الإسلام أو السيف فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا : صبأنا ، الحديث .

وقد قيل إن قوماً من تميم عبدوا نجم الدَّبَران ، وأن قوماً من لخم وخزاعة عبدوا الشِّعْرى العَبور ، وهو من كواكب برج الجوزاء في دائرة السرطان ، وأن قوماً من كنانة عبدوا القمر فظن البعض أن هؤلاء كانوا صابئة وأَحسب أنهم تلقفوا عبادة هذه الكواكب عن سوء تحقيق في حقائق دين الصابئة ولم يجزم الزمخشري بأن في العرب صابئة فإنه قال في « الكشاف » في تفسير سورة ( 37 ) فصلت في قوله تعالى : { لا تسجُدُوا للشمس ولا للقمر } قال : لعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين فنُهوا عن ذلك .

وقد اختلف علماء الإسلام في إجراء الأحكام على الصابئة ، فعن مجاهد والحسن أنهم طائفة بين اليهود والمجوس ، وقال البيضاوي : هم قوم بين النصارى والمجوس فمن العلماء من ألحقهم بأهل الكتاب ، ومن العلماء من ألحقهم بالمجوس ، وسبب هذا الاضطراب هو اشتباه أحوالهم وتكتمهم في دينهم ، وما دخل عليه من التخليط بسبب قهر الأمم التي تغلبت على بلادهم ، فالقسم الذي تغلَّب عليهم الفرس اختلط دينهم بالمجوسية ، والذين غَلَب عليهم الروم اختل دينهم بالنصرانية .

قال ابن شاس في كتاب > : قال الشيخ أبو الطاهر ( يعني ابن بشير التنوخي القيرواني ) مَنَعوا ذبائح الصابئة لأنهم بين النصرانية والمجوسية ( ولا شك أنه يعني صابئة العراق ، الذين كانوا قبل ظهور الإسلام على بلادهم على دين المجوسية ) .

وفي « التوضيح على مختصر ابن الحاجب الفرعي » في باب الذبائح « قال الطرطوشي : لا تؤكل ذبيحة الصابيء وليست بحرام كذبيحة المجوسي » وفيه في باب الصيد « قال مالك لا يؤكل صيد الصابيء ولا ذبيحته » .

وفي « شرح عبد الباقي على خليل » : « إنَّ أخذ الصابىء بالنصرانية ليس بقوي كما ذكره أبو إسحاق التونسي ، وعن مالك لا يتزوج المسلمُ المرأةَ الصائبة » .

قال الجصاص في تفسير سورة العقود وسورة براءة : روي عن أبي حنيفة أن الصابئة أهل كتاب ، وقال أبو يوسف ومحمد ليسوا أهل كتاب . وكان أبوالحسن الكَرخي يقول الصابئة الذين هم بناحية حَرَّانَ يعبدون الكواكب ، فليسوا أهل كتاب عندهم جميعاً .

قال الجصاص : الصابئة الذين يعرفون بهذا الاسم في هذا الوقت ليس فيهم أهل كتاب وانتحالهم في الأصل واحد أعني الذين هم بناحية حران ، والذين هم بناحية البطائح وكَسْكَر في سواد واسط ، وإنما الخلاف بين الذين بناحية حران والذين بناحية البطائح في شيء من شرائعهم وليس فيهم أهل كتاب فالذي يغلب على ظني في قول أبي حنيفة أنه شاهدَ قوماً منهم يظهرون أنهم نصارى تقيةً ، وهم الذين كانوا بناحية البطائح وكسْكر ويسميهم النصارى يُوحنَّا سِيَّة وهم ينتمون إلى يحيى بن زكرياء ، وينتحلون كتباً يزعمون أنها التي أنزلها الله على شيث ويحيى . ومن كان اعتقاده من الصابئين على ما وصفنا وهم الحرانيون الذين بناحية حران وهم عبدة أوثان لا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ولا ينتحلون شيئاً من كتب الله فلا خلاف بين الفقهاء في أنهم ليسوا أهل كتاب ، وأنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم وأبو يوسف ومحمد قالا : إن الصابئين ليسوا أهل كتاب ولم يفصلوا بين الفريقين وكذا قول الأوزاعي ومالك بن أنس اهـ . كلامه .

ووجه الاقتصار في الآية على ذكر هذه الأديان الثلاثة مع الإسلام دون غيرها من نحو المجوسية والدهريين والزنادقة أن هذا مقام دعوتهم للدخول في الإسلام والمتاب عن أديانهم التي أبطلت لأنهم أرجى لقبول الإسلام من المجوس والدهريين لأنهم يثبتون الإله المتفرد بخلق العالم ويتبعون الفضائل على تفاوت بينهم في ذلك ، فلذلك اقتصر عليهم تقريباً لهم من الدخول في الإسلام . ألا ترى أنه ذكر المجوس معهم في قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } [ الحج : 17 ] لأن ذلك مقام تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين .

وقوله تعالى : { من آمن } يجوز أن تكون { من } شرطاً في موضع المبتدأ ويكون فلهم أجرهم جواب الشرط ، والشرط مع الجواب خبر { إن } ، فيكون المعنى إن الذين آمنوا من يؤمن بالله منهم فله أجره وحذف الرابط بين الجملة وبين اسم { إن } لأن ( من ) الشرطية عامة فكان الرابط العموم الذي شمل المبتدأ أعني اسم { إن } ويكون معنى الكلام على الاستقبال لوقوع الفعل الماضي في حيز الشرط أي من يؤمن منهم بالله ويعمل صالحاً فله أجره ويكون المقصود منه فتح باب الإنابة لهم بعد أن قُرِّعوا بالقوارع السالفة وذكر معهم من الأمم من لم يذكر عنهم كفر لمناسبة ما اقتضته العلة في قوله : { ذلك بأنهم كانوا يكفرون } [ البقرة : 61 ] وتذكيراً لليهود بأنهم لا مزية لهم على غيرهم من الأمم حتى لا يتكلوا على الأوهام أنهم أحباء الله وأن ذنوبهم مغفورة . وفي ذلك أيضاً إشارة إلى أن المؤمنين الخالصين من اليهود وغيرهم ممن سلف مثل النقباء الذين كانوا في المناجاة مع موسى ومثل يوشع بن نون وكالب بن يفنه لهم هذا الحكم وهو أن لهم أجراً عند ربهم لأن إناطة الجزاء بالشرط المشتق مؤذن بالتعليل بل السابقون بفعل ذلك قبل التقييد بهذا الشرط أولى بالحكم فقد قضت الآية حق الفريقين .

ويجوز أن تكون { من } موصولة بدلاً من اسم { إن } والفعل الماضي حينئذ باق على المضي لأنه ليس ثمة ما يخلصه للاستقبال ودخلت الفاء في { فلهم أجرهم } إما على أنها تدخل في الخبر نحو قول الشاعر وهو من شواهد « كتاب سيبويه » :

وقائلة خوْلان فانكح فتاتهم . . . ونحو : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم } [ البروج : 10 ] عند غير سيبويه . وإما على أن الموصول عومل معاملة الشرط للإيذان بالتعليل فأدخلت الفاء قرينة على ذلك . ويكون المفاد من الآية حينئذ استثناء صالحي بني إسرائيل من الحكم ، بضرب الذلة والمسكنة والغضب من الله ويكون ذكر بقية صالحي الأمم معهم على هذا إشارة إلى أن هذه سنة الله في معاملته خلقه ومجازاته كلاً على فعله .

وقد استشكل ذكر { الذين آمنوا } في عداد هؤلاء ، وإجراء قوله : { من آمن بالله } عليهم مع أنهم مؤمنون فذكرهم تحصيل للحاصل ، فقيل أريد به خصوص المؤمنين بألسنتهم فقط وهم المنافقون . وقيل أراد به الجميع وأراد بمن آمن من دام بالنسبة للمخلصين ومن أخلص بالنسبة للمنافقين . وهما جوابان في غاية البعد . وقيل : يرجع قوله : { من آمن بالله واليوم الآخر } لخصوص الذين هادوا والنصارى والصابين دون المؤمنين بقرينة المقام لأنهم وصفوا بالذين آمنوا وهو حسن . وعندي أنه لا حاجة إلى شيء من ذلك ، لأن الشرط والصلة تركبت من شيئين الإيمان والعمل الصالح . والمخلصون وإن كان إيمانهم حاصلاً فقد بقي عليهم العمل الصالح فلما تركب الشرط أو الصلة من أمرين فقد علم كل أناس مشربهم وترجع كل صفة لمن يفتقر إليها كلاً أو بعضاً .

ومعنى { من آمن بالله } . الإيمان الكامل وهو الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بقرينة المقام وقرينة قوله : { وعمل صالحاً } إذ شرط قبول الأعمال الإيمان الشرعي لقوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] . وقد عد عدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة عدم الإيمان بالله لأن مكابرة المعجزات ، القائمة مقام تصديق الله تعالى للرسول المتحدي بها يؤول إلى تكذيب الله تعالى في ذلك التصديق فذلك المكابر غير مؤمن بالله الإيمان الحق . وبهذا يعلم أن لا وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } [ آل عمران : 85 ] إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال إن الله أخبر به عن مؤمني أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا على ذلك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيكون معنى الآية كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر من يؤتى أجره مرتين : " ورجل من أهل الكتاب آمن برسوله ثم آمن بي فله أجران " .

وأما القائلون بأنها منسوخة ، فأحسب أن تأويلها عندهم أن الله أمهلهم في أول تلقي دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن ينظروا فلما عَاندُوا نسخها بقوله : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه } لئلا يفضي قولهم إلى دعوى نسخ الخبر .

وقوله تعالى : { فلهم أجرهم عند ربهم } أطلق الأجر على الثواب مجازاً لأنه في مقابلة العمل الصالح والمرادبه نعيم الآخرة ، وليس أجراً دنيويَّاً بقرينة المقام وقوله : { عند ربهم } عندية مجازية مستعملة في تحقيق الوعد كما تستعمل في تحقيق الإقرار في قولهم لك عندي كذا . ووجه دلالة عند في نحو هذا على التحقق أن عند دالة على المكان فإذا أطلقت في غير ما من شأنه أن يحل في مكان كانت مستعملة في لازم المكان ، وهو وجود ما من شأنه أن يكون في مكان على أن إضافة عند لاسم الرب تعالى مما يزيد الأجر تحققاً لأن المضاف إليه أكرم الكرماء فلا يفوت الأجر الكائن عنده{[137]} .

وإنما جُمع الضمير في قوله : { أجرهم عند ربهم } مراعاة لما صدق ( مَنْ ) ، وأُفرد شرطها أوصلتها مراعاةً للفظها . ومما حسَّن ذلك هنا وجَعَله في الموقع الأعلى من البلاغة أن هذين الوجهين الجائزين عربيةً في معاد الموصولات وأسماء الشروط قد جمع بينهما على وجه أَنْبَأَ على قصد العموم في الموصول أو الشرط فلذلك أتى بالضمير الذي في صلته أو فعله مناسباً للفظه لقصد العموم ثم لما جيء بالضمير مع الخبر أو الجواب جُمِع ليكون عوداً على بدء فيرتبط باسم ( إِنَّ ) الذي جيء بالموصول أو الشرط بدلاً منه أو خبراً عنه حتى يعلم أن هذا الحكم العام مراد منه ذلك الخاص أوَّلاً ، كأنه قيل إن الذين آمنوا إلخ كل من آمن بالله وعمل إلخ فلِأُولئك الذين آمنوا أجرُهم فعُلم أنهم مما شمله العموم على نحوما يذكره المناطقة في طي بعض المقدمات للعلم به ، فهو من العام الوارد على سبب خاص .

وقوله : { ولا خوف عليهم } قراءة الجميع بالرفع لأن المنفي خوف مخصوص وهو خوف الآخرة . والتعبير في نفي الخوف بالخبر الاسمي وهو { لا خوف عليهم } لإفادة نفي جنس الخوف نفياً قاراً ، لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات ، والتعبير في نفي خوف بالخبر الفعلي وهو { يحزنون } لإفاد تخصيصهم بنفي الحزن في الآخرة أي بخلاف غير المؤمنين . ولما كان الخوف والحزن متلازمين كانت خصوصية كل منهما سارية في الآخر .

واعلم أن قوله : { فلهم أجرهم } مقابل لقوله : { وباءوا بغضب من الله } [ البقرة : 61 ] ولذلك قرن بعند الدالة على العناية والرضى . وقوله : { ولا خوف عليهم } مقابل { وضربت عليهم الذلة } [ البقرة : 61 ] لأن الذلة ضد العزة فالذليل خائف لأنه يخشى العدوان والقتل والغزو ، وأما العزيز فهو شجاع لأنه لا يخشى ضراً ويعلم أن ما قدره له فهو كائن قال تعالى : { ولله العزة ولرسوله للمؤمنين } [ المنافقون : 8 ] وقوله : { ولا هم يحزنون } مقابل قوله : { والمسكنة } لأن المسكنة تقضي على صاحبها بالحزن وتمني حسن العيش قال تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } [ النحل : 97 ] فالخوف المنفي هو الخوف الناشىء عن الذلة والحزن المنفي هو الناشىء عن المسكنة .


[135]:- انظر جديد لاروس باللغة الفرنسية.
[136]:- في فصل حرره المستشرق كارارفو.
[137]:- ذكر في هذا التقرير في حالة الدرس قصة وهي أن النعمان بن المنذر وفد عليه وفد من العرب فيهم رجل من عبس اسمه شقيق، فمرض فمات قبل أ، يأخذ حباءه فلما بلغ ذلك النعمان أمر بوضع حبائه على قبره ثم أرسل إلى أهله فأخذوه فقال النابغة في ذلك: أبقيت للعبسي فضلا ونعمــة ومحمدة من باقيات المحامـــــد حباء شقيق فوق أحجار قبره وما كان يحبي قبله قبر وافــــد أتى أهله منه حباء ونعمـــــة ورب امرئ يسعى لآخر قاعـد
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (62)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إن الذين آمنوا والذين هادوا}، يعني اليهود.

{والنصارى}، {والصائبين}: وهم قوم يصلون للقبلة، يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة...

{من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا}: من صدق منهم بالله عز وجل، بأنه واحد لا شريك له، وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، بأنه كائن.

{فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم} من نزول العذاب.

{ولا هم يحزنون}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

أما "الذين آمنوا "فهم المصدّقون رسول الله فيما أتاهم به من الحقّ من عند الله، وإيمانهم بذلك: تصديقهم به على ما قد بيناه فيما مضى من كتابنا هذا. وأما "الذين هادوا"، فهم اليهود، ومعنى هادوا: تابوا، يقال منه: هاد القوم يهودون هَوْدا وهادةً. وقيل: إنما سميت اليهود يهود من أجل قولهم: "إنا هُدْنا إلَيْكَ".

" وَالنّصَارَى": والنصارى جمع... [و] المستفيض من كلام العرب في واحد النصارى نصرانيّ... سُموا نصارى لنصرة بعضهم بعضا وتناصرهم بينهم. وقد قيل إنهم سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها «ناصرة».

ويقول آخرون: لقوله: "مَنْ أنْصارِي إلى اللّهِ".

وقد ذكر عن ابن عباس من طريق غير مرتضى أنه كان يقول: إنما سميت النصارى نصارى، لأن قرية عيسى ابن مريم كانت تسمى ناصرة، وكان أصحابه يسمون الناصريين، وكان يقال لعيسى: الناصري...

"والصابئون" جمع صابئ، وهو المستحدث سوى دينه دينا، كالمرتدّ من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب صابئا، يقال منه: صَبَأ فلان يَصْبَأ صَبْأً، ويقال: صبأت النجوم: إذا طلعت، وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا، يعني به طلع.

واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل. فقال بعضهم: يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين. وقالوا: الذين عنى الله بهذا الاسم قوم لا دين لهم.

[و] عن مجاهد، قال: الصابئون: بين المجوس واليهود، لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم...

قال ابن زيد في قوله: الصّابِئُون قال: الصابئون: دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون: «لا إلَه إلاّ الله»، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبيّ إلا قول لا إلَه إلاّ الله. قال: ولم يؤمنوا برسول الله، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون. يشبهونهم بهم.

وقال آخرون: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى القبلة...

وقال آخرون: بل هم طائفة من أهل الكتاب.

" مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ": من صدق وأقرّ بالبعث بعد الممات يوم القيامة وعمل صالحا فأطاع الله، فلهم أجرهم عند ربهم.

"فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ": فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم.

فإن قال لنا قائل: فأين تمام قوله: "إن الّذينَ آمَنُوا والّذِين هادُوا وَالنّصَارَى والصّابِئين"؟ قيل: تمامه جملة قوله: "مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ"؛ لأن معناه: من آمن منهم بالله واليوم الاَخر، فترك ذكر "منهم" لدلالة الكلام عليه استغناء بما ذكر عما ترك ذكره.

فإن قال: وما معنى هذا الكلام؟ قيل: إن معناه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من يؤمن بالله واليوم الاَخر فلهم أجرهم عند ربهم.

فإن قال: وكيف يؤمن المؤمن؟ قيل: ليس المعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته من انتقال من دين إلى دين كانتقال اليهودي والنصراني إلى الإيمان، وإن كان قد قيل إن الذين عنوا بذلك من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى، وبما جاء به، حتى أدرك محمدا صلى الله عليه وسلم، فآمن به وصدّقه، فقيل لأولئك الذين كانوا مؤمنين بعيسى وبما جاء به إذ أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم: آمنوا بمحمد وبما جاء به، ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع ثباته على إيمانه وتركه تبديله.

وأما إيمان اليهود والنصارى والصابئين، فالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، فمن يؤمن منهم بمحمد، وبما جاء به واليوم الاَخر، ويعمل صالحا، فلم يبدّل ولم يغير، حتى توفي على ذلك، فله ثواب عمله وأجره عند ربه، كما وصف جل ثناؤه...

وأما قوله: "ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون" فإنه يعني به جل ذكره: ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها عند معاينتهم ما أعدّ الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده.

عن ابن عباس قوله: "إنّ الّذِينَ آمَنُوا والذِين هادُوا وَالنّصَارَى وَالصّابِئِينَ" إلى قوله: "ولا هُمْ يَحْزَنُونَ". فأنزل الله تعالى بعد هذا: "وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ". وهذا الخبر يدلّ على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا من اليهود والنصارى والصابئين على عمله في الاَخرة الجنة، ثم نسخ ذلك بقوله: "وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ".

فتأويل الآية إذا: إن الذين آمنوا من هذه الأمة، والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن من اليهود والنصارى والصابئين بالله واليوم الاَخر، فلهُمْ أجرُهمْ عندَ ربهمْ ولاَ خَوْفٌ عليهِمْ ولاَ هُمْ يحزَنُونَ.

والذي قلنا من التأويل الأول أشبه بظاهر التنزيل، لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان بعض خلقه دون بعض منهم، والخبر بقوله: "مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ "عن جميع ما ذكر في أول الآية.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{...الَّذِينَ هَادُواْ} يعني اليهود، واختلف العلماء في سبب تسميتهم به...

[ف] قال بعضهم: لأنّهم هادوا أي مالوا عن الإسلام وعن دين موسى. يُقال: هاد يهود هوداً: إذا مال...

وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنّهم يتهوّدون أي يتحرّكون عند قراءة التوراة...

{وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيما قدّموا. {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما خلّفوا، وقيل: لا خوف عليهم بالخلود في النار، ولا يحزنون بقطيعة الملك الجبّار، ولا خوف عليهم من الكبائر وإنّي أغفرها، ولا هم يحزنون على الصغائر فأنّي أكفّرها. وقيل: لا خوف عليهم فيما تعاطوا من الإجرام، ولا هم يحزنون على ما اقترفوا من الآثام لما سبق لهم من الإسلام الآثام...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{وَالَّذِينَ هَادُوا} هم اليهود، وفي تسميتهم بذلك، ثلاثة أقاويل: أحدها: نُسِبُوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب، فقلبت العربُ الذال دالاً، لأن الأعجمية إذا عُرِّبت، غيرت من لفظها...

{والصابئين}، جمع، واحده: صبائي...

واخْتُلِف في المأخوذ منه هذا الاسم، على ثلاثة أقاويل:

والثالث: أنه مأخوذ من قولهم: صبا يصبو، إذا مال إلى الشيء وأحبه، وهذا قول نافع؛ ولذلك لم يهمز...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

إن الذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون {والذين هَادُواْ} والذين تهوّدوا... {والنصارى} وهو جمع نصران. يقال: رجل نصران، وامرأة نصرانة... والياء في نصرانيّ للمبالغة كالتي في أحمريّ. سموا لأنهم نصروا المسيح. {والصابئين} وهو من صبأ: إذا خرج من الدين، وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة {مَنْ ءامَنَ} من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً ودخل في ملة الإسلام دخولاً أصيلاً {وَعَمِلَ صالحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} الذي يستوجبونه بإيمانهم وعملهم.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

لما بين [الله] تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم، وما أحلّ بهم من النكال، نبه تعالى على أن مَنْ أحسن من الأمم السالفة وأطاع، فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة؛ كُلّ من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هُمْ يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]...

فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتمًا للنبيين، ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقُه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر. وهؤلاء هم المؤمنون [حقا] 503. وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

سبب ما نزل باليهود إنما هو عصيانهم واعتداؤهم حدود ما شرع الله لهم، وسنن الله في خلقه لا تتغير وأحكامه العادلة فيهم لا تتبدل، لهذا جاء قوله تعالى {إن الذين آمنوا} الخ بمنزلة الاستثناء من حكم الآية السابقة وإنما ورد على هذا الأسلوب البديع متضمنا لجميع من تمسك بهدى نبي سابق وانتسب إلى شريعة سماوية ماضية، ليدل على أن الجزاء السابق – وإن حكى على أنه من خطأ اليهود خاصة، -لم يصبهم إلا لجريمة قد تشمل الشعوب عامة وهي الفسوق عن أوامر الله وانتهاك حرماته، فكل من أجرم كما أجرموا سقط عليه من غضب الله ما سقط عليهم، وعلى أن الله جل شأنه لم يأخذهم بما أخذهم لأمر يختص بهم على أنهم من شعب إسرائيل أو من ملة يهود بل {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}. وأما أنساب الشعوب وما تدين به من دين وما تتخذه من ملة فكل ذلك لا أثر له في رضاء الله ولا غضبه، ولا يتعلق به رفعة شأن قوم ولا ضعتهم، بل عماد الفلاح ووسيلة الفوز بخيري الدنيا والآخرة إنما هو صدق الإيمان بالله تعالى بأن يكون التصديق به سطوعا على النفس من مشرق البرهان، أو جيشانا في القلب من عين الوجدان، فيكون الاعتقاد بوجوده وصفاته خاليا من شوب التشبيه والتمثيل، واليقين في نسبة الأفعال إليه خالصا من وساوس الوهم والتخييل ويكون المؤمن قد ارتقى بإيمانه مرتقى يشعر فيه بالجلال الإلهي. فإذا رفع بصره إلى الجناب الأرفع أغضى هيبة وأطرق إلى أرض العمودية خشوعا، وإذا أطلق نظره فيما بين يديه، مما سلطه الله عليه، شعر في نفسه عزة الله، ووجد فيها قوة تصرفه بالحق فيما يقع تحت قواه. لا يعدو حدا ضرب له، ولا يقف دون غاية قدر له أن يصل إليها، فيكون عبد الله وحده، سيدا لكل شيء بعده...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولم يشهد تاريخ أمة ما شهده تاريخ إسرائيل من قسوة وجحود واعتداء وتنكر للهداة. فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عددا من أنبيائهم -وهي أشنع فعلة تصدر من أمة مع دعاة الحق المخلصين- وقد كفروا أشنع الكفر، واعتدوا أشنع الاعتداء، وعصوا أبشع المعصية. وكان لهم في كل ميدان من هذه الميادين أفاعيل ليست مثلها أفاعيل! ومع هذا كله فقد كانت لهم دعاوى عريضة عجيبة. كانوا دائما يدعون أنهم هم وحدهم المهتدون...

وهنا يكذب القرآن هذه الدعوى العريضة، ويقرر قاعدة من قواعده الكلية، التي تتخلل القصص القرآني، أو تسبقه أو تتلوه. يقرر قاعدة وحدة الإيمان... ووحدة العقيدة، متى انتهت إلى إسلام النفس لله، والإيمان به إيمانا ينبثق منه العمل الصالح. وإن فضل الله ليس حجرا محجورا على عصبية خاصة، إنما هو للمؤمنين أجمعين، في كل زمان وفي كل مكان، كل بحسب دينه الذي كان عليه، حتى تجيء الرسالة التالية بالدين الذي يجب أن يصير المؤمنون إليه...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

توسطت هاته الآية بين آيات ذكر بني إسرائيل بما أنعم الله عليهم وبما قابلوا به تلك النعم من الكفران وقلة الاكتراث، فجاءت معترضة بينها لمناسبة يدركها كل بليغ، وهي أن ما تقدم من حكاية سوء مقابلتهم لنعم الله تعالى قد جرت عليهم ضرب الذلة والمسكنة ورجوعهم بغضب من الله تعالى عليهم، ولما كان الإنحاء عليهم بذلك من شأنه أن يفزعهم إلى طلب الخلاص من غضب الله تعالى، لم يترك الله تعالى عادته مع خلقه من الرحمة بهم وإرادته صلاح حالهم فبين لهم في هاته الآية أن باب الله مفتوح لهم وأن اللجأ إليه أمر هين عليهم وذلك بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات...

وابتُدىء بذكر المؤمنين للاهتمام بشأنهم ليكونوا في مقدمة ذكر الفاضلين فلا يذكر أهلُ الخير إلا ويذكرون معهم...

ومن بديع البلاغة أن قرن معهم في ذلك ذكر بقية من الأمم ليكون ذلك تأنيساً لوحشة اليهود من القوارع السابقة في الآيات الماضية وإنصافاً للصالحين منهم، واعترافاً بفضلهم، وتبشيراً لصالحي الأمم من اليهود وغيرهم الذين مضوا مثل الذين كانوا قبل عيسى وامتثلوا لأنبيائهم، ومثل الحواريين، والموجودين في زمن نزول الآية مثل عبد الله بن سَلاَم وصهيب، فقد وفَّت الآية حق الفريقين من الترغيب والبشارة، وراعت المناسبتيْن للآيات المتقدمة مناسبةَ اقتران الترغيب بالترهيب، ومناسبةَ ذكر الضد بعد الكلام على ضده.

فمجيء {إنَّ} هنا لمجرد الاهتمام بالخبر وتحقيقِه لدفع توهم أن ما سبق من المذمات شامل لجميع اليهود، فإن كثيراً من الناس يتوهم أن سلف الأمم التي ضَلَّت كانوا مثلهم في الضلال...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

الذين آمنوا أولا مع آدم أو مع الرسل الذين جاءوا بعده لمعالجة الداءات التي وقعت... ثم الذين تسموا باليهود، والذين تسموا بالنصارى، والذين تسموا بالصابئة... فالله تبارك وتعالى يريد أن يبلغهم... فمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون... فكأن رسالته عليه الصلاة والسلام جاءت لتصفية كل الأديان السابقة... وكل إنسان في الكون مطالب بأن يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام... فقد دعا الناس كلهم إلى الإيمان برسالته... ولو بقي إنسان من عهد آدم أو من عهد إدريس أو من عهد نوح أو إبراهيم أو هود... [ف] وأولئك الذين نسبوا إلى اليهودية وإلى النصرانية وإلى الصابئية... كل هؤلاء مطالبون بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والتصديق بدين الإسلام...

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :

مناسبة الآية ومعناها:

لما كانت الآية في سياق دعوة اليهود إلى الإسلام ناسب أن يعلموا أن النِّسَبَ لا قيمة لها وإنما العبرة بالإيمان الصحيح والعمل الصالح المزكي للروح البشرية والمطهر لها فلِذا المسلمون واليهود والنصارى والصابئون وغيرهم كالمجوس وسائر أهل الأديان من آمن منهم بالله واليوم الآخر حق الإيمان وعمل صالحاً مما شرع الله تعالى من عبادات فلا خوف عليهم بعد توبتهم ولا حزن ينتابهم عند موتهم من أجل ما [تذكروا] من الدنيا، إذ الآخرة خير وأبقى.

والإيمان الصحيح لا يتم لأحد إلا بالإيمان بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم والعمل الصالح لا يكون إلا بما جاء به النبي الخاتم في كتابه وما أوحى إليه، إذ بشريعته نسخ الله سائر الشرائع قبله وبالنسخ بطل مفعولها فهي لا تزكى النفس ولا تطهرها.

والسعادة الأخروية متوقفة على زكاة النفس وطهارتها.

الهداية: من الهداية:

- العبرة بالحقائق لا بالألفاظ فالمنافق إذا قال هو مؤمن أو مسلم، ولم يؤمن بقلبه ولم يسلم بجوارحه لا تغنى النسبة عنه شيئاً، واليهودي والنصراني والصابئ وكل ذي دين نسبته إلى دين قد نسخ وبطل العمل بما فيه فأصبح لا يزكى النفس، هذه النسبة لا تنفعه، وانما الذي ينفع الإيمان الصحيح والعمل الصالح.

-أهل الإيمان الصحيح والاستقامة على شرع الله الحق مبشرون بنفي الخوف عنهم والحزن وإذا انتفى الخوف حصل الأمن وإذا انتفى الحزن حصل السرور والفرح وتلك السعادة...

جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :

..والعمل الصالح أثر من آثار الإيمان لا يمكن انفكاكه عنه كما لا ينفكُّ الظلُّ عن الجسم لأن الإيمان بالله واليوم الآخر يقتضيان الانقياد لله في حكمه والإِذعان له في أمره، كيف والآمر الناهي هو الله الخالق الكريم الذي منه المبدأ وإليه الرُّجعى، والذي يجزي كل أحدٍ بما عمل: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.

والعمل الصالح ما وافق أمر الله ونهيه فيدخل فيه اجتناب المنهيات لأن الخير لا يجتمع مع ضده، والاكتفاء بإجماله في الآية لمعرفة الفئات المذكورة فيها بتفاصيله بما عندهم من علم الكتاب. وإن من الأعمال الصالحة ما لم تختلف فيه الكتب المنزّلة، كإفراد الله بالعبادة، واجتناب كل ما أدّى إلى الإِشراك به أو أدنى منه، وعون الضعفاء وإغاثة الملهوفين ونصرة المظلومين، ومعاملة الناس بالحسنى.

والأجر: الجزاء، وسُمِّيَ جزاؤهم أجراً لأنهم أُمروا فامثتلوا وحُمِّلوا فتحمَّلوا، فكانت أعمالهم كأعمال الأجير الذي يطمع في صاحب العمل أن يُوفِّيه أجره،

وكونه {عِندَ رَبِّهِمْ} مما يضاعف طمأنينتهم فإنه في مستودع آمن، وقرارٍ مكين، إذ لا يصل إليه مختلس ولا غادر وإنما يوفِّيهم إياه ربُّهم كما وعدهم به.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

القانون العام للنّجاة:

بعد عرض لمقاطع من تاريخ بني إسرائيل، تطرح هذه الآية الكريمة مبدأ عاماً في التقييم وفق المعايير الإلهية. وهذا المبدأ ينص على أن الإِيمان والعمل الصالح هما أساس تقييم الأفراد، وليس للتظاهر والتصنّع قيمة في ميزان الله

[و] هذه الآية تكررت مع اختلاف يسير في سورة المائدة، الآية 72 وفي سورة الحج الآية 17. [ف] سياق الآية في سورة المائدة يشير إلى أن اليهود والنصارى فخِروا بدنيهم، واعتبروا أنفسهم أفضل من الآخرين، وادّعوا بأن الجنّة خاصة بهم دون غيرهم. ولعل مثل هذا التفاخر صدر عن بعض المسلمين أيضاً، ولذلك نزلت هذه الآية الكريمة لتؤكد أن الإِيمان الظاهري لا قيمة له في الميزان الإلهي، سواء في ذلك المسلمون واليهود والنصارى وأتباع الأديان الأخرى. ولتقول الآية أيضاً: إن الأجر عند الله يقوم على أساس الإِيمان الحقيقي بالله واليوم الآخر إضافة إلى العمل الصالح. وهذا الأساس هو الباعث الوحيد للسعادة الحقيقة والابتعاد عن كل خوف وحزن.