ثم أعلم تعالى بأن باب التوبة مفتوح على الوجه العامّ لليهود وغيرهم . وأن من ارتكب كبائر الذنوب التي تستوجب الغضب الإلهيّ ، وضربَ الذلة والمسكنة ، كما حل باليهود ، إذا آمن وتاب فله في الدنيا والآخرة ما للمؤمنين . وعادة التنزيل جارية بأنه متى ذكر وعد أو وعيد ، عقب بضده ليكون الكلام تاما فقيل : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون 62 } .
أي إن الذين آمنوا بما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، وصاروا من جملة أتباعه . قال في ( فتح البيان ) : كأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية ، وحال من قبلها من سائر الملل ، يرجع إلى شيء واحد ، وهو أن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا استحق ما ذكره الله من الأجر . ومن فاته ذلك فاته الخير كله ، والأجر دقه وجله . والمراد بالإيمان ههنا هو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله ، لما سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان / فقال{[597]} : ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره ) .
ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية . فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا بالقرآن ، فليس بمؤمن . ومن آمن بهما صار مسلما مؤمنا ، ولم يبق يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا مجوسيًّا . انتهى .
قال الراغب في ( تفسيره ) : تقدم أن الإيمان يستعمل على وجهين : أحدهما الإقرار بالشهادتين ، الذي يؤمن نفس الإنسان ، وماله عن الإباحة إلا بحق ، وذلك بعد استقرار هذا الدين مختص به كالإسلام . والثاني تحري اليقين فيما يتعاطاه الإنسان من أمر دينه . فقوله : / { إن الذين آمنوا } عنى به المتدين بدين محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله { من آمن بالله } عنى به المتحري للاعتقاد اليقينيّ ، فهو غير الأول . ولما كانت مشاهير الأديان هذه الأربع ، بيّن تعالى أن كل من تعاطى دينا من هذه الأديان في وقت شرعه ، وقبل أن ينسخ ، فتحرى في ذلك الاعتقاد اليقينيّ ، وأتبع اعتقاده بالأعمال الصالحة ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
ثم قال : وقول ابن عباس : ( إن هذا منسوخ بقوله : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } {[598]} يعنون أن هذه الأديان كلها منسوخة بدين الإسلام ، وأن الله عز وجل جعل لهم الأجر قبل وقت النبي عليه السلام ، فأما في وقته ، فالأديان كلها منسوخة بدينه . اه . أي فليس مراد ابن عباس ، ومن وافقه ، أنه تعالى كان وعد من عمل صالحا من اليهود ، ومن ذكر معهم ، على عمله ، في الآخرة ، الجنة ، ثم نسخه بآية { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } بل مراده ما ذكر الراغب . وهذا ما لا شبهة فيه . ولذا قال ابن جرير : ظاهر التنزيل يدل على أنه تعالى لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان ، بعض خلقه دون بعض منهم ، والخبر بقوله : { من آمن بالله واليوم الآخر } عن جميع ما ذكر في أول الآية .
ظاهر هذه الآية ، مع تفسير الراغب { من آمن } بالمتحري للاعتقاد اليقينيّ ، مما قد يستدل به العنبريّ لمذهبه . فقد نقل الأصوليون في باب الاجتهاد والتقليد أن العنبريّ ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب ، حتى في الأصول ، ووافقه الجاحظ . قال الغزاليّ في ( المستصفى ) : ذهب الجاحظ إلى مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية ، إن كان معاندا على خلاف اعتقاده ، فهو آثم . وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور / غير آثم . وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر ، فهو أيضا معذور . وإنما الآثم المعذب ، المعاند فقط . لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها . وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ، ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى ، إذ استد عليهم طريق المعرفة . ثم ردّه الغزاليّ بأدلة سمعية ضرورية ، وذلك مثل معرفتنا ضرورة أمره عليه السلام اليهود والنصارى بالإيمان به ، وذمهم على إصرارهم على عقائدهم ، وذلك لا ينحصر في الكتاب والسنة .
ثم قال الغزاليّ : وأما قوله – أي الجاحظ - : كيف يكلفهم ما لا يطيقون ؟ قلنا : نعلم ضرورة أنه كلفهم ، أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون ، فلننظر فيه ، بل نبه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل ، ونصب من الأدلة ، وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات ، الذين نبّهوا العقول ، وحركوا دواعي النظر ، حتى لم يبق على الله لأحد حجة بعد الرسل اه .
وقوله : { والذين هادوا } أي تهودوا . يقال : هاد يهود ، وتهوّد ، إذا دخل في اليهودية . وهو هائد ، والجمع هود . وهم أمة موسى عليه السلام ، وإنما لزمهم هذا الاسم ، لأن الإسرائيليين الذين رجعوا من جلاء سبعين سنة ، ومن سبْي بابل إلى وطنهم القديم ، كان أكثرهم من نسل يهوذا بن يعقوب ( بالذال المعجمة – فقلبتها العرب دالاً مهملة ) .
وقوله تعالى : { والنصارى } جمع نصران ، كندامى جمع ندمان ، يقال : رجل نصران ، وامرأة نصرانة ، والياء في نصرانيّ للمبالغة ، كما في أحمريّ ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام – كذا في ( الكشاف ) – أو هو جمع نصرانيّ ، مغيّر عن ناصريّ ، نسبة إلى ناصرة – القرية المعروفة – وقد نسب إليها المسيح عليه السلام ، لأنه رُبِّي بها . وجاء في الإنجيل ( يسوع الناصري ) .
وقوله تعالى : { والصابئين } جمع صابئ ، ويقال لهم الصابئة . قال ابن جرير : الصابئ هو المستحدث ، سوى دينه ، دينا ، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه . وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب " صابئاً " يقال منه : صبا فلان يصبو صباء ، ويقال : صبأت النجوم إذا طلعت .
وقد اختلف أهل / التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم ، من أهل الملل . فقال بعضهم : يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين . وقالوا : الذي عنى الله بهذا الاسم قوما لا دين لهم . فعن مجاهد : الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى ، ولا دين لهم . وعن ابن زيد : الصابئون دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل ، يقولون لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبيّ . وعن قتادة : أنهم قوم يعبدون الملائكة . اه .
وقال الإمام الشهرستانيّ ، في الكلام عن الصابئة ما مثاله : والصبوة في مقابلة الحنيفية . وفي اللغة : صبا الرجل إذا مال وزاغ . فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم : الصابئة . وهم يقولون : الصبوة هي الانحلال عن قيد الرجال . وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين ، كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين . والصابئة تدعي أن مذهبها هو الاكتساب ، والحنفاء تدعي أن مذهبها هو الفطرة . فدعوة الصابئة إلى الاكتساب ، ودعوة الحنفاء إلى الفطرة . فالصابئة قوم يقولون بحدود وأحكام عقلية ، ولا يقولون بالشريعة والإسلام . فيقابلون أرباب الديانات تقابل التضاد . والصابئة الأولى الذين قالوا بعاذ يمون وهرمس ، وهما شيت وإدريس ، ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء . وهم أصحاب الروحانيات . فيعتقدون أن للعالم صانعا حكيما مقدّسا عن سمات الحدثان . والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله ، وإنما يُتَقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه ، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهراً وفعلاً وحالة . أما الجوهر فهم المقدسون عن المواد الجسمانية ، الذين جبلوا على الطهارة ، وفطروا على التقديس والتسبيح ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . قالوا فنحن نتقرب إليهم ونتوكلّ عليهم ، منهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند الله ، وهو رب الأرباب . وأما الفعل ، فقالوا : الروحانيات هم الأسباب المتوسطون في الاختراع وتصريف الأمور من حال إلى حال ، يستمدون القوة من الحضرة الإلهية ، ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية ، / فمنها مدبرات الكواكب السبع السيارة في أفلاكها وهي هياكلها . ولكل روحانيٍّ هيكلٌ ، ولكل هيكل فلكٌ ، ونسبة الروحانيّ إلى ذلك الهيكل الذي اختصّ به نسبة الروح إلى الجسد ؛ فهو ربه ومدبره . وكانوا يسمون الهياكل أربابا ، وربما يسمونها آباء ، والعناصر أمهات . ففعل الروحانيات : تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر ، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات ، فيتبعها قوى جسمانية ويركب عليها نفوس روحانية : مثل أنواع النبات وأنواع الحيوان ثم قد تكون التأثيرات كليّة صادرة عن روحانيٍّ كليٍّ ، وقد تكون جزئية صادرة عن روحانيٍّ جزئيٍّ . فمع جنس المطر ملك ، ومع كل قطرة ملك . ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجوّ مما يصعد من الأرض فينزل ، مثل الأمطار والثلوج والبرد والرياح ، وما ينزل من السماء : مثل الصواعق والشهب ؛ وما يحدث في الجو من الرعد والبرق والسحاب والضباب وقوس قزح وذوات الأذناب والهالة والمجرة ؛ وما يحدث في الأرض من الزلازل والمياه والأبخرة ، إلى غير ذلك . قالوا : وأما الحالة ، فأحوال الروحانيات من الروح والريحان والنعمة واللذة والسرور في جوار رب الأرباب كيف يخفى ؟ هذا ملخص ما أفاده العلامة الشهرستانيّ في كتاب ( الملل والنحل ) ثم ساق مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء جرت في المفاضلة بين الروحانيّ المحض والبشرية النبوية ، وأوردها على شكل سؤال وجواب ، فلتنظر ثَمَّ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ( في الرد على المنطقين ) إن حَرَّان كانت دار هؤلاء الصابئة ، وفيها ولد إبراهيم عليه السلام ( أو انتقل إليها من العراق . على اختلاف القولين ) وكان بها هيكل العلّة الأولى . هيكل العقل الأول ، هيكل النفس الكلية ، هيكل زحل . هيكل المشتري . هيكل المريخ ، هيكل الشمس . وكذلك الزهرة وعطارد والقمر . وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم . ثم ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة / المشركين ، حتى جاء الإسلام . ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت . ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها ، أطباء وكتابا ، وبعضهم لم يُسلم . وكذلك كان دين أهل دمشق وغيرها قبل ظهور النصرانية . وكانوا يصلّون إلى القطب الشمالي . وتحت جامع دمشق معبد كبير له قبلة إلى القطب الشمالي كان لهؤلاء . فإن الصابئة نوعان : صابئة حنفاء موحّدون ، وصابئة مشركون . فالأول هم الذين أثنى عليهم بهذه الآية . فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا . من هذه الملل الأربع : المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين . فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل ، وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل . والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء كالمتبعين ملة إبراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإنجيل . وهذا بخلاف المجوس والمشركين ، فإنه ليس فيهم مؤمن . فلهذا قال تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة * إن الله على كل شيء شهيد } {[599]} فذكر الملل الست هؤلاء ، وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيامة . لم يذكر في الست من كان مؤمنا ، وإنما ذكر في الأربعة فقط . ثم إن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين . والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين . وأما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا ، ويؤمنون بأن الله محدِثٌ لهذا العالم ، ويقرون بمعاد الأبدان ، فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم . ثم المشركون من الصابئة كانوا يقرّون بحدوث هذا العالم كما كان المشركون من العرب يقرون بحدوثه . وكذلك المشركون من الهند . وقد ذكر أهل المقالات أن أول من ظهر عنه القول بقدمه من هؤلاء الفلاسفة المشركين ، هو أرسطو . انتهى .
وما قرره الإمام ابن تيمية ، يؤيد ما ذهب إليه كثير من المفسرين ، من أن معنى / قوله تعالى : { من آمن } من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ ، مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد ، عاملا بمقتضى شرعه ، وذلك كأهل الكتابين أو كان من الصابئة الموحدين . وذهب آخرون إلى أن معنى قوله : { من آمن } من أحدث من هذه الطوائف ، إيمانا خالصا بما ذكر . قالوا : لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام . وأما بيان حال من مضى على دين آخر قبل انتساخه ، فلا ملابسة له بالمقام ، والصابئون ليس لهم دين يجوز رعايته في وقت من الأوقات . فليتأمل .
وقوله تعالى : { فلهم أجرهم } أي : الذي وعدوه على تلك الأعمال المشروطة بالإيمان ، وهو في الأصل جعل العامل على عمله . وفي قوله : { عند ربهم } مزيد لطف بهم وإيذان بأن أجرهم متيقن الثبوت ، مأمون من الفوات . وقوله تعالى : { ولا خوف عليهم } أي حين يخاف الكفار العقاب ويحزنون على تفويت الثواب .
قال العلامة البقاعيّ في ( تفسيره ) : وحسَّنَ وضعَ هذه الآية ، في أثناء قصصهم ، أنهم كانوا مأمورين بقتل كل ذَكَر ممن عداهم . وربما أمروا بقتل النساء أيضا . فربما ظن من ذلك أن من آمن من غيرهم لا يقبل . وقد ذكر منه في سورة المائدة ، وفي وضعها أيضا في أثناء قصصهم ، إشارة إلى تكذيبهم في قولهم : { ليس علينا في الأميين سبيل } {[600]} وأن المدار في عصمة الدم والمال إنما هو الإيمان والاستقامة . وذلك موجود في نص التوراة في غير موضع . وفيها تهديدهم على المخالفة في ذلك بالذل والمسكنة . وسيأتي بعض ذلك عند قوله : { لا تعبدون إلا الله } {[601]} الآية . بل وفيها ما يقتضي المنع من مال المخالف / في الدين ، فإنه قال في وسط السفر الثاني : وإذا لقيت ثور عدوّك أو حماره وعليه حمولة فارددها إليه . وإذا رأيت حمار عدوك جاثما تحت حمله فهممت أن لا توازرْهُ فوازرْهُ وساعدْهُ .