الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (62)

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ } يعني اليهود ، واختلف العلماء في سبب تسميتهم به . فقال بعضهم : سمّوا بذلك لأنهم هادوا أي تابوا من عبادة العجل ، كقوله أخباراً عنهم : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] .

وأنشد أبو عبيدة :

إنّي امرؤ من مدحه هائد

أي تائب .

وقال بعضهم : لأنّهم هادوا أي مالوا عن الإسلام وعن دين موسى . يُقال : هاد يهود هوداً : إذا مال . قال امرؤ القيس :

قد علمت سلمى وجاراتها *** أنّي من الناس لها هائد

أي إليها مائل .

وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنّهم يتهوّدون أي يتحرّكون عند قراءة التوراة ، ويقولون : إنّ السموات والأرض تحرّكت حين أتى الله موسى التوراة .

وقرأ أبو السمّاك العدوي واسمه قعنب : هادَوا بفتح الدال من المهاداة ، أي مال بعضهم الى بعض في دينهم . { وَالنَّصَارَى } واختلفوا في سبب تسميتهم بهذا الاسم ، فقال الزهري : سمّوا نصارى لأنّ الحواريّين قالوا : نحن أنصار الله .

مقاتل : لأنّهم تولوا قرية يُقال لها : ناصرة ، فنُسبوا إليها .

وقال الخليل بن أحمد : النصارى : جمع نصران ، كقولهم : ندمان وندامى .

وأنشد :

تراه إذا دار العشيّ محنّفاً *** ويضحى لربّه وهو نصران شامس

فنسبت فيه ياء النسبة كقولهم لذي اللحية : لحياني ، ورقابي لذي الرقبة .

فقال الزجاج : يجوز أن يكون جمع نصري كما يُقال : بعير حبري ، وإبل حبارى ، وإنما سمّوا نصارى لاعتزائهم إلى نصرة وهي قرية كان ينزلها عيسى وأمّه . { وَالصَّابِئِينَ } قرأ أهل المدينة بترك الهمزة من الصّابئين والصّابئون الصّابين والصّابون في جميع القرآن ، وقرأ الباقون بالهمز وهو الأصل ، يُقال : صبا يصبوا صبوءاً ، إذا مال وخرج من دين إلى دين .

قال الفرّاء : يُقال لكل من أحدث ديناً : قد صبأ وأصبأ بمعنى واحد ، وأصله الميل ، وأنشد :

إذا أصبأت هوادي الخيل عنّا *** حسبت بنحرها شرق البعير

واختلفوا في الصّابئين من هم :

قال عمر : هم طائفة من أهل الكتاب ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب ، وبه قال السدي .

وقال ابن عباس : لا تحل ذبائحهم ولا مناكحة نسائهم .

وقال مجاهد : هم قبيلة نحو الشّام بين اليهود والمجوس لا دين لهم .

وقال السدي : هم طائفة من أهل الكتاب ، وهو رأي أبي حنيفة .

وقال قتادة ومقاتل : هم قوم يقرّون بالله عزّ وجلّ ، ويعبدون الملائكة ، ويقرأون الزبور ويصلّون إلى الكعبة ، أخذوا من كل دين شيئاً .

الكلبي : هم قوم بين اليهود والنصارى ، يحلقون أوساط رؤوسهم ويُحبّون ذاكرهم .

عبد العزيز بن يحيى : درجوا وانقرضوا فلا عين ولا أثر . { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } اختلفوا في حكم الآية ومعناها ، ولهم فيها طريقان :

أحدهما : إنّه أراد بقوله { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } على التحقيق وعقد التصديق ، ثم اختلفوا في هؤلاء المؤمنين من هم ؟ فقال قوم : هم الذين آمنوا بعيسى ثم لم يتهوّدوا ولم يتنصّروا ولم يصبئوا ، وانتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون : هم طلاّب الدين ، منهم : حبيب النجّار ، وقيس بن ساعدة ، وزيد بن عمرو ابن نفيل ، وورقة بن نوفل ، والبراء السّندي ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، ويحيى الراهب ، ووفد النجاشي . آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، فمنهم من أدركه وتابعه ، ومنهم من لم يدركه .

وقيل : هم مؤمنو الأمم الماضية .

وقيل : المؤمنون من هذ الأُمة . { وَالَّذِينَ هَادُواْ } يعني الذين كانوا على دين موسى عليه السلام ولم يبدّلوا ولم يغيّروا . { وَالنَّصَارَى } : الذين كانوا على دين عيسى عليه السلام ولم يبدّلوا وماتوا على ذلك .

قالوا : وهذان اسمان لزماهم زمن موسى وعيسى ( عليهما السلام ) ، حيث كانوا على الحق فبقي الاسم عليهم كما بقي الإسلام على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم والصابئين زمن استقامتهم من آمن منهم أي مات منهم وهو مؤمن ؛ لأنّ حقيقة الإيمان المؤاخاة .

قال : ويجوز أن تكّون الواو فيه مضمراً : أي ومن آمن بعدك يا محمد إلى يوم القيامة .

والطريق الآخر : إنّ المذكورين في أول الآية بالإيمان إنّما هو على طريق المجاز والتسّمية دون الحكم والحقيقة ، ثمّ اختلفوا فيه :

فقال بعضهم : إنّ الذين آمنوا بالأنبياء الماضين والكتب المتقدمة ولم يؤمنوا بك ولا بكتابك .

وقال آخرون : يعني به المنافقين أراد : إنّ الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ النساء : 136 ] ، والذين هادوا : أي اعتقدوا اليهودية وهي الدين المبدّل بعد موسى عليه السلام ، والنصارى : هم الذين اعتقدوا النصرانية والدّين المبدّل بعد عيسى ، والصابئين : يعني أصناف الكفّار من آمن بالله من جملة الأصناف المذكورين في الآية .

وفيه اختصار وإضمار تقديره : من آمن منهم بالله واليوم الآخر ؛ لأنّ لفظ ( من ) يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث .

قال الله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } [ الأنعام : 25 ] { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ } [ يونس : 43 ] { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] . قال { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ } [ الأحزاب : 31 ] ، وقال الفرزدق في التشبيه :تعال فإن عاهدتني لا تخونني *** تكن مثل من ناديت يصطحبان { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما قدّموا . { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما خلّفوا ، وقيل : لا خوف عليهم بالخلود في النار ، ولا يحزنون بقطيعه الملك الجبّار ، ولا خوف عليهم من الكبائر وإنّي أغفرها ، ولا هم يحزنون على الصغائر فأنّي أكفّرها .

وقيل : لا خوف عليهم فيما تعاطوا من الإجرام ، ولا هم يحزنون على ما اقترفوا من الآثام لما سبق لهم من الإسلام الآثام .