فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (62)

{ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .

{ إن الذين آمنوا } قيل أن المراد بهم المنافقون بدلالة جعلهم مقترنين باليهود والنصارى والصابئين أي آمنوا في الظاهر ، والأولى أن يقال أن المراد الذين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا من جملة أتباعه ، وكأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية وحال من قبلها من سائر الملل يرجع إلى شيء واحد وهو أن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا استحق ما ذكره الله من الأجر ، ومن فاته الخير كله ، والأجر دقه وجله .

بالإيمان ههنا هو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لما سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان فقال { أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره } ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية ، فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا بالقرآن فليس بمؤمن ، ومن آمن بهما صار مسلما مؤمنا ولم يبق يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا .

{ والذين هادوا } معناه صاروا يهودا قيل هو نسبة لهم إلى يهوذا ابن يعقوب بالذال المعجمة فقلبتها العرب دال مهملة ، وقيل معنى هادوا تابوا لتوبتهم عن عبادة العجل ، ومنه قوله تعالى { إنا هدنا إليك } أي تبنا ، وقيل أن معناه السكون والموادعة وقال في الكشاف معناه دخل في اليهودية .

{ والنصارى } قال سيبويه مفرده نصران ونصرانة كندمان وندمانة ، ولكن لا يستعمل إلا بياء النسب ، فيقال رجل نصراني وامرأة نصرانية ، وقال الخليل واحد النصارى نصري ، وقال الجوهري ونصران قرية بالشام تنسب إليها النصارى ، ويقال ناصرة فعلى هذا فالياء للنسب ، وقال في الكشاف أن الياء للمبالغة كالتي في أحمري سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح .

{ والصابئين } جمع صابئ وقيل صاب ، والصابئ في اللغة من خرج ومال من دين إلى دين ، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ ، وسموا هذه الفرقة صابئة لأنها خرجت من دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة وقيل عبدوا الكواكب ، وقال البيضاوي إنهم قوم بين اليهود والمجوس انتهى ، ثم جعل هذا اللقب علما لطائفة من الكفار ، وقيل هم يدعون أنهم على دين صابئ ابن شيث ابن آدم والأول أولى .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه في الرد على المنطقيين إن حران كانت دار هؤلاء الصابئة وفيها ولد إبراهيم عليه السلام أو انتقل إليها من العراق على اختلاف القولين ، وكان بها هيكل العلة هيكل العقل الأول هيكل النفس الكلية هيكل زحل هيكل المشتري هيكل المريخ هيكل الشمس ، وكذلك الزهرة وعطارد والقمر ، وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم ، ثم ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة المشركين حتى جاء الإسلام ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت ، ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها أطباء وكتابا وبعضهم لم يسلم .

ولما قدم الفارابي حران في أثناء المائة الرابعة دخل عليهم وتعلم منهم وأخذ عنهم ما أخذ من المتفلسفة ، وكان ثابت ابن قرة الحراني صاحب الزيج قد شرح كلام أرسطو في الإلهيات ، وقد رأيته وبينت بعض ما فيه من الفساد ، فإن فيه ضلالا كثيرا ، وكذلك كان دين أهل دمشق وغيرها قبل ظهور دين النصرانية وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي ، ولهذا يوجد في دمشق مساجد قديمة فيها قبلة إلى القطب الشمالي ، وتحت جامع دمشق معبد كبير له قبلة إلى القطب الشمالي كان لهؤلاء ، فإن الصابئة نوعان صابئة حنفاء موحدون ، وصابئة مشركون ، فالأول هم الذين أثنى الله عليهم بهذه الآية فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا من هذه الملل الأربع : المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين ، فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل ، وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل ، والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء كالمتبعين لملة إبراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإنجيل ، وهذا بخلاف المجوس والمشركين فإنه ليس فيهم مؤمن ، فلهذا قال تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد } فذكر الملل الست هؤلاء ، وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيامة لم يذكر في الست من كان مؤمنا ، وإنما ذكر ذلك في الأربعة فقط ، ثم إن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين ، والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين .

وأما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم ويقرون بمعاد الأبدان ، فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم ، ثم المشركين من الصابئة كانوا يقرون بحدوث هذا العالم كما كان المشركون من العرب يقرون بحدوثه ، وكذلك المشركون من الهند ، وقد ذكر أهل المقالات أن أول من ظهر عنه القول بقدمه من هؤلاء الفلاسفة المشركين هو أرسطو ، انتهى المقصود منه .

{ من آمن بالله واليوم الآخر } في زمن نبينا { وعمل صالحا } بشريعته { فلهم أجرهم } أي ثواب أعمالهم ، والأجر في الأصل مصدر يقال أجره الله يأجره أجرا ، وقد يعبر به عن نفس الشيء المجازي به ، والآية الكريمة تحتمل المعنيين .

{ عند ربهم } { عند } ظرف مكان لازم للإضافة لفظا ومعنى أي لهم أجرهم ثابتا عند ربهم .

وقد تقدم تفسير قوله تعالى : { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } أي في الآخرة حين يخاف الكفار من العذاب ويحزن المقصرون على تضييع العمر ، وتفويت الثواب .