فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (62)

قيل : إن المراد بالذين آمنوا : المنافقون ، بدلالة جعلهم مقترنين باليهود ، والنصارى ، والصابئين ، أي : آمنوا في الظاهر ، والأولى أن يقال : إن المراد الذين صدّقوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وصاروا من جملة أتباعه ، وكأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية وحال من قبلها من سائر الملل يرجع إلى شيء واحد ، وهو : أن من آمن منهم بالله ، واليوم الآخر ، وعمل صالحاً استحق ما ذكره الله من الأجر ، ومن فاته ذلك فاته الخير كله ، والأجر دِقُّه وجِِلَّه . والمراد بالإيمان هاهنا هو : ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لما سأله جبريل عن الإيمان فقال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشرّه " ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية ، فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولا بالقرآن ، فليس بمؤمن ، ومن آمن بهما صار مسلماً مؤمناً ، ولم يبق يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً . وقوله : { هَادُوا } معناه صاروا يهوداً ، قيل هو : نسبة لهم إلى يهوذا بن يعقوب بالذال المعجمة ، فقلبتها العرب دالاً مهملة ، وقيل معنى هادوا : تابوا لتوبتهم عن عبادة العجل ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي تبنا . وقيل إن معناه السكون ، والموادعة . وقال في الكشاف : إن معناه : دخل في اليهودية . والنصارى : قال سيبويه : مفرده نصران ونصرانة كندمان وندمانة ، وأنشد شاهداً على ذلك قول الشاعر :

تراه إذا زار العِشَا مُتَخَفَّفاً *** ويُضْحي لديه وهو نَصرانُ شامِس

وقال الآخر :

فكلتاهما خَرَّت وأسْجَدَ رأسها *** كَمَا سَجَدَت نصْرانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ

قال : ولكن لا يستعمل إلا بياء النسب ، فيقال : رجل نصراني وامرأة نصرانية . وقال الخليل : واحد النصارى نصري ، وقال الجوهري : ونصران قرية بالشام تنسب إليها النصارى ، ويقال ناصرة ، وعلى هذا ، فالياء للنسب . وقال في الكشاف : إن الياء للمبالغة كالتي في أحمري ، سموا بذلك ؛ لأنهم نصروا المسيح . والصابيئن : جمع صابيء . وقيل : صاب . وقد اختلف فيه القراء ، فهمزوه جميعاً إلا نافعاً ، فمن همزه جعله من صبأت النجوم : إذا طلعت ، وصبأت ثنية الغلام : إذا خرجت . ومن لم يهمزه جعله من صبا يصبو : إذا مال . والصابئ في اللغة : من خرج ، ومال من دين إلى دين ، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ ، وسموا هذه الفرقة صابئة ؛ لأنها خرجت من دين اليهود ، والنصارى ، وعبدوا الملائكة . وقوله : { مَنْ ءامَنَ بالله } في موضع نصب بدلاً من الذين آمنوا وما بعده ، وقد تقدم معنى الإيمان ، ويكون خبر إن قوله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } ويجوز أن يكون قوله : «من آمن بالله » في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله : «فلهم أجرهم » وهما جميعاً خبر إن ، والعائد مقدّر في الجملة الأولى ، أي : من آمن منهم ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط .

وقد تقدم تفسير قوله تعالى : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ( البقرة : 38 ) وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سلمان قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم ، فذكرت من صلاتهم ، وعبادتهم ، فنزلت : { إِنَّ الذين ءامَنُوا والذين هَادُوا } الآية . وأخرج الواحدي عن مجاهد نحو ذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في ذكر السبب بنحو ما سبق ، وحكى قصة طويلة . وأخرج أبو داود في الناسخ ، والمنسوخ ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الذين ءامَنُوا والذين هَادُوا } قال : فأنزل الله بعد هذا { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين } [ آل عمران : 85 ] . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي قال : إنما سميت اليهود ؛ لأنهم قالوا { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : نحن أعلم من أين سميت اليهود باليهودية من كلمة موسى عليه السلام { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } ولِمَ تسمت النصارى بالنصرانية ؟ من كلمة عيسى عليه السلام : { كُونُوا أنصار الله } [ الصف : 17 ] وأخرج أبو الشيخ نحوه عنه . وأخرج ابن جرير عن قتادة : إنما تسموا نصارى بقرية يقال لها ناصرة . وأخرج ابن سعد في طبقاته ، وابن جرير ، عن ابن عباس قال : إنما سميت النصارى ؛ لأن قرية عيسى كانت تسمى ناصرة . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال الصابئون : فرقة بين اليهود والنصارى ، والمجوس ، ليس لهم دين . وأخرج عبد الرزاق ، عنه قال : قال ابن عباس ، فذكر نحوه . وقد روى في تفسير الصابئين غير هذا .