قوله تعالى : { ولو كره الكافرون رفيع الدرجات } رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة { ذو العرش } خالقه ومالكه { يلقي الروح } ينزل الوحي سماه وحياً ، لأنه تحيا به القلوب ، كما تحيا الأبدان بالأرواح { من أمره } قال ابن عباس : من قضائه . وقيل : من قوله ، وقال مقاتل : بأمره { على من يشاء من عباده لينذر } أي : لينذر النبي بالوحي { يوم التلاق } وقرأ يعقوب بالتاء ، أي : لتنذر أنت يا محمد يوم التلاقي يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض . وقال قتادة ، ومقاتل : يلتقي فيه الخلق والخالق ، قال ابن زيد : يتلاقى العباد ، وقال ميمون بن مهران : يلتقي الظالم والمظلوم ، والخصوم . وقيل : يلتقي العابدون والمعبودون ، وقيل : يلتقي فيه المرء مع عمله .
ثم يذكر من صفات الله في هذا المقام الذي يوجه المؤمنين فيه إلى عبادة الله وحده ولو كره الكافرون . يذكر من هذه الصفات أنه سبحانه :
( رفيع الدرجات ذو العرش ، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) . .
فهو - سبحانه - وحده صاحب الرفعة والمقام العالي ، وهو صاحب العرش المسيطر المستعلي . وهو الذي يلقي أمره المحيي للأرواح والقلوب على من يختاره من عباده . وهذا كناية عن الوحي بالرسالة . ولكن التعبير عنه في هذه الصيغة يبين أولاً حقيقة هذا الوحي ، وأنه روح وحياة للبشرية ، ويبين ثانيا أنه يتنزل من علو على المختارين من العباد . . وكلها ظلال متناسقة مع صفة الله ( العلي الكبير ) . .
فأما الوظيفة البارزة لمن يختاره الله من عباده فيلقي عليه الروح من أمره ، فهي الإنذار :
وفي هذا اليوم يتلاقى البشر جميعاً . ويتلاقى الناس وأعمالهم التي قدموا في الحياة الدنيا . ويتلاقى الناس والملائكة والجن وجميع الخلائق التي تشهد ذلك اليوم المشهود وتلتقي الخلائق كلها بربها في ساعة الحساب فهو يوم التلاقي بكل معاني التلاقي .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَفِيعُ الدّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التّلاَقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ } .
يقول تعالى ذكره : هو رفيع الدرجات ورفع قوله : رَفِيعُ الدّرَجاتِ على الابتداء ولو جاء نصبا على الردّ على قوله : فادعوا الله ، كان صوابا . ذُو العَرْشِ يقول : ذو السرير المحيط بما دونه .
وقوله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يقول : ينزل الوحي من أمره على من يشاء من عباده .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الروح في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عُني به الوحي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ قال : الوحي من أمره .
وقال آخرون : عُني به القرآن والكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني هارون بن إدريس الأصمّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن المحاربيّ ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك في قوله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ قال : يعني بالروح : الكتاب ينزله على من يشاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وقرأ : وكذَلكَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحا مِنْ أمْرِنا قال : هذا القرآن هو الروح ، أوحاه الله إلى جبريل ، وجبريل روح نزل به على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقرأ : نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ قال : فالكتب التي أنزلها الله على أنبيائه هي الروح ، ليُنذر بها ما قال الله يوم التلاق ، يَوْمَ يَقُومُ الرّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفّا ، قال : الروح : القرآن ، كان أبي يقوله ، قال ابن زيد : يقومون له صفا بين السماء والأرض حين ينزل جلّ جلاله .
وقال آخرون : عُني به النبوّة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، وفي قول الله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ قال : النبوّة على من يشاء .
وهذه الأقوال متقاربات المعاني ، وإن اختلفت ألفاظ أصحابها بها .
وقوله : لِيُنْذِرَ يَوْمَ التّلاقِ يقول : لينذر من يلقي الروح عليه من عباده من أمر الله بإنذاره من خلقه عذاب يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، وهو يوم التلاق ، وذلك يوم القيامة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قوله : يَوْمَ التّلاقِ من أسماء يوم القيامة ، عظمه الله ، وحذّره عباده .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَوْمَ التّلاقِ : يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، والخالق والخلق .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي يَوْمَ التّلاق تلتقي أهل السماء وأهل الأرض .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد يَومْ التّلاقِ قال : يوم القيامة . قال : يوم تتلاقى العباد .
{ رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } .
{ رفيعُ الدرجات } خبر عن مبتدأ محذوف هو ضمير اسم الجلالة في قوله : { فادعوا الله } [ غافر : 14 ] وليس خبراً ثانياً بعد قوله : { هُو الَّذي يُريكم آياته } [ غافر : 13 ] لأن الكلام هنا في غرض مستجدّ ، وحذف المسند إليه في مثله حذف اتِّبَاع للاستعمال في حذف مثله ، كذا سماه السكاكي بعد أن يَجري من قبل الجملة حديثٌ عن المحذوف كقول عبد الله بن الزَّبِير أو إبراهيم بن العباس الصولي أو محمد بن سعيد الكاتب :
سأَشكُر عَمْراً إِنْ تَراختْ منيتــي *** أَيَـــادِيَ لَم تُمْنَنْ وإنْ هِيَ جَلَّتِ
فَتًى غير محجوب الغِنى عن صديقه *** ولا مُظْهِرا للشكوى إذا النعل زَلّت
و { رفيع } يجوز أن يكون صفة مشبهة . والتعريف في { الدرجات } عوض عن المضاف إليه . والتقدير : رفيعةٌ درجاتُه ، فلما حُول وصف ما هو من شؤونه إلى أن يكون وصفاً لذاته سلك طريق الإضافة وجُعلت الصفة المشبهة خبراً عن ضمير الجلالة وجعل فاعل الصفة مضافاً إليه ، وذلك من حالات الصفة المشبهة يقال : فلان حسنٌ فعلُه ، ويقال : فلان حسَنُ الفعل ، فيؤُول قوله : { رَفِيعُ الدَّرَجات } إلى صفة ذاته .
و { الدرجات } مستعارة للمجد والعظمة ، وجمعها إيذان بكثرة العظمات باعتبار صفات مجد الله التي لا تحصر ، والمعنى : أنه حقيق بإخلاص الدعاء إليه . ويجوز أن يكون { الكافرون } من أمثلة المبالغة ، أي كثير رفععِ الدرجات لمن يشاء وهو معنى قوله تعالى : { نرفع درجات من نشاء } [ يوسف : 76 ] . وإضافته إلى { الدرجات } من الإِضافة إلى المفعول فيكون راجعاً إلى صفات أفعال الله تعالى .
والمقصود : تثبيتهم على عبادة الله مخلصين له الدين بالترغيب بالتعرض إلى رفع الله درجاتهم كقوله : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } في سورة [ المجادلة : 11 ] .
( و { ذُو العَرْش } خبر ثان وفيه إشارة إلى أن رفع الدرجات منه متفاوت .
كما أن مخلوقاته العليا متفاوتة في العظم والشرف إلى أن تنتهي إلى العرش وهو أعلى المخلوقات كأنه قيل : إن الذي رفع السماوات ورفع العرش مَاذَا تُقَدِّرون رَفعه درجات عابديه على مراتب عبادتهم وإخلاصهم .
وجملة { يُلْقِي الرُّوح مِن أمْرِه } خبر ثالث ، أو بدلُ بعض من جملة { رَفِيعُ الدرجات } فإن مِنْ رفع الدرجات أَنْ يرفع بعض عِباده إلى درجة النبوءة وذلك أعظم رفع الدرجات بالنسبة إلى عِباده ، فبدل البعض هو هنا أهم أفراد المبدل منه .
والإِلقاء : حقيقته رميُ الشيء من اليد إلى الأرض ، ويستعار للاعطاء إذا كان غير مترقب ، وكثر هذا في القرآن ، قال : { فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم } [ النحل : 86 ، 87 ] . واستعير هنا للوحي لأنه يجيء فجأة على غير ترقب كإلقاء الشيء إلى الأرض .
والروح : الشريعة ، وحقيقة الروح : ما به حياة الحيّ من المخلوقات ، ويستعار للنفيس من الأمور وللوحْي لأنه به حياة الناس المعنوية وهي كمالهم وانتظام أمورهم ، فكما تستعار الحياة للإِيمان والعِلممِ ، كذلك يستعار الروح الذي هو سبب الحياة لكمال النفوس وسلامتها من الطوايا السيئة ، ويطلق الروح على المَلَك قال : { فأرسلنا إليها روحَنا فتمثل لها بشراً سويا } [ مريم : 17 ] .
و { مِنْ } ابتدائية في { مِن أمْرِهِ } ، أي بأمره ، فالأمر على ظاهره . ويجوز أن تكون { من } تبعيضية ظرفاً مستقراً صفة { الروح } أي بَعْضَ شؤونه التي لا يطلع عليها غيره إلا من ارتضى فيكون الأمر بمعنى الشأن ، أي الشؤون العجيبة ، وقيل : { من } بيانية وأن الأمر هو الروح وهذا بعيد .
وهذه الآية تشير إلى أن النبوءة غير مكتسبة لأنها ابتدئت بقوله : { فادعوا الله مخلصين له الدين } [ غافر : 14 ] ثم أُعقب بقوله : { رفيع الدرجات } فأشار إلى عبادة الله بإخلاص سبب لرفع الدرجات ، ثم أعقب بقوله : { يُلقِي الرُّوح من أمرِه } فجيء بفعل الإِلقاء وبكون الروح من أمره وبصلة { مَن يَشاء مِن عِباده } ، فآذن بأن ذلك بمحض اختياره وعلمه كما قال تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] . وهذا يرتبط بقوله في أول السورة [ 2 ] { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين } فأمَر رسولَه صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في العبادة مفرعاً على إنزال الكتاب إليه ، وجاء في شأن الناس بقوله : { فادعوا الله مُخْلِصين } [ غافر : 14 ] ثم أعقبه بقوله : { رَفِيع الدرجات } .
وقد ضَرب لهم العرشَ والأنبياء مثلين لرفع الدرجات في العوالم والعقلاء ، وفيه تعريض بتسفيه المشركين { فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه } [ القمر : 24 ] ، { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] و { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } [ الأنعام : 124 ] .
وتخلص من ذكر النبوءة إلى النذارة بيوم الجزاء ليعود وصف يوم الجزاء الذي انقطع الكلام عليه من قوله تعالى : { ذلكم بأنه إذا دُعي الله وحده كفرتم } [ غافر : 12 ] الخ .
والإِنذار : إِخبار فيه تحذير مما يسوء ، وهو ضد التبشير إذ هو إخبار بما فيه مسرة . وفعله المجرد : نَذِر كعلم ، يقال : نَذِر بالعدوّ فحَذِره . والهمزة في أنذر للتعدية فحقه أن لا يتعدى بالهمزة إلا إلى مفعول واحد ، وهو الذي كان فاعل الفعل المجرد ، وأن يتعدى إلى الأمر المخبَر به بالباء ، يقال : أنذرتُهم بالعَدوّ ، غير أنه غلب في الاستعمال تضمينه معنى التحذير فعدوه إلى مفعول ثان وهو استعمال القرآن ، وأما قوله في أول [ الأعراف : 2 ] { لتنذر به } فالباء فيه للسببية أو الآلة المجازية وليست للتعدية . وضمير به عائداً إلى الكتاب .
والضمير المستتر في { لينذر } عائد إلى اسم الجلالة من قوله : { فادعوا الله } [ غافر : 14 ] ، والأحسن أن يعود على { مَن } الموصولة لينذر من ألقَى عليه الروحَ قومَه ، ولأن فيه تخلصاً إلى ذكر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي هو بصدد الإِنذار دون الرسل الذين سبقوا إذ لا تلائمهم صيغة المضارع ولأنه مرجِّح لإِظهار اسم الجلالة في قوله : { لا يخفى على الله منهم شيء } كما سيأتي .
و { يوم التَلاَقي } هو يوم الحشر ، وسمي يوم التلاقي لأن الناس كلهم يلتقون فيه ، أو لأنهم يلقون ربهم لقاء مجازياً ، أي يقفون في حضرته وأمام أمره مباشرة كما قال تعالى : { الذين لا يرجون لقاءنا } [ يونس : 7 ] أي لا يرجُون يوم الحشر . وانتصبَ { يوم التلاقي } على أنه مفعول ثان ل { ينذر } ، وحذف المفعول الأول لظهوره ، أي لينذر الناسَ . وبَين { التَّلاَقي } و { يُلْقي } جناس .
وكتب { التَّلاَقي } في المصحف بدون ياء . وقرأه نافع وأبو عمرو في رواية عنه بكسرة بدون ياء . وقرأه الباقون بالياء لأنه وقع في الوصل لا في الوقف فلا موجب لطرح الياء إلا معاملة الوصل معاملة الوقف وهو قليل في النثر فيقتصر فيه على السماع . وكفى برواية نافع وأبي عمرو سماعاً .