قوله تعالى : { رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق * يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار * اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب } .
اعلم أنه تعالى لما ذكر من صفات كبريائه وإكرامه كونه مظهرا للآيات منزلا للأرزاق ، ذكر في هذه الآية ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهو قوله { رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح } قال صاحب «الكشاف » ثلاثة أخبار لقوله { هو } مرتبة على قوله { الذي يريكم } أو أخبار مبتدأ محذوف ، وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا ، قرئ { رفيع الدرجات } بالنصب على المدح ، وأقول لا بد من تفسير هذه الصفات الثلاثة :
الصفة الأولى : قوله { رفيع الدرجات } واعلم أن الرفيع يحتمل أن يكون المراد منه الرافع وأن يكون المراد منه المرتفع ، أما إذا حملناه على الأول ففيه وجوه : ( الوجه الأول ) أنه تعالى يرفع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة ( والثاني ) رافع درجات الخلق في العلوم والأخلاق الفاضلة ، فهو سبحانه عين لكل أحد من الملائكة درجة معينة ، كما قال : { وما منا إلا له مقام معلوم } وعين لكل واحد من العلماء درجة معينة فقال : { يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } وعين لكل جسم درجة معينة ، فجعل بعضها سفلية عنصرية ، وبعضها فلكية كوكبية ، وبعضها من جواهر العرش والكرسي ، فجعل لبعضها درجة أعلى من درجة الثاني ، وأيضا جعل لكل واحد مرتبة معينة في الخلق والرزق والأجل ، فقال : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات } وجعل لكل أحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة ، وفي الآخرة آثار لظهور تلك السعادة والشقاء ، فإذا حملنا الرفيع على الرفع كان معناه ما ذكرناه ، وأما إذا حملناه على المرتفع فهو سبحانه أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال ، أما في الأصل الوجود فهو أرفع الموجودات ، لأنه واجب الوجود لذاته وما سواه ممكن ومحتاج إليه ، وأما في دوام الوجود فهو أرفع الموجودات ، لأنه واجب الوجود لذاته وهو الأزلي والأبدي والسرمدي ، الذي هو أول لكل ما سواه ، وليس له أول وآخر لكل ما سواه ، وليس له آخر ، أما في العلم : فلأنه هو العالم بجميع الذوات والصفات والكليات والجزئيات ، كما قال : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } وأما في القدرة : فهو أعلى القادرين وأرفعهم ، لأنه في وجوده وجميع كمالات وجوده غني عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فإنه محتاج في وجوده وفي جميع كمالات وجوده إليه ، وأما في الوحدانية : فهو الواحد الذي يمتنع أن يحصل له ضد وند وشريك ونظير ، وأقول : الحق سبحانه له صفتان : ( أحدهما ) استغناؤه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه ( الثاني ) افتقار كل ما سواه إليه في وجوده وفي صفات وجوده ، فالرفيع إن فسرناه بالمرتفع ، كان معناه أنه أرفع الموجودات وأعلاها في جميع صفات الجلال والإكرام ، وإن فسرناه بالرافع ، كان معناه أن كل درجة وفضيلة ورحمة ومنقبة حصلت لشيء سواه ، فإنما حصلت بإيجاده وتكوينه وفضله ورحمته .
الصفة الثانية : قوله { ذو العرش } ومعناه أنه مالك العرش ومدبره وخالقه ، واحتج بعض الأغمار من المشابهة بقوله { رفيع الدرجات ذو العرش } وحملوه على أن المراد بالدرجات ، السموات ، وبقوله { ذو العرش } أنه موجود في العرش فوق سبع سموات ، وقد أعظموا الفرية على الله تعالى ، فإنا بينا بالدلائل القاهرة العقلية أن كونه تعالى جسما وفي جهة محال ، وأيضا فظاهر اللفظ لا يدل على ما قالوه ، لأن قوله { ذو العرش } لا يفيد إلا إضافته إلى العرش ويكفي في إضافته إليه بكونه مالكا له ومخرجا له من العدم إلى الوجود ، فأي ضرورة تدعونا إلى الذهاب إلى القول الباطل والمذهب الفاسد ، والفائدة في تخصيص العرش بالذكر هو أنه أعظم الأجسام ، والمقصود بيان كمال إلهيته ونفاذ قدرته ، فكل ما كان محل التصرف والتدبير أعظم ، كانت دلالته على كمال القدرة أقوى .
الصفة الثالثة : قوله { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } وفيه مباحث :
البحث الأول : اختلفوا في المراد بهذا الروح ، والصحيح أن المراد هو الوحي ، وقد أطنبنا في بيان أنه لم سمي الوحي بالروح في أول سورة النحل في تفسير قوله { ينزل الملائكة بالروح من أمره } وقال أيضا : { أو من كان ميتا فأحييناه } وحاصل الكلام فيه : أن حياة الأرواح بالمعارف الإلهية والجلايا القدسية ، فإذا كان الوحي سببا لحصول هذه الأرواح سمي بالروح ، فإن الروح سبب لحصول الحياة ، والوحي سبب لحصول هذه الحياة الروحانية .
واعلم أن هذه الآية مشتملة على أسرار عجيبة من علوم المكاشفات ، وذلك لأن كمال كبرياء الله تعالى لا تصل إليه العقول والأفهام ، فالطريق الكامل في تعريفه بقدر الطاقة البشرية أن يذكر ذلك الكلام على الوجه الكلي العقلي ، ثم يذكر عقيبه شيء من المحسوسات المؤكدة لذلك المعنى العقلي ليصير الحصر بهذا الطريق معاضدا للعقل ، فهاهنا أيضا كذلك ، فقوله { رفيع الدرجات } إما أن يكون بمعنى كونه رافعا للدرجات ، وهو إشارة إلى تأثير قدرة الله تعالى في إيجاد الممكنات على اختلاف درجاتها وتباين منازلها وصفاتها ، أو إلى كونه تعالى مرتفعا في صفات الجلال ونعوت العزة عن كل الموجودات ، فهذا الكلام عقلي برهاني ، ثم إنه سبحانه بين هذا الكلام الكلي بمزيد تقرير ، وذلك لأن ما سوى الله تعالى إما جسمانيات وإما روحانيات ، فبين في هذه الآية أن كلا القسمين مسخر تحت تسخير الحق سبحانه وتعالى ، أما الجسمانيات فأعظمها العرش ، فقوله { ذو العرش } يدل على استيلائه على كلية عالم الأجسام ، ولما كان العرش من جنس المحسوسات كان هذا المحسوس مؤكدا لذلك المعقول ، أعني قوله { رفيع الدرجات } وأما الروحانيات فكلها مسخرة للحق سبحانه ، وإليه الإشارة بقوله { يلقي الروح من أمره } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.