مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{رَفِيعُ ٱلدَّرَجَٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ يُلۡقِي ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِيُنذِرَ يَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ} (15)

قوله تعالى : { رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق * يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار * اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب } .

اعلم أنه تعالى لما ذكر من صفات كبريائه وإكرامه كونه مظهرا للآيات منزلا للأرزاق ، ذكر في هذه الآية ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهو قوله { رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح } قال صاحب «الكشاف » ثلاثة أخبار لقوله { هو } مرتبة على قوله { الذي يريكم } أو أخبار مبتدأ محذوف ، وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا ، قرئ { رفيع الدرجات } بالنصب على المدح ، وأقول لا بد من تفسير هذه الصفات الثلاثة :

الصفة الأولى : قوله { رفيع الدرجات } واعلم أن الرفيع يحتمل أن يكون المراد منه الرافع وأن يكون المراد منه المرتفع ، أما إذا حملناه على الأول ففيه وجوه : ( الوجه الأول ) أنه تعالى يرفع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة ( والثاني ) رافع درجات الخلق في العلوم والأخلاق الفاضلة ، فهو سبحانه عين لكل أحد من الملائكة درجة معينة ، كما قال : { وما منا إلا له مقام معلوم } وعين لكل واحد من العلماء درجة معينة فقال : { يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } وعين لكل جسم درجة معينة ، فجعل بعضها سفلية عنصرية ، وبعضها فلكية كوكبية ، وبعضها من جواهر العرش والكرسي ، فجعل لبعضها درجة أعلى من درجة الثاني ، وأيضا جعل لكل واحد مرتبة معينة في الخلق والرزق والأجل ، فقال : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات } وجعل لكل أحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة ، وفي الآخرة آثار لظهور تلك السعادة والشقاء ، فإذا حملنا الرفيع على الرفع كان معناه ما ذكرناه ، وأما إذا حملناه على المرتفع فهو سبحانه أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال ، أما في الأصل الوجود فهو أرفع الموجودات ، لأنه واجب الوجود لذاته وما سواه ممكن ومحتاج إليه ، وأما في دوام الوجود فهو أرفع الموجودات ، لأنه واجب الوجود لذاته وهو الأزلي والأبدي والسرمدي ، الذي هو أول لكل ما سواه ، وليس له أول وآخر لكل ما سواه ، وليس له آخر ، أما في العلم : فلأنه هو العالم بجميع الذوات والصفات والكليات والجزئيات ، كما قال : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } وأما في القدرة : فهو أعلى القادرين وأرفعهم ، لأنه في وجوده وجميع كمالات وجوده غني عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فإنه محتاج في وجوده وفي جميع كمالات وجوده إليه ، وأما في الوحدانية : فهو الواحد الذي يمتنع أن يحصل له ضد وند وشريك ونظير ، وأقول : الحق سبحانه له صفتان : ( أحدهما ) استغناؤه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه ( الثاني ) افتقار كل ما سواه إليه في وجوده وفي صفات وجوده ، فالرفيع إن فسرناه بالمرتفع ، كان معناه أنه أرفع الموجودات وأعلاها في جميع صفات الجلال والإكرام ، وإن فسرناه بالرافع ، كان معناه أن كل درجة وفضيلة ورحمة ومنقبة حصلت لشيء سواه ، فإنما حصلت بإيجاده وتكوينه وفضله ورحمته .

الصفة الثانية : قوله { ذو العرش } ومعناه أنه مالك العرش ومدبره وخالقه ، واحتج بعض الأغمار من المشابهة بقوله { رفيع الدرجات ذو العرش } وحملوه على أن المراد بالدرجات ، السموات ، وبقوله { ذو العرش } أنه موجود في العرش فوق سبع سموات ، وقد أعظموا الفرية على الله تعالى ، فإنا بينا بالدلائل القاهرة العقلية أن كونه تعالى جسما وفي جهة محال ، وأيضا فظاهر اللفظ لا يدل على ما قالوه ، لأن قوله { ذو العرش } لا يفيد إلا إضافته إلى العرش ويكفي في إضافته إليه بكونه مالكا له ومخرجا له من العدم إلى الوجود ، فأي ضرورة تدعونا إلى الذهاب إلى القول الباطل والمذهب الفاسد ، والفائدة في تخصيص العرش بالذكر هو أنه أعظم الأجسام ، والمقصود بيان كمال إلهيته ونفاذ قدرته ، فكل ما كان محل التصرف والتدبير أعظم ، كانت دلالته على كمال القدرة أقوى .

الصفة الثالثة : قوله { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } وفيه مباحث :

البحث الأول : اختلفوا في المراد بهذا الروح ، والصحيح أن المراد هو الوحي ، وقد أطنبنا في بيان أنه لم سمي الوحي بالروح في أول سورة النحل في تفسير قوله { ينزل الملائكة بالروح من أمره } وقال أيضا : { أو من كان ميتا فأحييناه } وحاصل الكلام فيه : أن حياة الأرواح بالمعارف الإلهية والجلايا القدسية ، فإذا كان الوحي سببا لحصول هذه الأرواح سمي بالروح ، فإن الروح سبب لحصول الحياة ، والوحي سبب لحصول هذه الحياة الروحانية .

واعلم أن هذه الآية مشتملة على أسرار عجيبة من علوم المكاشفات ، وذلك لأن كمال كبرياء الله تعالى لا تصل إليه العقول والأفهام ، فالطريق الكامل في تعريفه بقدر الطاقة البشرية أن يذكر ذلك الكلام على الوجه الكلي العقلي ، ثم يذكر عقيبه شيء من المحسوسات المؤكدة لذلك المعنى العقلي ليصير الحصر بهذا الطريق معاضدا للعقل ، فهاهنا أيضا كذلك ، فقوله { رفيع الدرجات } إما أن يكون بمعنى كونه رافعا للدرجات ، وهو إشارة إلى تأثير قدرة الله تعالى في إيجاد الممكنات على اختلاف درجاتها وتباين منازلها وصفاتها ، أو إلى كونه تعالى مرتفعا في صفات الجلال ونعوت العزة عن كل الموجودات ، فهذا الكلام عقلي برهاني ، ثم إنه سبحانه بين هذا الكلام الكلي بمزيد تقرير ، وذلك لأن ما سوى الله تعالى إما جسمانيات وإما روحانيات ، فبين في هذه الآية أن كلا القسمين مسخر تحت تسخير الحق سبحانه وتعالى ، أما الجسمانيات فأعظمها العرش ، فقوله { ذو العرش } يدل على استيلائه على كلية عالم الأجسام ، ولما كان العرش من جنس المحسوسات كان هذا المحسوس مؤكدا لذلك المعقول ، أعني قوله { رفيع الدرجات } وأما الروحانيات فكلها مسخرة للحق سبحانه ، وإليه الإشارة بقوله { يلقي الروح من أمره } .