السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{رَفِيعُ ٱلدَّرَجَٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ يُلۡقِي ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِيُنذِرَ يَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ} (15)

ولما ذكر تعالى من صفات كبريائه كونه مظهراً للآيات ذكر ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهي قوله تعالى : { رفيع الدرجات } وهذا يحتمل أن يكون المراد منه الرافع ، وأن يكون المراد منه المرتفع ، فإن حملناه على الأول ففيه وجهان : أولها : أنه تعالى يرفع درجات الأنبياء والأولياء ، ثانيهما : يرفع درجات الخلق في العلوم والأخلاق الفاضلة فجعل لكل أحد من الملائكة درجة معينة كما قال تعالى عنهم : { وما منا إلا له مقام معلوم } ( الصافات : 164 ) وجعل لكل واحد من العلماء درجة معينة فقال تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } ( المجادلة : 11 ) وعين لكل جسم درجة معينة ، فجعل بعضها سفلية كدرة وبعضها فلكية وبعضها من جواهر العرش والكرسي ، وأيضاً جعل لكل واحد مزية معينة في الخلق والخلق والرزق والأجل فقال تعالى : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات } ( الأنعام : 165 ) وجعل لكل واحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة ، وفي الآخرة تظهر تلك الآثار وإن حملنا الرفيع على المرتفع فهو سبحانه وتعالى أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال .

تنبيه : في رفيع وجهان ؛ أحدهما : أنه مبتدأ والخبر { ذو العرش } أي : الكامل الذي لا عرش في الحقيقة إلا هو فهو محيط بجميع الأكوان ومادة لكل جماد وحيوان وعال بجلاله وعظمته عن كل ما يخطر في الأذهان وقوله تعالى : { يلقي الروح } أي : الوحي سماه روحاً لأنه تحيا به القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح .

{ من أمره } قال ابن عباس : أي : رضاه ، وقوله : { يلقي } يجوز أن يكون خبراً ثانياً وأن يكون حالاً ، ويجوز أن تكون الثلاثة أخباراً لقوله تعالى : { هو الذي يريكم آياته } .

ولما كان أمره تعالى غالباً على كل أمر أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال تعالى : { على من يشاء } أي : يختار { من عباده } للنبوة وفي هذا دليل على أنها عطائية وقوله : { لينذر } أي : يخوف غاية الإلقاء والفاعل هو الله تعالى ، أو الروح ، أو من يشاء ، أو الرسول . والمنذر به محذوف تقديره لينذر العذاب . { يوم التلاق } أي : يوم القيامة فإن فيه تتلاقى الأرواح والأجساد وأهل السماء والأرض ، وقال مقاتل : يلتقي الخلق والخالق تعالى . وقال ميمون بن مهران : يلتقي الظالم والمظلوم ، وقيل : يلتقي العابدون والمعبودون . وقيل : يلتقي فيه المرء مع عمله والأولى أن تفسر الآية بما يشمل الجميع .