قوله تعالى : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم } ، أي : خلقنا لكم .
قوله تعالى : { لباساً } ، وقيل : إنما قال : { أنزلنا } لأن اللباس يكون من نبات الأرض ، والنبات يكون بما ينزل من السماء ، فمعنى قوله : { أنزلنا } ، أي : أنزلنا أسبابه ، وقيل : كل بركات الأرض منسوبة إلى السماء كما قال تعالى : { وأنزلنا الحديد } [ الحديد :25 ] وإنما يستخرج الحديد من الأرض ، وسبب نزول هذه الآية : أنهم كانوا في الجاهلية يطوفون بالبيت عراة ، يقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها ، فكان الرجال يطوفون بالنهار ، والنساء بالليل عراة . وقال قتادة : كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله *** وما بدا منه فلا أحله
فأمر الله سبحانه بالستر فقال : { قد أنزلنا عليكم لباساً }
قوله تعالى : { يواري سوآتكم } ، يستر عوراتكم ، واحدتها سوأة ، سميت بها لأنه يسوء صاحبها انكشافها ، فلا تطوفوا عراةً .
قوله تعالى : { وريشاً } ، يعني : مالاً في قول ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، يقال : تريش الرجل إذا تمول ، وقيل : الريش الجمال ، أي : ما يتجملون به من الثياب ، وقيل : هو اللباس .
قوله تعالى : { ولباس التقوى ذلك خير } ، قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، والكسائي { ولباس } بنصب السين عطفاً على قوله لباساً ، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وخبره خير ، وجعلوا ذلك صلة في الكلام ، ولذلك قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب { ولباس التقوى ذلك خير } . واختلفوا في لباس التقوى ، قال قتادة والسدي : التقوى هو الإيمان . وقال الحسن : هو الحياء لأنه يبعث على التقوى . وقال عطاء عن ابن عباس : هو العمل الصالح ، وعن عثمان بن عفان ، أنه قال : السمت الحسن ، وقال عروة بن الزبير : لباس التقوى خشية الله ، وقال الكلبي : هو العفاف ، والمعنى : لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق له من اللباس للتجمل ، وقال ابن الأنباري : لباس التقوى هو اللباس الأول ، وإنما أعاده إخباراً أن ستر العورة خير من التعري في الطواف . وقال زيد بن علي : { لباس التقوى } الآلات التي يتقى بها في الحرب كالدرع ، والمغفر ، والساعد ، والساقين . وقيل : لباس التقوى هو الصوف والثياب الخشنة التي يلبسها أهل الورع .
( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا . ولباس التقوى ، ذلك خير ، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ) . .
هذا النداء يجيء في ظل المشهد الذي سبق عرضه من القصة . . مشهد العري وتكشف السوآت والخصف من ورق الجنة . . لقد كان هذا ثمرة للخطيئة . . والخطيئة كانت في معصية أمر الله ، وتناول المحظور الذي نهى عنه الله . . وليست هي الخطيئة التي تتحدث عنها أساطير [ الكتاب المقدس ! ] والتي تعج بها التصورات الفنية الغربية المستقاة من تلك الأساطير ومن إيحاءات " فرويد " المسمومة . . لم تكن هي الأكل من " شجرة المعرفة " - كما تقول أساطير العهد القديم . وغيرة الله - سبحانه وتعالى - من " الإنسان " وخوفه - تعالى عن وصفهم علواً كبيراً - من أن يأكل من شجرة الحياة أيضاً فيصبح كواحد من الآلهة ! كما تزعم تلك الأساطير . ولم تكن كذلك هي المباشرة الجنسية كما تطوف خيالات الفن الأوربي دائماً حول مستنقع الوحل الجنسي ، لتفسر به كل نشاط الحياة كما علمهم فرويد اليهودي ! . .
وفي مواجهة مشهد العري الذي أعقب الخطيئة ومواجهة العري الذي كان يزاوله المشركون في الجاهلية يذكر السياق في هذا النداء نعمة الله على البشر وقد علمهم ويسر لهم ، وشرع لهم كذلك ، اللباس الذي يستر العورات المكشوفة ، ثم يكون زينة - بهذا الستر - وجمالاً ، بدل قبح العري وشناعته - ولذلك يقول : ( أنزلنا ) أي : شرعنا لكم في التنزيل . واللباس قد يطلق على ما يواري السوأة وهو اللباس الداخلي ، والرياش قد يطلق على ما يستر الجسم كله ويتجمل به ، وهو ظاهر الثياب . كما قد يطلق الرياش على العيش الرغد والنعمة والمال . . وهي كلها معان متداخلة ومتلازمة :
( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ) . .
كذلك يذكر هنا ( لباس التقوى ) ويصفه بأنه ( خير ) :
( ولباس التقوى ذلك خير . ذلك من آيات الله . ) . .
قال عبد الرحمن بن أسلم : [ يتقي الله فيواري عورته ، فذاك لباس التقوى ] . .
فهناك تلازم بين شرع الله اللباس لستر العورات والزينة ، وبين التقوى . . كلاهما لباس . هذا يستر عورات القلب ويزينه . وذاك يستر عورات الجسم ويزينه . وهما متلازمان . فعن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه . ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو إلى العري . . العري من الحياء والتقوى ، والعري من اللباس وكشف السوأة !
إن ستر الجسد حياء ليس مجرد اصطلاح وعرف بيئي - كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس وعفتهملتدمير إنسانيتهم ، وفق الخطة اليهودية البشعة التي تتضمنها مقررات حكماء صهيون - إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان ؛ ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر ؛ وأقدرهم على تنفيذها بما سخر لهم في الأرض من مقدرات وأرزاق .
والله يذكر بني آدم بنعمته عليهم في تشريع اللباس والستر ، صيانة لإنسانيتهم من أن تتدهور إلى عرف البهائم ! وفي تمكينهم منه بما يسر لهم من الوسائل :
ومن هنا يستطيع المسلم أن يربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الناس وأخلاقهم ؛ والدعوة السافرة لهم إلى العري الجسدي - باسم الزينة والحضارة والمودة ! - وبين الخطة الصهيونية لتدمير إنسانيتهم ، والتعجيل بانحلالهم ، ليسهل تعبيدهم لملك صهيون ! ثم يربط بين هذا كله والخطة الموجهة للإجهاز على الجذور الباقية لهذا الدين في صورة عواطف غامضة في أعماق النفوس ! فحتى هذه توجه لها معاول السحق ، بتلك الحملة الفاجرة الداعرة إلى العري النفسي والبدني الذي تدعو إليه أقلام وأجهزة تعمل لشياطين اليهود في كل مكان ! والزينة " الإنسانية " هي زينة الستر ، بينما الزينة " الحيوانية " هي زينة العري . . ولكن " الآدميين " في هذا الزمان يرتدون إلى رجعية جاهلية تردهم إلى عالم البهيمة . فلا يتذكرون نعمة الله بحفظ إنسانيتهم وصيانتها !
القول في تأويل قوله تعالى : { يَابَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه للجهلة من العرب الذين كانوا يتعرّون للطواف اتباعا منهم أمر الشيطان وتركا منهم طاعة الله ، فعرّفهم انخداعهم بغروره لهم حتى تمكن منهم فسلبهم من ستر الله الذي أنعم به عليهم ، حتى أبدى سوآتهم وأظهرها من بعضهم لبعض ، مع تفضل الله عليهم بتمكينهم مما يسترونها به ، وأنهم قد سار بهم سيرته في أبَوَيهم آدم وحوّاء اللذين دلاهما بغرور حتى سلبهما سِتر الله الذي كان أنعم به عليهما حتى أبدى لهما سوآتهما فعرّاهما منه : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا : يعني بإنزاله عليهم ذلك : خلقه لهم ، ورزقه إياهم . واللباس : ما يلبسون من الثياب . يُوَارِي سَوآتِكُمْ يقول : يستر عوراتكم عن أعينكم . وكنى بالسوآت عن العورات ، واحدتها سَوْأة ، وهي فَعْلة من السوء ، وإنما سميت سوأة لأنه يسوء صاحبها انكشافها من جسده ، كما قال الشاعر :
خَرَقُوا جَيْبَ فَتاتِهِمْ ***لم يُبالُوا سَوْأةَ الرّجُلَهْ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال : كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة ، ولا يلبس أحدهم ثوبا طاف فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد المدني ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشا قال : أربع آيات نزلت في قريش ، كانوا في الجاهلية لا يطوفون بالبيت إلا عراة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، قال : سمعت معبدا الجُهني يقول في قوله : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشا قال : اللباس الذي يلبسون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال : كانت قريش تطوف عراة ، لا يلبس أحدهم ثوبا طاف فيه ، وقد كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف ، عن عوف ، عن معبد الجهني : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال : اللباس الذي يواري سوآتكم : هو لبوسكم هذا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال : هي الثياب .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : ثني من سمع عروة بن الزبير ، يقول : اللباس : الثياب .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال : يعني ثياب الرجل التي يلبسها .
القول في تأويل قوله تعالى : وَرِيشا .
اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : وَرِيشا بغير ألف .
وذُكِر عن زرّ بن حبيش والحسن البصريّ أنهما كانا يقرآنه : «وَرِياشا » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن أبان العطار ، قال : حدثنا عاصم ، أن زرّ بن حبيش قرأها : «وَرِياشا » .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك قراءة من قرأ : وَرِيشا بغير ألف لإجماع الحجة من القرّاء عليها . وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خبر في إسناده نظر ، أنه قرأه : «وَرِياشا » ، فمن قرأ ذلك : «وَرِياشا » فإنه محتمل أن يكون أراد به جمع الريش ، كما تجمع الذئب ذئابا والبئر بئارا ، ويحتمل أن يكون أراد به مصدرا من قول القائل : رَاشَهُ الله يَرِيشُه رِيَاشا ورِيشا ، كما يقال : لَبِسه يلبسه لباسا ولِبْسا وقد أنشد بعضهم :
فَلَمّا كَشَفْنَ اللّبْسَ عَنْهُ مَسَحْنَهُ ***بأطْرَافِ طَفْلٍ زَانَ غَيْلاً مُوشّما
بكسر اللام من «اللّبس » . والرياش في كلام العرب : الأثاث وما ظهر من الثياب من المتاع مما يلبس أو يحشى من فراش أو دثار . والريش : إنما هو المتاع والأموال عندهم ، وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال ، يقولون : أعطاه سرجا بريشه ، ورحلاً بريشه : أي بكسوته وجهازه ، ويقولون : إنه لحسن ريش الثياب . وقد يستعمل الرياش في الخصب ورفاهة العيش .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال : الرياش المال :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَرِيشا يقول : مالاً .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَرِيشا قال : المال .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : «وَرِياشا » قال : أما رياشا : فرياش المال .
حدثني الحرث قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد المدني ، قال : ثني من سمع عروة بن الزبير يقول : الرياش : المال .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قوله : «وَرِياشا » يعني : المال .
ذكر من قال : هو اللباس ورفاهة العيش :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : «وَرِياشا » قال : الرياش : اللباس ، والعيش : النعيم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف ، عن عوف ، عن معبد الجهني : «وَرِياشا » قال : الرياش : المعاش .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا عوف ، قال : قال معبد الجهني : «وَرِياشا » قال : هو المعاش .
وقال آخرون : الريش الجمال . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : «وَرِياشا » قال : الريش : الجمال .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلِباسُ التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : لباس التقوى هو الإيمان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلِباسُ التّقْوى هو الإيمان .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلِباسُ التّقْوَى : الإيمان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرني حجاج ، عن ابن جريج : وَلِباسُ التّقْوى الإيمان .
وقال آخرون : هو الحياء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف ، عن عوف ، عن معبد الجهنيّ ، في قوله : وَلِباسُ التّقوَى الذي ذكر الله في القرآن هو الحياء .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا عوف ، قال : قال معبد الجهنيّ ، فذكر مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن معبد بنحوه .
وقال آخرون : هو العمل الصالح . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَلِباسُ التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ قال : لباس التقوى : العمل الصالح .
وقال آخرون : بل ذلك هو السمت الحسن . ذكر من قال ذلك :
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا عبد الله بن داود ، عن محمد بن موسى ، عن الزباء بن عمرو ، عن ابن عباس : وَلِباسُ التّقْوَى قال : السمت الحسن في الوجه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن سليمان بن أرقم ، عن الحسن ، قال : رأيت عثمان بن عفان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص قُوهيّ محلول الزّرّ ، وسمعته يأمر بقتل الكلاب وينهي عن اللعب بالحمام ، ثم قال : يا أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «والّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ ما عَمِلَ أحَدٌ قطّ سِرّا إلاّ ألْبَسَهُ اللّهُ رِداءَهُ عَلانِيَةً ، إنْ خَيْرا فخَيْرا ، وَإنْ شَرّا فَشَرّا » ثم تلا هذه الاَية : «وَرِياشا » ، ولم يقرأها : وَرِيشا وَلِباسُ التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ ذلكَ مِنْ آياتِ اللّهِ قال : السمت الحسن .
وقال آخرون : هو خشية الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد المدني ، قال : ثني من سمع عروة بن الزبير يقول : لِباسُ التّقْوى خشية الله .
وقال آخرون : لِباسُ التّقْوَى في هذه المواضع : ستر العورة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلِباسُ التقْوَى يتقي الله فيواري عورته ، ذلك لباس التقوى .
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المكيين والكوفيين والبصريين : وَلِباسُ التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ برفع «ولباسُ » . وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة : «ولِباسَ التّقْوَى » بنصب اللباس ، وهي قراءة بعض قراء الكوفيين . فمن نصب : «وَلِباسَ » فإنه نصبه عطفا على «الريش » بمعنى : قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ، وأنزلنا لباسَ التقوى . وأما الرفع ، فإن أهل العربية مختلفون في المعنى الذي ارتفع به اللباس ، فكان بعض نحويي البصرة يقول : هو مرفوع على الابتداء ، وخبره في قوله : ذلِكَ خَيْرٌ . وقد استخطأه بعض أهل العربية في ذلك وقال : هذا غلط ، لأنه لم يعد على اللباس في الجملة عائد ، فيكون اللباس إذًا رفع على الابتداء وجعل ذلك خير خبرا .
وقال بعض نحويي الكوفة : وَلِباسُ يُرفع بقوله : «ولباس التقوى خير » ، ويجعل ذلك من نعته . ب«خير » لم يكن في ذلك وجه إلا أن يجعل اللباس نعتا ، لا أنه عائد على اللباس من ذكره في قوله : ذلكَ خَيْرٌ فيكون خير مرفوعا بذلك وذلك به . فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام إذن : رفع لباس التقوى ، ولباس التقوى ذلك الذي قد علمتموه خير لكم يا بني آدم من لباس الثياب التي تواري سوآتكم ، ومن الرياش التي أنزلناها إليكم فالبسوه . وأما تأويل من قرأه نصبا ، فإنه : يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم ، وريشا ، ولباس التقوى هذا الذي أنزلنا عليكم ، من اللباس الذي يواري سوآتكم ، والريش ، ولباس التقوى خير لكم من التعرّي والتجرّد من الثياب في طوافكم بالبيت ، فاتقوا الله والبسوا ما رزقكم الله من الرياش ، ولا تطيعوا الشيطان بالتجرّد والتعرّي من الثياب ، فإن ذلك سخرية منه بكم وخدعة ، كما فعل بأبويكم آدم وحوّاء فخدعهما حتى جرّدهما من لباس الله الذي كان ألبسهما بطاعتهما له في أكل ما كان الله نهاهما عن أكله من ثمر الشجرة التي عصياه بأكلها .
وهذه القراءة أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب ، أعني نصب قوله : «وَلِباسَ التّقْوَى » لصحة معناه في التأويل على ما بينت ، وأن الله إنما ابتدأ الخبر عن إنزاله اللباس الذي يواري سوآتنا والرياش توبيخا للمشركين الذين كانوا يتجرّدون في حال طوافهم بالبيت ، ويأمرهم بأخذ ثيابهم والاستتار بها في كلّ حال مع الإيمان به واتباع طاعته ، ويعلمهم أن كلّ ذلك خير من كلّ ما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله وتعرّيهم ، لا أنه أعلمهم أن بعض ما أنزل إليهم خير من بعض . وما يدلّ على صحة ما قلنا في ذلك الاَيات التي بعد هذه الاَية ، وذلك قوله : يا بَني آدَمَ لايَفْتِنَنّكُمُ الشّيْطانُ كمَا أخُرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوآتِهِما وما بعد ذلك من الاَيات إلى قوله : وأنْ تَقُولُوا على اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فإنه جلّ ثناؤه يأمر في كلّ ذلك بأخذ الزينة من الثياب واستعمال اللباس وترك التجرّد والتعرّي وبالإيمان به واتباع أمره والعمل بطاعته ، وينهي عن الشرك به واتباع أمر الشيطان مؤكدا في كل ذلك ما قد أجمله في قوله : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَواتِكُمْ وَرِيشا وَلِباس التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ .
وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله : «وَلِباسَ التّقْوَى » استشعار النفوس تقوى الله في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه والعمل بما أمر به من طاعته وذلك يجمع الإيمان والعمل الصالح والحياء وخشية الله والسمت الحسن ، لأن من اتقى الله كان به مؤمنا وبما أمره به عاملاً ومنه خائفا وله مراقبا ، ومن أن يرى عند ما يكرهه من عباده مستحييا . ومن كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه ، فحسن سمته وهديه ورُؤيت عليه بهجة الإيمان ونوره .
وإنما قلنا : عنى بلباس التقوى استشعار النفس والقلب ذلك لأن اللباس إنما هو ادّراع ما يلبس واحتباء ما يكتسي ، أو تغطية بدنه أو بعضه به ، فكلّ من ادّرع شيئا أو احتبي به حتى يرى هو أو أثره عليه ، فهو له لابس ولذلك جعل جلّ ثناؤه الرجال للنساء لباسا وهنّ لهم لباسا ، وجعل الليل لعباده لباسا .
ذكر من تأوّل ذلك بالمعنى الذي ذكرنا من تأويله إذا قرىء قوله : وَلِباسُ التّقْوَى رفعا :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلِباسُ التّقْوَى : الإيمان ذلكَ خَيْرٌ يقول : ذلك خير من الرياش واللباس يواري سوآتكم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلِباسُ التّقْوَى قال : لباس التقوى خير ، وهو الإيمان .
القول في تأويل قوله تعالى : ذلكَ مِنْ آياتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ .
يقول تعالى ذكره : ذلك الذي ذكرت لكم أني أنزلته إليكم أيها الناس من اللباس والرياش من حجج الله وأدلته التي يعلم بها من كفر صحة توحيد الله ، وخطأ ما هم عليه مقيمون من الضلالة . لَعَلّهُم يَذّكّرُون يقول جلّ ثناؤه : جعلت ذلك لهم دليلاً على ما وصفت ليذكّروا ، فيعتبروا وينيبوا إلى الحقّ وترك الباطل ، رحمة مني بعبادي .
وقوله تعالى : { يا بني آدم } الآية ، هذا خطاب لجميع الأمم وقت النبي عليه الصلاة والسلام ، والمراد قريش ومن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت ، ذكر النقاش ثقيفاً وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج وعامراً والحارث ابني عبد مناف فإنها كانت عادتهم رجالاً ونساءً ، وذلك غاية العار والعصيان ، قال مجاهد ففيهم نزلت هذه الأربع الآيات ، وقوله : { أنزلنا } يحتمل أن يريد التدرج أي لما أنزلنا المطر فكان عنه جميع ما يلبس ، قال عن اللباس أنزلنا ، وهذا نحو قول الشاعر يصف مطراً .
أقبل في المستن من سحابه*** اسنمة الآبال في ربابه
أي بالمال ويحتمل أن يريد خلقنا فجاءت العبارة ب { أنزلنا } كقوله { وأنزلنا الحديد فيه بأس } وقوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } وأيضاً فخلق الله عز وجل وأفعاله إنما هي من علو في القدر والمنزلة ، و { لباساً } عام في جميع ما يلبس ، و { يوراي } يستر ، وفي حرف أبيّ «سوءاتكم وزينة ولبس التقوى » وفي مصحف ابن مسعود «ولباس التقوى خير ذلكم » ، ويروى عنه ذلك ، وسقطت «ذلك » الأولى ، وقرأ سكن النحوي «ولبوسُ التقوى » بالواو مرفوعة السين ، و قرأ الجمهور من الناس «وريشاً » وقرأ الحسن وزر بن حبيش وعاصم فيما روى عنه أبو عمرو أيضاً ، وابن عباس وأبو عبد الرحمن ومجاهد وأبو رجاء وزيد بن علي وعلي بن الحسين وقتادة «ورياشاً » ، قال أبو الفتح : وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أبو حاتم : رواها عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وهما عبارتان عن سعة الرزق ورفاهية العيش ووجود الملبس والتمتع ، وفسره قوم بالأثاث ، وفسره ابن عباس بالمال ، وكذلك قال السدي والضحاك ، وقال ابن زيد «الريش » الجمال ، وقيل «الرياش » جمع ريش كبير وبئار وذيب وذياب ولصب ولصاب وشعب وشعاب وقيل الرياش مصدر من أراشه الله يريشه إذا أنعم عليه ، والريش مصدر أيضاً من ذلك وفي الحديث«رجل راشه الله مالاً » .
قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن هذا كله من معنى ريش الطائر وريش السهم إذ هو لباسه وسترته وعونه على النفوذ ، وراش الله مأخوذ من ذلك ، ألا ترى أنها تقرن ببرى ومن ذلك قول الشاعر : [ لعمير بن حباب ]
فرشني بخير طال ما قد بريتني*** وخير الموالي من يريش ولا يبري
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «ولباسَ » بالنصب عطفاً على ما تقدم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة «ولباسُ » بالرفع فقيل هو خبر ابتداء مضمر تقديره وهو لباس ، وقيل هو مبتدأ و { ذلك } مبتدأ آخر و { خير } خبر { ذلك } ، والجملة خبر الأول ، وقيل هو مبتدأ و { خير } خبره و { ذلك } بدل أو عطف بيان أو صفة ، وهذا أنبل الأقوال ذكره أبو علي في الحجة .
وقوله : { ذلك من آيات الله } إشارة إلى جميع ما أنزل من اللباس والريش ، وحكى النقاش أن الإشارة إلى لباس التقوى أي هو في العبد آية علامة وأمارة من الله أنه قد رضي عنه ورحمه ، و { لعلهم } ترج بحسبهم ومبلغهم من المعرفة وقال ابن جريج { لباس التقوى } الإيمان ، وقال معبد الجهني : هو الحياء ، وقال ابن عباس هو العمل الصالح ، وقال أيضاً ، هو السمت الحسن في الوجه ، وقاله عثمان بن عفان على المنبر ، وقال عروة بن الزبير هو خشية الله ، وقال ابن زيد هو سترة العورة ، وقيل { لباس التقوى } الصوف وكل ما فيه تواضع لله عز وجل ، وقال الحسن : هو الورع والسمت والحسن في الدنيا ، وقال ابن عباس { لباس التقوى } العفة ، وقال زيد بن علي { لباس التقوى } السلاح وآلة الجهاد .
قال القاضي أبو محمد : وهذه كلها مثل وهي من { لباس التقوى } .
قال القاضي أبو محمد : وتتصور الصفة التي حكاها أبو علي في قوله : { ذلك } لأن الأسماء توصف بمعنى الإشارة كما تقول جاءني زيد هذا كأنك قلت جاءني زيد المشار إليه فعلى هذه الحد توصف الأسماء بالمبهمات ، وأما قوله فيه عطف بيان وبدل فهما واحد في اللفظ إنما الفرق بينهما في المعنى والمقصد وذلك أنك تريد في البدل كأنك أزلت الأول وأعملت العامل في الثاني على نية تكرار العامل ، وتريد في عطف البيان كأنك أبقيت الأول وأعملت العامل في الثاني وإنما يبين الفرق بين البدل وعطف البيان في مسألة النداء إذا قلت يا عبد الله زيد فالبدل في هذه المسألة هو على هذا الحد برفع زيد لأنك تقدر إزالة عبد الله وإضافة «يا » إلى زيد ولو عطفت عطف البيان لقلت يا عبد الله زيد لأنك أردت بيانه ولم تقدر إزالة الأول وينشد هذا البيت : [ الرجز ]