معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا} (45)

قوله تعالى : { واضرب لهم } يا محمد أي : لقومك { مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } يعني : المطر ، { فاختلط به نبات الأرض } ، خرج منه كل لون وزهرة ، { فأصبح } عن قريب { هشيماً } يابساً . قال ابن عباس وقال الضحاك : كسيراً . والهشيم : ما يبس وتفتت من النبات فأصبح هشيماً ، { تذروه الرياح } ، قال ابن عباس : تثيره الرياح . وقال أبو عبيده : تفرقه . وقال القتيبي تنسفه { وكان الله على كل شيء مقتدراً } ، قادراً .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا} (45)

28

وأمام هذا المشهد يضرب مثلا للحياة الدنيا كلها . فإذا هي كتلك الجنة المضروبة مثلا قصيرة قصيرة ، لا بقاء لها ولا قرار :

( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ، فأصبح هشيما تذروه الرياح ، وكان الله على كل شيء مقتدرا ) . .

هذا المشهد يعرض قصيرا خاطفا ليلقي في النفس ظل الفناء والزوال . فالماء ينزل من السماء فلا يجري ولا يسيل ولكن يختلط به نبات الأرض . والنبات لا ينمو ولا ينضج ، ولكنه يصبح هشيما تذروه الرياح . وما بين ثلاث جمل قصار ، ينتهي شريط الحياة .

ولقد استخدم النسق اللفظي في تقصير عرض المشاهد . بالتعقيب الذي تدل عليه الفاء :

( ماء أنزلناه من السماء ) ف ( فاختلط به نبات الأرض ) ف ( أصبح هشيما تذروه الرياح ) فما أقصرها حياة ! وما أهونها حياة !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا} (45)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُم مّثَلَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ مّقْتَدِراً } .

يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واضرب لحياة هؤلاء المستكبرين الذين قالوا لك : اطرد عنك هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ ، إذا نحن جئناك الدنيا منهم مثلاً يقول : شبها كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السّماءِ يقول : كمطر أنزلناه من السماء فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ يقول : فاختلط بالماء نبات الأرض فأصْبَحَ هَشِيما يقول : فأصبح نبات الأرض يابسا متفتتا تَذْرُوهُ الرّياحُ يقول تطيره الرياح وتفرّقه يقال منه : ذَرَته الريح تَذْروه ذَرْوا ، وَذَرتْه ذَرْيا ، وأذرته تُذْرِيهِ إذراء كما قال الشاعر :

فَقُلْتُ لَهُ صَوّبْ وَلا تُجْهِدَنّهُ *** فَيُذْرِكَ مِنْ أُخْرَى القَطاةِ فَتزْلَقِ

يقال : أذريت الرجل عن الدابة والبعير : إذا ألقيته عنه .

وقوله : وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقْتَدِرا يقول : وكان الله على تخريب جنة هذا القائل حين دخل جنته : ما أظُنّ أنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَدا وَما أظُنّ السّاعَةَ قائمَةً وإهلاك أموال ذي الأمْوَالِ الباخلين بها عن حقوقها ، وإزالة دنيا الكافرين به عنهم ، وغير ذلك مما يشاء قادر ، لا يعجزه شيء أراده ، ولا يعْييه أمر أراده ، يقول : فلا يفخر ذو الأموال بكثرة أمواله ، ولا يستكبر على غيره بها ، ولا يغترنّ أهل الدنيا بدنياهم ، فإنما مَثَلُها مثل هذا النبات الذي حسُن استواؤه بالمطر ، فلم يكن إلا رَيْثَ أن انقطع عنه الماء ، فتناهى نهايته ، عاد يابسا تذروه الرياح ، فاسدا ، تنبو عنه أعين الناظرين ، ولكن ليعمل للباقي الذي لا يفنى ، والدائم الذي لا يبيد ولا يتغير .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا} (45)

{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا } واذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها أو صفتها الغريبة . { كماءٍ } هي كماء ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ل { اضرب } على أنه بمعنى صير . { أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض } فالتفت بسببه وخالط بعضه بعضا من كثرته وتكاثفه ، أو نجع في النبات حتى روى ورف وعلى هذا كان حقه فاختلط بنبات الأرض لكنه لما كان كل من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته . { فأصبح هشيماً } مهشوما مكسورا . { تذرُوه الرياح } تفرقه ، وقرئ " تذريه " من أذرى والمشبه به ليس الماء ولا حاله بل الكيفية المنتزعة من الجملة ، وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر وارفاً ثم هشيماً تطيره الرياح فيصير كأن لم يكن . { وكان الله على كل شيء } من الإنشاء والإفناء . { مقتدِراً } قادرا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا} (45)

كان أعظم حائل بين المشركين وبين النظر في أدلة الإسلام انهماكهم في الإقبال على الحياة الزائلة ونعيمها ، والغرور الذي غر طغاة أهل الشرك وصرفهم عن إعمال عقولهم في فهم أدلة التوحيد والبعث كما قال تعالى : { وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا } [ المزمل : 11 ] ، وقال : { أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } [ القلم : 14 15 ] .

وكانوا يحسبون هذا العالم غير آيل إلى الفناء { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] . وما كان أحد الرجلين اللذين تقدمت قصتهما إلا واحداً من المشركين إذ قال : { وما أظن الساعة قائمة } [ الكهف : 36 ] .

فأمر الله رسوله بأن يضرب لهم مثل الحياة الدنيا التي غرتهم بهجتها .

والحياة الدنيا : تطلق على مدة بقاء الأنواع الحية على الأرض وبقاء الأرض على حالتها . فإطلاق اسم الحياة الدنيا } على تلك المدة لأنها مدة الحياة الناقصة غير الأبدية لأنها مقدر زوالها ، فهي دُنيا .

وتطلق الحياة الدنيا على مدة حياة الأفراد ، أي حياة كل أحد . ووصفُها ب ( الدنيا ) بمعنى القريبة ، أي الحاضرة غير المنتظرة ، كنى عن الحضور بالقرب ، والوصف للاحتراز عن الحياة الآخرة وهي الحياة بعد الموت .

والكاف في قوله : { كماء } في محل الحال من ( الحياة ) المضاف إليه ( مثل ) . أي اضرب لهم مثلاً لها حال أنها كماء أنزلناه .

وهذا المثل منطبق على الحياة الدنيا بإطلاقيها ، فهما مرادان منه . وضمير { لهم } عائد إلى المشركين كما دل عليه تناسق ضمائر الجمع الآتية في قوله : { وحشرناهم } { فلم نغادر منهم } { وعرضوا } { بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا } [ الكهف : 47 48 ] .

واختلاط النبات : وفرته والتفاف بعضه ببعض من قوة الخِصب والازدهار .

والباء في قوله : ( به ) باء السببية . والضمير عائد إلى ( ماءٍ ) أي فاختلط النبات بسبب الماء ، أي اختلط بعض النبات ببعض . وليست البَاء لتعدية فعل اختلط } إلى المفعول لعدم وضوح المعنى عليه ، وفي ذكر الأرض بعد ذكر السماء محسن الطباق .

و ( أصبح ) مستعملة بمعنى صار ، وهو استعمال شائع .

والهشيم : اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول ، أي مَهْشوماً محطماً . والهَشْم : الكسر والتفتيت .

و { تذروه الرياح } أي تفرقه في الهواء . والذرو : الرمي في الهواء . شبهت حالة هذا العالم بما فيه بحالة الروضة تبقى زماناً بَهِجة خَضِرة ثم يصير نبتُها بعد حين إلى اضمحلال . ووجه الشبه : المصير من حال حسن إلى حال سَيّء . وهذا تشبيه معقول بمحسوس لأن الحالة المشبهة معقولة إذ لم ير الناس بوادر تَقلص بهجة الحياة ، وأيضاً شبهت هيئة إقبال نعيم الدنيا في الحياة مع الشباب والجِدة وزخرف العيش لأهله ، ثم تَقلصُ ذلك وزوال نفعه ثم انقراضُه أشتاتاً بهيئة إقبال الغيث منبت الزرع ونشأتِه عنه ونضارتهِ ووفرتهِ ثم أخذهِ في الانتقاص وانعدام التمتع به ثم تطَايره أشتاتاً في الهواء ، تشبيهاً لمركب محسوس بمركب محسوس ووجه الشبه كما علمت .

وجملة { وكان الله على كل شيء مقتدراً } جملة معترضة في آخر الكلام . موقعها التذكير بقدرة الله تعالى على خلق الأشياء وأضدادها ، وجعل أوائلها مفضية إلى أواخرها ، وترتيبه أسباب الفناء على أسباب البقاء ، وذلك اقتدار عجيب . وقد أفيد ذلك على أكمل وجه بالعموم الذي في قوله : { على كل شيء } وهو بذلك العموم أشبه التذييل . والمقتدر : القوي القدرة .