معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا} (60)

قوله تعالى : { وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين } ، عامة أهل العلم قالوا : إنه موسى بن عمران . وقال بعضهم : هو موسى بن ميشا من أولاد يوسف ، والأول أصح .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا الحميدي ، ثنا سفيان ، ثنا عمرو بن دينار ، أخبرني سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل ، فقال ابن عباس : كذب عدو الله ، حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل ، فسئل أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا ، فعتب الله عليه ، إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه أن لي عبداً بمجمع البحرين ، هو أعلم منك ، قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال : تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل فحيث ما فقدت الحوت فهو ثمة . فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق ، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون ، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما ، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر ، فاتخذ سبيله في البحر سرباً ، وأمسك الله تعالى عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق ، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد ، قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً ، قال : ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به ، وقال له فتاه : ( أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ، واتخذ سبيله في البحر عجباً ) ، قال : فكان للحوت سرباً ولموسى ولفتاه عجباً ، وقال موسى : ذلك ما كنا نبغ . قال : رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجي بثوب ، فسلم عليه موسى ، فقال الخضر عليه السلام : وأنى بأرضك السلام ، فقال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً ، قال : إنك لن تستطيع معي صبراً يا موسى ، إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمك الله ، لا أعلمه ، فقال موسى : ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً ، فقال له الخضر : فإن اتبعتني ( فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً فانطلقا ) يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة ، فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر ، فحملوهم بغير نول حتى إذا ركب في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قد حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ؟ لقد جئت شيئاً إمراً ! قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً ؟ قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً ، فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فكانت الأولى من موسى نسياناً والوسطى شرطاً والثالثة عمداً ، قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرةً فقال له الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله ، فقال له موسى : ( أقتلت نفساً زكية بغير نفس ؟ لقد جئت شيئاً نكراً ، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً ) ؟ قال : وهذه أشد من الأولى ، قال : ( إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني ، قد بلغت من لدني عذراً ، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما ، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض ) قال : كان مائلا ، فقال الخضر بيده فأقامه ، قال : كان مائلاً ، فقال الخضر بيده فأقامه ، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ، ولم يضيفونا ، ( لو شئت لاتخذت عليه أجراً ، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً ) . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما " . قال سعيد بن جبير : فكان ابن عباس يقرأ : وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً ، وكان يقرأ : وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين . وعن سعيد بن جبير في رواية أخرى عن ابن عباس عن أبي بن كعب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قام موسى رسول الله فذكر الناس يوماً حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى فأدركه رجل فقال : أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك ؟ قال لا - فعتب الله عليه ، إذ لم يرد العلم إلى الله - قيل : - بلى عبدنا الخضر قال : يا رب وأين ؟ قال : بمجمع البحرين ، قال : خذ حوتاً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح ، وفي رواية قيل له : تزود حوتاً مالحاً فإنه حيث تفقد الحوت ، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل " . رجعنا إلى التفسير ، قوله : { وإذ قال موسى لفتاه } ، يوشع بن نون ، { لا أبرح } أي لا أزال أسير { حتى أبلغ مجمع البحرين } ، قال قتادة : بحر فارس ، وبحر الروم ، مما يلي المشرق . وقال محمد بن كعب : طنجة . وقال أبي بن كعب : أفريقية . { أو أمضي حقباً } أي : وإن كان حقباً أي : دهراً طويلاً وزمانا ، وجمعه أحقاب ، والحقب : جمع الحقب . قال عبد الله بن عمر : والحقب ثمانون سنة ، فحملا خبزاً وسمكة مالحة حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين ليلاً وعندها عين تسمى ماء الحياة لا يصيب ذلك الماء شيئاً إلا حيي ، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وعاشت ودخلت البحر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا} (60)

الواحدة الرابعة : 60 - 82 الموضوع : قصة موسى مع الخضر

هذه الحلقة من سيرة موسى - عليه السلام - لا تذكر في القرآن كله إلا في هذا الموضع من هذه السورة . والقرآن لا يحدد المكان الذي وقعت فيه إلا بأنه ( مجمع البحرين ) ولا يحدد التاريخ الذي وقعت فيه من حياة موسى ، هل كان ذلك وهو في مصر قبل خروجه ببني إسرائيل أم بعد خروجه بهم منها ? ومتى بعد الخروج : قبل أن يذهب بهم إلى الأرض المقدسة ، أم بعد ما ذهب بهم إليها فوقفوا حيالها لا يدخلون لأن فيها قوما جبارين ? أم بعد ذهابهم في التيه ، مفرقين مبددين ?

كذلك لا يذكر القرآن شيئا عن العبد الصالح الذي لقيه موسى . من هو ? ما اسمه ? هل هو نبي أو رسول ? أم عالم ? أم ولي ?

وهناك روايات كثيرة عن ابن عباس وعن غيره في هذه القصة . ونحن نقف عند نصوص القصة في القرآن . لنعيش " في ظلال القرآن " ونعتقد أن لعرضها في القرآن على النحو الذي عرضت به ، دون زيادة ، ودون تحديد للمكان والزمان والأسماء ، حكمة خاصة . فنقف نحن عند النص القرآني نتملاه . .

( وإذ قال موسى لفتاه : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) . .

والأرجح - والله أعلم - أنه مجمع البحرين : بحر الروم وبحر القلزم . أي البحر الأبيض والبحر الأحمر . . ومجمعهما مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح . أو أنه مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر . فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر . وعلى أي فقد تركها القرآن مجملة فنكتفي بهذه الإشارة .

ونفهم من سياق القصة فيما بعد - أنه كان لموسى - عليه السلام - هدف من رحلته هذه التي اعتزمها ، وأنه كان يقصد من ورائها أمرا ، فهو يعلن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة ، ومهما يكن الزمن الذي ينفقه في الوصول . وهو يعبر عن هذا التصميم بما حكاه القرآن من قوله : ( أو أمضي حقبا )والحقب قيل عام ، وقيل ثمانون عاما . على أية حال فهو تعبير عن التصميم ، لا عن المدة على وجه التحديد .