الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا} (60)

فيه أربع مسائل :

الأولى-قوله تعالى : " وإذ قال موسى لفتاه " الجمهور من العلماء وأهل التاريخ أنه موسى بن عمران المذكور في القرآن ليس فيه موسى غيره . وقالت فرقة منها نوف البكالي : إنه ليس ابن عمران وإنما هو موسى بن منشا بن يوسف بن يعقوب وكان نبيا قبل موسى بن عمران . وقد رد هذا القول ابن عباس في صحيح البخاري وغيره . وفتاه : هو يوشع بن نون . وقد مضى ذكره في " المائدة " {[10599]} وآخر " يوسف{[10600]} " . ومن قال هو ابن منشا فليس الفتى يوشع بن نون . " لا أبرح " أي لا أزال أسير ، قال الشاعر{[10601]} :

وأَبْرَحُ ما أدام الله قومي*** بحمد الله مُنْتَطِقاً مُجِيدا

وقيل : " لا أبرح " لا أفارقك . " حتى أبلغ مجمع البحرين " أي ملتقاهما . قال قتادة : وهو بحر فارس والروم ، وقال مجاهد . قال ابن عطية : وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان ، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجمع البحرين على هذا القول . وقيل : هما بحر الأردن وبحر القلزم . وقيل : مجمع البحرين عند طنجة ، قال محمد بن كعب . وروي عن أبي بن كعب أنه بأفريقية . وقال السدي : الكرّ والرّسّ{[10602]} بأرمينية . وقال بعض أهل العلم : هو بحر الأندلس من البحر المحيط ، حكاه النقاش ، وهذا مما يذكر كثيرا . وقالت فرقة : إنما هما موسى والخضر ، وهذا قول ضعيف ، وحكي عن ابن عباس ، ولا يصح ، فإن الأمر بين من الأحاديث أنه إنما وسم{[10603]} له بحر ماء .

وسبب هذه القصة ما خرجه الصحيحان عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ، قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم . . . ) وذكر الحديث ، واللفظ للبخاري . وقال ابن عباس :( لما ظهر موسى وقومه على أرض مصر أنزل قومه مصر ، فلما استقرت بهم الدار أمره الله أن ذكّرهم بأيام الله ، فخطب قومه فذكرهم ما آتاهم الله من الخير والنعمة إذ نجاهم من آل فرعون ، وأهلك عدوهم ، واستخلفهم في الأرض ، ثم قال : وكلم الله نبيكم تكليما ، واصطفاه لنفسه ، وألقى علي{[10604]} محبة منه ، وآتاكم من كل ما سألتموه ، فجعلكم أفضل أهل الأرض ، ورزقكم العز بعد الذل ، والغنى بعد الفقر ، والتوراة بعد أن كنتم جهالا ، فقال له رجل من بني إسرائيل : عرفنا الذي تقول ، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال : لا ، فعتب عليه حين لم يرد العلم إليه ، فبعث الله جبريل : أن يا موسى وما يدريك أين [ أضع ]{[10605]} علمي ؟ بلى إن لي عبدا بمجمع البحرين أعلم منك . . . ) وذكر الحديث . قال علماؤنا : قوله في الحديث ( هو أعلم منك ) أي بأحكام وقائع مفصلة ، وحكم نوازل معينة ، لا مطلقا بدليل قول الخضر لموسى :( إنك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا ، وأنا على علم علمنيه لا تعلمه أنت ) وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه كل واحد منهما ولا يعلمه الآخر ، فلما سمع موسى هذا تشوقت نفسه الفاضلة ، وهمته العالية ، لتحصيل علم ما لم يعلم ، وللقاء من قيل فيه : إنه أعلم منك ، فعزم فسأل سؤال الذليل بكيف{[10606]} السبيل ، فأمر بالارتحال على كل حال وقيل له : احمل معك حوتا مالحا في مكتل - وهو الزنبيل فحيث يحيا وتفقده فثم السبيل ، فانطلق مع فتاه لما واتاه ، مجتهدا طلبا قائلا : " لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين " . " أو أمضي حقبا " بضم الحاء والقاف وهو الدهر{[10607]} ، والجمع أحقاب . وقد تسكن قافه فيقال حقب . وهو ثمانون سنة . ويقال : أكثر من ذلك . والجمع حقاب والحقبة بكسر الحاء واحدة الحقب وهي السنون .

الثانية-في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم ، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب ، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم ، وذلك كان في دأب السلف الصالح ، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح ، وحصلوا على السعي الناجح ، فرسخت لهم في العلوم أقدام ، وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام قال . البخاري : ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث .

الثالثة-قوله تعالى : " وإذ قال موسى لفتاة " للعلماء فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كان معه يخدمه ، والفتى في كلام العرب الشاب ، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب ، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي ) فهذا ندب إلى التواضع ، وقد تقدم هذا في " يوسف " {[10608]} . والفتى في الآية هو الخادم وهو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه السلام . ويقال : هو ابن أخت موسى عليه السلام . وقيل : إنما سمي فتى موسى ؛ لأنه لزمه ليتعلم منه وإن كان حرا ، وهذا معنى الأول . وقيل : إنما سماه فتى لأنه قام مقام الفتى وهو العبد ، قال الله تعالى : " وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم . . . " [ يوسف : 62 ] وقال : " تراود فتاها عن نفسه . . . " قال ابن العربي : فظاهر القرآن يقتضي أنه عبد ، وفي الحديث :( أنه كان يوشع بن نون ) وفي التفسير : أنه ابن أخته ، وهذا كله مما لا يقطع به ، والتوقف فيه أسلم .

الرابعة-قوله تعالى : " أو أمضي حقبا " قال عبد الله بن عمر :( والحقب ثمانون سنة ) مجاهد : سبعون خريفا . قتادة : زمان ، النحاس : الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود ، كما أن رهطا وقوما مبهم غير محدود : وجمعه أحقاب .


[10599]:راجع جـ 6 ص 130 فما بعد.
[10600]:راجع جـ 9 ص 270 فما بعد.
[10601]:هو خداش بن شهير، يقول: لا أزال أجنب فرسي جوادا، ويقال: إنه أراد قولا يستجاد في الثناء على قومي وفي (اللسان): "على الأعداء" يدل "بحمد الله".
[10602]:الكروالرس: نهران.
[10603]:في جـ وك: إنما رسم له بحرما.
[10604]:في ي: عليه.
[10605]:الزيادة من كتب التفسير.
[10606]:في جـ وك: فكيف.
[10607]:في البحر: الحقب السنون.
[10608]:راجع جـ 9 ص 194 وص 176 وص 222.