الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا} (60)

قوله : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى } : " إذ " منصوبٌ ب اذكر ، أو وقتَ قال لفتاه جرى ما قَصَصْنا عليك مِنْ خبرِه .

قوله : " لا أَبْرَحُ " يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ ناقصةً فتحتاجَ إلى خبر . والثاني : أن تكونَ تامةً فلا تحتاج إليه . فإن كانَتِ الناقصةَ ففيها تخريجان ، أحدُهما : أن يكونَ الخبرُ محذوفاً للدلالةِ عليه تقديرُه : لا أبرحُ أسيرُ حتى أبلغَ ، إلا انَّ حَذْفَ الخبرِ في هذا البابِ نَصَّ بعضُ النَّحْويين على أنه لا يجوزُ ولو بدليلٍ ، إلا في ضرورة كقوله :

لَهَفي عليكَ للِهْفَةٍ مِنْ خائفٍ *** يَبْغي جوارَك حينَ ليس مُجِيْرُ

أي : حين ليس في الدنيا مُجير . والثاني : أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه : لا يَبْرَحُ مسيري حتى أبلغَ ، ثم حذف " مسير " وأقيمت الياء مُقامَه ، فانقلبَتْ مرفوعةً مستترة بعد أن كانت مخفوضةَ المحلِّ بارزةً ، وبقي " حتى أَبْلُغَ " على حالِه هو الخبر .

وقد خَلَطَ الزمخشريُّ هذين الوجهين فجَعَلَهما وجهاً واحداً ، ولكنْ في عبارةٍ حسنةٍ جداً ، فقال : " فإن قلت " " لا أبرح " إن كان بمعنى " لا أَزُوْل " مِنْ بَرِح المكانَ فقد دلَّ على الإِقامة لا على السفر . وإن كان بمعنى " لا أزال " فلا بُدَّ من خبر . قلت : هي بمعنى لا أزال ، وقد حُذِفَ الخبرُ لأنَّ الحالَ والكلامَ معاً يَدُلاَّن عليه : أمَّا الحالُ فلأنها كانت حالَ سَفَرٍ ، وأمَّا الكلامُ فإنَّ قولَه " حتى أَبْلُغَ " غايةٌ مضروبةٌ تَسْتدعي ما هي غايةٌ له ، فلا بد أن يكون المعنى : [ لا أبرح أسير حتى أبلغَ . ووجهٌ آخرُ وهو أَنْ يكونَ المعنى : ] لا يبرح مسيري حتى أبلغَ على أنَّ " حتى أبلغَ " هو الخبرُ ، فلمَّا حُذِفَ المضافُ أُقيم المضافُ إليه مُقامه وهو ضميرُ المتكلم ، فانقلب الفعلُ مِنْ ضمير الغائبِ إلى لفظِ المتكلم وهو وجهٌ لطيفٌ " .

قلت : وهذا على حُسْنِه فيه نظرٌ لا يخفى وهو : خلوُّ الجملةِ الواقعةِ خبراً عن " مسيري " في الأصل مِنْ رابط يَرْبِطُها به . ألا ترى أنه ليس في قوله " حتى أبلغ " ضميرٌ يعودُ على " مَسيري " إنما يعودُ على المضافِ إليه المستتر ، ومِثْلُ ذلك لا/ يُكتفى به .

ويمكن أَنْ يُجابَ عنه : بانَّ العائدَ محذوفٌ ، تقديرُه حتى أبلغَ به ، أي : بمسيري .

وإن كانت التامةَ كان المعنى : لا أبرح ما أنا عليه ، بمعنى ألزمُ المسيرَ والطَّلَبَ ، ولا أفارقه ولا أتركه ، حتى أبلغَ ، كما تقول : لا أبرحُ المكانَ . قلت : فعلى هذا يُحتاجُ أيضاً إلى حَذْفِ مفعولٍ به كما تقدَّمَ تقريرُه ، فالحذفُ لا بُدَّ منه على تقديرَيْ التمامِ والنقصانِ في أحدِ وجهَيْ النقصان .

وقرأ العامَّة " مَجْمَعَ " بفتح الميمِ وهو مكانُ الاجتماع ، وقيل : مصدر . وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار بكسرها ، وهو شاذ ، لفتحِ عينِ مضارعِه .

قوله : " حُقُبا " منصوبٌ على الظرفِ وهو بمعنى الدهر . وقيل : ثمانون سنة . وقيل : سنةٌ واحدة بلغة قريش . وقيل : سبعون . وقرأ الحسن . " حُقْباً " بإسكان القاف فيجوزُ أَنْ يكونَ تخفيفاً ، وأن يكونَ لغةً مستقلة . ويُجمع على " أَحْقاب " كعُنُق وأَعْناق . وفي معناه الحِقْبَةُ بالكسر . قال امرؤ القيس :

فإنْ تَنْأَ عنها حَقْبَةً لا تُلاقِها *** فإنَّك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ

والحُقْبَة بالضمِّ أيضاً . وتُجمع الأُولى على حِقَب بكسر الحاء كقِرَب ، والثانيةُ على حُقَب بضمِّها كقُرَب .

وقوله : " أو أَمْضِيَ " فيه وجهان ، أظهرُهما : أنَّه منسوقٌ على " أَبْلُغَ " يعني بأحد أمرين : إمَّا ببلوغِه المَجْمَعَ ، أو بمضيِّه حُقُباً . والثاني : انه تَغْيِيَةٌ لقوله لا أَبْرَحُ ، فيكون منصوباً بإضمارِ ، " أَنْ " بعد " أو " بمعنى " إلى " نحو " لأَلْزَمَنَّكَ أو تقضيَني حقي " .

قال الشيخ : " فالمعنى : لا أبرحُ حتى أبلغَ مَجْمَعَ البحرَيْنِ ، إلى أن اَمْضِيَ زماناً أتيقَّنُ معه فواتَ مجمعِ البحرَيْن " قلت : فيكونُ الفعلُ المنفيُّ قد غُيِّيَ بغايَتْين مكاناً وزماناً ، فلا بُدَّ من حصولهِما معاً نحو : " لأسيرَنَّ إلى بيتِك إلى الظهر " فلا بُدَّ من حصولِ الغايتين . والمعنى الذي ذكره الشيخُ يقتضي أنه يمضي زماناً يتيقَّنُ فيه فواتَ مجمعِ البحرين .

وجَعَلَ أبو البقاء " أو " هنا بمعنى " إلاَّ " في أحدِ الوجهين ، قال : " والثاني : أنَّها بمعنى : إلا أَنْ اَمْضِيَ زماناً أتيقَّنُ معه فواَ مجمعِ البحرين " . وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنىً صحيحٌ ، فأخذ الشيخ هذا المعنى ، رَكَّبه مع القولِ بأنها بمعنى " إلى " المقتضيةِ للغايةِ ، فمِنْ ثَمَّ جاء الإِشكالُ .