غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا} (60)

60

التفسير : هذه قصة أوردها الله تعالى لتعين على المقاصد السابقة مع كونها مستقلة في الإفادة ، أما نفعها في قصة أصحاب الكهف فهو أن اليهود قالوا : إن أخبركم محمد عنها فهو نبي وإلا فلا ، فذكر الله تعالى قصة موسى والخضر تنبيهاً على أن النبي لا يلزم أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار . وأما نفعها في الرد على كفار قريش حين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار ، فهو أن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعلو منصبه واستجمام موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر وتواضع له لأجل طلب العلم فدل ذلك على أن التواضع خير من التكبر . وأكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية هو موسى بن عمران صاحب التوراة والمعجزات . وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس : إن نوفاً ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران وإنما هو صاحب موسى بن ميشا بن يعقوب وهو قد كان نبياً قبل موسى بن عمران . فقال ابن عباس : كذب عدو الله . واحتج الأكثرون على صحة قولهم بأن موسى حيث أطلق في القرآن أريد به موسى بن عمران ، فلو كان المراد ههنا شخصاً آخر لوجب تعريفه بحيث يتميز عن المشهور . حجة الأقلين - وإليه ذهب جمهور اليهود - أن موسى بن عمران بعد أن خصه الله تعالى بالمعجزات الظاهرة التي لم يتفق لمن قبله مثلها ، يبعد أن يؤمر بالتعلم والاستفادة . وأجيب بأن العالم الكامل في أكثر العلوم قد يجهل بعض المسائل فيحتاج في تعلمها إلى من يختص بعلمها . أما فتى موسى فالأكثر على أنه يوشع بن نون ، ويروى هذا القول عن سعد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : هو أخو يوشع وكان مصاحباً لموسى في السفر . وعن الحسن : إنه أراد عبده ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي " قال أهل السير : إن موسى لما ظهر على مصر مع نبي إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط ، أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيباً فذكر نعمة الله فقال : إنه اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له : قد علمنا هذا فأيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا . فعتب الله حين لم يردّ العلم إلى الله ، فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبد لي بمجمع البحرين وهو الخضر ، وكان الخضر عليه السلام في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر . وبقي إلى أيام موسى . ويروى أن موسى سأل ربه أيّ عبادك أحب إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني . قال : فأيّ عبادك أقضى ؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى . قال : فأي عبادك أعلم ؟ الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على الهوى أو تردّه عن ردى . فقال : إن كان في عبادك من هو أعلم منى فادللني عليه . قال : أعلم منك الخضر . قال : فأين أطلبه ؟ قال : على الساحل عند الصخرة . قال : يا رب كيف لي به ؟ قال : تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك . فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني ، فذهبا يمشيان فرقد موسى عليه السلام فاضطرب الحوت ووقع في البحر ، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فأتيا الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى عليه السلام فقال : وأنى بأرضنا السلام فعرفه نفسه فقال : يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا . فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع في حرفها فنقر في الماء فقال الخضر : ما ينقص علمي وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر . قلت : وهذا صحيح لأن علم الإنسان متناه وعلم الله غير متناه ، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلاً . ولنرجع إلى التفسير قال الزجاج وتبعه جار الله : { لا أبرح } بمعنى لا أزال ، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه ولأن قوله : { حتى أبلغ } غاية مضروبة فلا بد لها من ذي غاية . فالمعنى لا أزال أسير إلى أن أبلغ ، وجوز أن يكون المعنى لا أبرح سيري حتى أبلغ على أن { حتى أبلغ } هو الخبر ، وحذف المضاف وهو السير وأقيم المضاف إليه - وهو ياء المتكلم - مقامه فانقلب الفعل من لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم وجوز أيضاً أن يكون لا أبرح ، بمعنى لا أزول من برح المكان ، والمعنى لا أبرح ما أنا عليه أي لا أترك المسير والطلب حتى أبلغ { مجمع البحرين } يعني ملتقى بحري فارس والروم وقد شرحنا وضع البحار في سورة البقرة في تفسير قوله : { الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } [ الآية : 164 ] . وقيل : أراد طنجة ، وقيل أفريقية . ومن غرائب التفسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما بحر العلم ، وهذا مع غرابته مستبشع جداً لأن البحرين إذا كان هو موسى عليه السلام فكيف يصح أن يقول : { حتى أبلغ مجمع البحرين } إذ يؤل حاصل المعنى إلى قولنا حتى أبلغ مكاناً يجتمع فيه بحران من العلم أحدهما أنا { أو أمضي حقباً } أسير زماناً طويلاً . قال جار الله : الحقب بالضم ثمانون سنة . ويقال : أكثر من ذلك . وقيل : إنه تعالى أعلم موسى حال هذا العالم وما أعلمه بعينه فقال موسى : لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحراً واحداً أو أمضي دهراً طويلاً حتى أجد هذا العالم ، وهذا إخبار من موسى عليه السلام بأنه وطن تحمل التعب الشديد إلى أن يلقاه ، وفيه تنبيه على شرف العلم وأن طلب العلم يحق له أن يسافر ، ويتحمل المتاعب في الطلب من غير ملال وكلال .

/خ82