البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا} (60)

برح : زال مضارع يزول ، ومضارع يزال فتكون من أخوات كان الناقصة .

الحِقب : السنون واحدها حقبة .

قال الشاعر :

فإن تنأ عنها حقبة لاتلاقها***فإنك مما أحدثت بالمحرب

وقال الفراء : الحقب سنة ، ويأتي قول أهل التفسير فيه .

{ موسى } المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران عليه السلام ، ولم يذكر الله في كتابه موسى غيره ، ومن ذهب إلى أنه غيره وهو موسى بن ميشا بن يوسف ، أو موسى بن افراثيم بن يوسف فقول لا يصح ، بل الثابت في الحديث الصحيح وفي التواريخ أنه موسى بن عمران نبيّ بني إسرائيل ، والمرسل هو وأخوه هارون إلى فرعون ، وفتاه هو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب عليهم الصلاة والسلام ، والفتى الشاب ولما كان الخدم أكثر ما يكونون فتياناً قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب ، وندبت الشريعة إلى ذلك .

ففي الحديث : « لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي » { لفتاه } لأنه كان يخدمه ويتبعه .

وقيل : كان يأخذ منه العلم .

ويقال : إن يوشع كان ابن أخت موسى عليه السلام وسبب هذه القصة أن موسى عليه السلام جلس يوماً في مجلس لبني إسرائيل وخطب فأبلغ ، فقيل له هل تعلم أحداً أعلم منك ؟ قال : لا ، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ { مجمع البحرين } فإذا فقد الحوت فإنه هنالك ففعل موسى ذلك وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة { لا أبرح } أسير أي لا أزال .

قال ابن عطية : وإنما قال هذه المقالة وهو سائر .

ومن هذا قول الفرزدق :

فما برحوا حتى تهادت نساؤهم***ببطحاء ذي قار عباب اللطائم

انتهى .

وهذا الذي ذكره فيه حذف خبر { لا أبرح } وهي من أخوات كان ، ونص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل على حذفه إلاّ ما جاء في الشعر من قوله :

لهفي عليك للهفة من خائف***يبغي جوارك حين ليس مجير

أي حين ليس في الدنيا .

وقال الزمخشري : فإن قلت : { لا أبرح } إن كان بمعنى لا أزول من برح المكان فقد دل على الإقامة على السفر ، وإن كان بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر قلت : هو بمعنى لا أزال وقد حذف الخبر لأن الحال والكلام معاً يدلان عليه ، أما الحال فلأنها كانت حال سفر ، وأما الكلام فلأن قوله { حتى أبلغ مجمع البحرين } غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له ، فلا بد أن يكون المعنى لا يبرح مسيري { حتى أبلغ } على أن { حتى أبلغ } هو الخبر ، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم ، فانقلب الفعل عن ضمير الغائب إلى لفظ المتكلم وهو وجه لطيف انتهى .

وهما وجهان خلطهما الزمخشري : أما الأول : فجعل الفعل مسنداً إلى المتكلم لفظاً وتقديراً وجعل الخبر محذوفاً كما قدره ابن عطية و { حتى أبلغ } فضلة متعلقة بالخبر المحذوف وغاية له .

والوجه الثاني جعل { لا أبرح } مسنداً من حيث اللفظ إلى المتكلم ، ومن حيث المعنى إلى ذلك المقدر المحذوف وجعله { لا أبرح } هو { حتى أبلغ } فهو عمدة إذ أصله خبر للمبتدأ لأنه خبر { أبرح } .

وقال الزمخشري .

أيضاً : ويجوز أن يكون المعنى { لا أبرح } ما أنا عليه بمعنى ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه { حتى أبلغ } كما تقول لا أبرح المكان انتهى .

يعني إن برح يكون بمعنى فارق فيتعدى إذ ذاك إلى مفعول ويحتاج هذا إلى صحة نقل ، وذكر الطبري عن ابن عباس قال : لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه بمصر ، فلما استقرت الحال خطب يوماً فذكَّر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل ، ثم ذكر ما هو عليه من أنه لا يعلم أحداً أعلم منه .

قال ابن عطية : وما يرى قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلاّ في هذا الكلام ، وما أراه يصح بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين ، وهذا المروي عن ابن عباس ذكره الزمخشري فقال : روي أنه لما ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بعد هلاك القبط أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيباً فذكر نعمة الله ، وقال : إن الله اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له : قد علمنا هذا فأي الناس أعلم ؟ قال : أنا فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إلى الله فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر ، كان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى ، وذكر أيضاً في أسئلة موسى أنه قال : إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه ، قال : أعلم منك الخضر انتهى .

وهذا مخالف لما ثبت في الصحيح من أنه قيل له هل أحد أعلم منك ؟ قال : لا .

و { مجمع البحرين } قال مجاهد وقتادة : هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم .

قال ابن عطية : وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان ، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجتمع البحرين على هذا القول .

وقالت فرقة منهم محمد بن كعب القرظي : هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا .

وعن أبيّ بإفريقية .

وقيل : هو بحر الأندلس والقرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء .

وقيل : { مجمع البحرين } بحر ملح وبحر عذب فيكون الخضر على هذا عند موقع نهر عظيم في البحر .

وقالت فرقة : البحران كناية عن موسى والخضر لأنهما بحرا علم .

وهذا شبيه بتفسير الباطنية وغلاة الصوفية ، والأحاديث تدل على أنهما بحرا ماء .

وقال الزمخشري : من بدع التفاسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما كانا بحرين في العلم انتهى .

وقيل : بحر القلزم .

وقيل : بحر الأزرق .

وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار { مجمع } بكسر الميم الثانية والنضر عن ابن مسلم في كلا الحرفين وهو شاذ ، وقياسه من يفعل فتح الميم كقراءة الجمهور .

والظاهر أن { مجمع البحرين } هو اسم مكان جمع البحرين .

وقيل : مصدر .

قال ابن عباس : الحقب الدهر .

وقال عبد الله بن عمرو وأبو هريرة : ثمانون سنة .

وقال الحسن : سبعون .

وقيل : سنة بلغة قريش ذكره الفراء .

وقيل : وقت غير محدود قاله أبو عبيدة .

والظاهر أن قوله { أو أمضي } معطوف على { أبلغ } فغيا بأحد الأمرين إما ببلوغه المجمع وإما بمضيه { حقباً } .

وقيل : هي تغيية لقوله { لا أبرح } كقولك لا أفارقك أو تقضيني حقي ، فالمعنى { لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين } إلى أن أمضي زماناً أتيقن معه فوات مجمع البحرين .

وقرأ الضحاك { حقباً } بإسكان القاف والجمهور بضمها .