إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا} (60)

{ وَإِذْ قَالَ موسى } نصب بإضمار فعل ، أي اذكر وقت قوله عليه السلام { لفتاه } وهو يوشعُ بن نونٍ بنِ أفرايمَ بنِ يوسفَ عليه السلام ، سُمّي فتاه إذ كان يخدُمه ويتبعه ، وقيل : كان يتعلم منه ويسمى التلميذُ فتًى وإن كان شيخاً ، ولعل المرادَ بتذكيره عَقيب بيانِ أن لكل أمة موعداً تذكيرُ ما في القصة من موعد الملاقاة مع ما فيها من سائر المنافعِ الجليلة { لا أَبْرَحُ } من برِح الناقصِ كزال يزال ، أي لا أزال أسير فحُذف الخبر اعتماداً على قرينة الحالِ إذْ كان ذلك عند التوجه إلى السفر واتكالاً على ما يعقُبه من قوله : { حتى أَبْلُغَ } فإن ذلك غايةٌ تستدعي ذا غايةً يؤدّي إليها ، ويجوز أن يكون أصلُ الكلام لا يبرَح مسيري حاصلاً حتى أبلُغ فيُحذف المضافُ ويقام المضافُ إليه مُقامَه فينقلب الضمير البارزُ المجرورُ المحلِّ مرفوعاً مستكنًّا ، والفعلُ من صيغة الغَيبة إلى التكلم . ويجوز أن يكون من برح التامِّ كزال يزول أي لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ { مَجْمَعَ البحرين } هو ملتقى بحرِ فارسَ والروم مما يلي المشرِق ، وقيل : طَنْجَةُ ، وقيل : هما الكر والرس بإرْمِيْنِيةَ ، وقيل : إِفْرِيقِيَّة ، وقرئ بكسر الميم كمشرق { أَوْ أَمْضِي حُقُباً } أسير زماناً طويلاً أتيقن معه فواتَ المطلب والحُقب الدهرُ أو ثمانون سنة ، وكان منشأُ هذه العزيمة أن موسى عليه السلام لما ظهر على مصر مع بني إسرائيلَ واستقروا بها بعد هلاكِ القِبْط أمره الله عز وجل أن يذكّر قومَه النعمةَ فقام فيهم خطيباً بخطبة بديعةٍ رقت بها القلوبُ وذرَفت العيون ، فقالوا له : مَنْ أعلمُ الناس ؟ قال : أنا . فعتب الله تعالى عليه إذ لم يردّ العلم إليه عز وجل فأوحى إليه : « بل أعلمُ منك عبدٌ لي عند مجمع البحرين وهو الخِضْرُ عليه السلام » . وكان في أيام أفريذون قبل موسى عليه السلام وكان على مقدّمة ذي القرنين وبقي إلى أيام موسى . وقيل : ( إن موسى عليه السلام سأل ربه : أيُّ عبادِك أحبُّ إليك ؟ قال : « الذي يذكرُني ولا ينساني » قال : فأيُّ عبادك أقضى ؟ قال : « الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى » قال : فأيُّ عبادك أعلمُ ؟ قال : « الذي يبتغي علمَ الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمةً تدله على هدى ، أو تردّه عن ردَى » فقال : إن كان في عبادك من هو أعلمُ مني فدلَّني عليه ، قال : « أعلمُ منك الخِضْرُ » قال : أين أطلبه ؟ قال : « على ساحل البحر عند الصخرة » قال : يا رب كيف لي به ؟ قال : « تأخذ حوتاً في مِكْتل{[519]} فحيثما فقَدته فهو هناك » . فأخذ حوتاً فجعله في مِكتل ، فقال لفتاه : إذا فقدتَ الحوتَ فأخبرني فذهبا يمشيان ) .


[519]:المكتل: زنبيل يعمل من الخوص.