قوله عز وجل :{ يعملون له ما يشاء من محاريب } أي : مساجد ، والأبنية المرتفعة ، وكان مما عملوا له بيت المقدس ابتدأه داود ورفعه قدر قامة رجل ، فأوحى الله إليه إني لم أقض ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي تمامه على يده ، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس ، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستخلصه لهم ، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والميها الأبيض من معادنه ، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح ، وجعلها اثنى عشر ربضاً ، وأنزل كل ربض منها سبطاً من الأسباط ، وكانوا اثنى عشر سبطاً ، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقاً فرقاً يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر ، وفرقاً يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها ، وفرقاً يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب من أماكنها ، فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله عز وجل ، ثم أحضر الصناعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحاً وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلئ ، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين الميها الصافي وسقفه بألواح الجواهر الثمينة وفصص سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر ، وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد ، وكان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر ، فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه الله عز وجل ، وأن كل شيء فيه خالص لله ، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً . وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنين ، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة ، سأل حكماً يصادف حكمه ، فأعطاه إياه وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، فأعطاه إياه ، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك " . قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد ، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر ، فحمله إلى دار مملكته من أرض العراق ، وبنى الشياطين لسليمان باليمن حصوناً كثيرة عجيبة من الصخر . قوله عز وجل : { وتماثيل } أي : كانوا يعملون له تماثيل ، أي : صوراً من نحاس وصفر وشبه وزجاج ورخام . وقيل : كانوا يصورون السباع والطيور . وقيل : كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المسجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة ، ولعلها كانت مباحة في شريعتهم ، كما أن عيسى كان يتخذ صوراً من الطين فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله . { وجفان } أي : قصاع واحدتها جفنة ، { كالجواب } كالحياض التي يجبى فيها الماء ، أي : يجمع ، واحدتها جابية ، يقال : كان يعقد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها { وقدور راسيات } ثابتات لها قوائم لا يحركن عن أماكنها لعظمهن ، ولا ينزلن ولا يقلعن ، وكان يصعد عليها بالسلالم جمع السلم ، وكانت باليمن . { اعملوا آل داود شكرا } أي : وقلنا اعملوا آل داود شكراً ، مجازه : اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكراً له على نعمه . { وقليل من عبادي الشكور } أي : العامل بطاعتي شكراً لنعمتي . قيل : المراد من آل داود هو داود نفسه . وقيل : داود وسليمان وأهل بيته . وقال جعفر بن سليمان : سمعت ثابتاً يقول : كان داود نبي الله عليه السلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي .
( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ) . .
والمحاريب من أماكن العبادة ، والتماثيل الصور من نحاس وخشب وغيره . والجوابي جمع جابية وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء . وقد كانت الجن تصنع لسليمان جفاناً كبيرة للطعام تشبه الجوابي ، وتصنع له قدوراً ضخمة للطبخ راسية لضخامتها . . وهذه كلها نماذج مما سخر الله الجن لسليمان لتقوم له به حيث شاء بإذن الله . وكلها أمور خارقة لا سبيل إلى تصورها أو تعليلها إلا بأنها خارقة من صنع الله . وهذا هو تفسيرها الواضح الوحيد .
ويختم هذا بتوجيه الخطاب إلى آل داود :
سخرنا لكم هذا وذلك في شخص داود وشخص سليمان - عليهما السلام - فاعملوا يا آل داود شكراً لله . لا للتباهي والتعالي بما سخره الله . والعمل الصالح شكر لله كبير .
تعقيب تقريري وتوجيهي من تعقيبات القرآن على القصص . يكشف من جانب عن عظمة فضل الله ونعمته حتى ليقل القادرون على شكرها . ويكشف من جانب آخر عن تقصير البشر في شكر نعمة الله وفضله . وهم مهما بالغوا في الشكر قاصرون عن الوفاء . فكيف إذا قصروا وغفلوا عن الشكر من الأساس ? !
وماذا يملك المخلوق الإنساني المحدود الطاقة من الشكر على آلاء الله وهي غير محدودة ? . . وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . . وهذه النعم تغمر الإنسان من فوقه ومن تحت قدميه ، وعن أيمانه وعن شمائله ، وتكمن فيه هو ذاته وتفيض منه . وهو ذاته إحدى هذه الآلاء الضخام !
كنا نجلس جماعة نتحدث وتتجاوب أفكارنا وتتجاذب ، وتنطلق ألسنتنا بكل ما يخطر لنا على بال . ذلك حينما جاء قطنا الصغير " سوسو " يدور هنا وهناك من حولنا ، يبحث عن شيء ؛ وكأنما يريد أن يطلب إلينا شيئاً ، ولكنه لا يملك أن يقول ؛ ولا نملك نحن أن ندرك . حتى ألهمنا الله أنه يطلب الماء وكان هذا . وكان في شدة العطش . وهو لا يملك أن يقول ولا أن يشير . . وأدركنا في هذه اللحظة شيئاً من نعمة الله علينا بالنطق واللسان ، والإدراك والتدبير . وفاضت نفوسنا بالشكر لحظة . . وأين الشكر من ذلك الفيض الجزيل .
وكنا فترة طويلة محرومين من رؤية الشمس . وكان شعاع منها لا يتجاوز حجمه حجم القرش ينفذ إلينا أحياناً . وإن أحدنا ليقف أمام هذا الشعاع يمرره على وجهه ويديه وصدره وظهره وبطنه وقدميه ما استطاع . ثم يخلي مكانه لأخيه ينال من هذه النعمة ما نال ! ولست أنسى أول يوم بعد ذلك وجدنا فيه الشمس . لست أنسى الفرحة الغامرة والنشوة الظاهرة على وجه أحدنا ، وفي جوارحه كلها ، وهو يقول في نغمة عميقة مديدة . . الله ! هذه هي الشمس . شمس ربنا وما تزال تطلع . . الحمد لله !
فكم نبعثر في كل يوم من هذه الأشعة المحيية ، ونحن نستحم في الضوء والدفء . ونسبح ونغرق في نعمة الله ? وكم نشكر هذا الفيض الغامر المتاح المباح من غير ثمن ولا كد ولا معاناة ? !
وحين نمضي نستعرض آلاء الله على هذا النحو فإننا ننفق العمر كله ، ونبذل الجهد كله ، ولا نبلغ من هذا شيئاً . فنكتفي إذن بهذه الإشارة الموحية ، على طريقة القرآن في الإشارة والإيماء ، ليتدبرها كل قلب ، ويمضي على إثرها ، قدر ما يوفقه الله لنعمة الشكر ، وهي إحدى آلاء الله ، يوفق إليها من يستحقها بالتوجه والتجرد والإخلاص . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.