{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن محاريب } جمع محراب وهو كما قال عطية القصر ، وسمي باسم صاحبه لأنه يحارب غيره في حمايته ، فإن المحراب في الأصل من صيغ المبالغة اسم لمن يكثر الحرب وليس منقولاً من اسم الآلة وإن جوزه بعضهم ، ولابن حيوس :
جمع الشجاعة والخشوع لربه *** ما أحسن المحراب في محرابه
ويطلق على المكان المعروف الذي يقف بحذائه الإمام ، وهو مما أحدث في المساجد ولم يكن في الصدر الأول كما قال السيوطي وألف في ذلك رسالة ولذا كره الفقهاء الوقوف في داخله .
وقال ابن زيد : المحاريب المساكن ، وقيل ما يصعد إليه بالدرج كالغرف ، وقال مجاهد : هي المساجد سميت باسم بعضها تجوزاً على ما قيل ، وهو مبني على أن المحراب اسم لحجرة في المسجد يعبد الله تعالى فيها أو لموقف الإمام .
وأخرج ابن المنذر . وغيره عن قتادة تفسيرها بالقصور والمساجد معاً ، وجملة { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء } استئناف لتفصيل ما ذكر من عملهم ، وجوز كونها حالاً وهو كما ترى { وتماثيل } قال الضحاك : كانت صور حيوانات ، وقال الزمخشري : صور الملائكة والأنبياء والصلحاء كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وكان اتخاذ الصور في ذلك الشرع جائزاً كما قال الضحاك وأبو العالية .
وأخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول » عن ابن عباس أنه قال في الآية اتخذ سليمان عليه السلام تماثيل من نحاس فقال : يا رب انفخ فيها الروح فإنها أقوى على الخدمة فينفخ الله تعالى فيها الروح فكانت تخدمه واسفنديار من بقاياهم ؛ وهذا من العجب العجاب ولا ينبغي اعتقاد صحته وما هو إلا حديث خرافة ، وأما ما روي من أنهم عملوا له عليه السلام أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما فأمر غير مستبعد فإن ذلك يكون بآلات تتحرك عند الصعود وعند القعود فتحرك الذراعين والأجنحة ، وقد انتهت صنائع البشر إلى مثل ذلك في الغرابة ، وقيل : التماثيل طلسمات فتعمل تمثالاً للتمساح أو للذباب أو للبعوض فلا يتجاوزه الممثل به ما دام في ذلك المكان ، وقد اشتهر عمل نحو ذلك عن الفلاسفة وهو مما لا يتم عندهم إلا بواسطة بعض الأوضاع الفلكية ، وعلى الباب الشهيرة بباب الطلسم من أبواب بغداد تمثال حية يزعمون أنه لمنع الحيات عن الإيذاء داخل بغداد ونحن قد شاهدنا مراراً أناساً لسعتهم الحيات فمنهم من لم يتأذ ومنهم من تأذى يسيراً ولم نشاهد موت أحد من ذلك وقلما يسلم من لسعته خارج بغداد لكن لا نعتقد أن لذلك التمثال مدخلاً فيما ذكر ونظن أن ذاك لضعف الصنف الموجود في بغداد من الحيات وقلة شره بالطبيعة ، وقيل كانت التماثيل صور شجر أو حيوانات محذوفة الرؤوس مما جوز في شرعتنا ، ولا يحتاج إلى التزام ذلك إلا إذا صح فيه نقل فإن الحق أن حرمة تصوير الحيوان كاملاً لم تكن في ذلك الشرع وإنما هي في شرعنا ولا فرق عندنا بين أن تكون الصورة ذات ظل وأن لا تكون كذلك كصورة الفرس المنقوشة على كاغد أو جدار مثلاً .
وحكى مكي في «الهداية » أن قوماً أجازوا التصوير وحكاه النحاس أيضاً وكذا ابن الفرس واحتجوا بهذه الآية . وأنت تعلم أنه ورد في شرعنا من تشديد الوعيد على المصورين ما ورد فلا يلتفت إلى هذا القول ولا يصح الاحتجاج بالآية ، وكأنه إنما حرمت التماثيل لأنه بمرور الزمان اتخذها الجهلة مما يعبد وظنوا وضعها في المعابد لذلك فشاعت عبادة الأصنام أو سداً لباب التشبه بمتخذي الأصنام بالكلية { وَجِفَانٍ } جمع جفنة وهي ما يوضع فيها الطعام مطلقاً كما ذكره غير واحد ، وقال بعض اللغويين : الجفنة أعظم القصاع ويليها القصعة وهي ما تشبع العشرة ويليها الصحفة وهي ما تشبع الخمسة ويليه المئكلة وهي ما تشبع الاثنين والثلاثة ويليها الصحيفة وهي ما تشبع الواحد ، وعليه فالمراد هنا المطلق لظاهر قوله تعالى : { كالجواب } أي كالحياض العظام جمع جابية من الجباية أي الجمع فهي في الأصل مجاز في الطرف أو النسبة لأنها يجبى إليها لا جابية ثم غلبت على الإناء المخصوص غلبة الدابة في ذوات الأربع ، وجاء تشبيه الجفنة بالجالية في كلامهم من ذلك قول الأعشى :
نفي الذم عن آل المحلق جفنة *** كجابية السيح العراقي تفهق
وقدور كالربى راسية *** وجفان كالجوابي مترعة
وذكر في سعة جفان سليمان عليه السلام أنها كانت على الواحدة منها ألف رجل . وقئ { *كالجوابي } بياء وهو الأصل وحذفها للاجتزاء بالكسرة وإجراء أل مجرى ما عاقبها وهو التنوين فكما يحذف مع التنوين يحذف مع ما عاقبه { كالجواب وَقُدُورٍ } جمع قدر وهو ما يطبخ فيه من فخار أو غيره وهو على شكل مخصوص { رسيات } ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها قاله قتادة ، وقيل : كانت عظيمة كالجبال وقدمت المحاريب على التماثيل لأن الصور ترفع في المحاريب أو تنقش على جدرانها ، وقدمت الجفان على القدور مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل لأنه لما ذكرت الأبنية الملكية ناسب أن يشار إلى عظمة السماط الذي يمد فيها فذكرت الجفان أولاً لأنها تكون فيها بخلاف القدور فإنها لا تحضر هناك كما ينبىء عنه قوله تعالى : { رسيات } على ما سمعت أولاً ، وكأنه لما بين حال الجفان اشتاق الذهن إلى حال القدور فذكرت للمناسبة .
{ اعملوا ءالَ دَاوُودُ شكرا } بتقدير القول على الاستئناف أو الحالية من فاعل { سَخَّرْنَا } المقدر وآل منادي حذف منه حرف النداء و { شاكرا } نصب على أنه مفعول له ، وفيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف أو على أنه مفعول مطلق لا عملوا لأن الشكر نوع من العمل فهو كقعدت القرفصاء ، وقيل : لتضمين { اعملوا } معنى اشكروا ، وقيل : لاشكروا محذوفاً أو على أنه حال بتأويل اسم الفاعل أي اعملوا شاكرين لأن الشكر يعم القلب والجوارح أو على أنه صفة لمصدر محذوف أي اعملوا عملاً شكراً أو على أنه مفعول به لاعملوا فالكلام كقولك عملت الطاعة ، وقيل : إن اعملوا أقيم مقام اشكروا مشاكلة لقوله سبحانه يعملون .
وقال ابن الحاجب : أنه جعل مفعولاً به تجوزاً . وأياً ما كان فقد روي ابن أبي الدنيا والبيهقي في «شعب الإيمان » عن ابن مسعود قال : لما قيل لهم اعملوا آل داود شكراً ، لم يأت ساعة على القوم إلا ومنهم قائم يصلي ، وفي رواية كان مصلى آل داود لم يخل من قائم يصلي ليلاً ونهاراً وكانوا يتناوبونه وكان سليمان عليه السلام يأكل خبز الشعير ويطعم أهله خشادته ، والمساكين الدرمك وهو الدقيق الحواري وما شبع قط ؛ وقيل : له في ذلك فقال : أخاف إذا شبعت أن أنسي الجياع ، وجوز بعض الأفاضل دخول داود عليه السلام في الآل هنا لأن آل الرجل قد يعمه .
ويؤيده ما أخرجه أحمد في الزهد : وابن المنذر . والبيهقي في «شعب الإيمان » عن المغيرة بن عتيبة قال : قال داود عليه السلام يا رب هل بات أحد من خلقك أطول ذكراً مني فأوحى الله تعالى إليه الضفدع وأنزل سبحانه عليه عليه السلام { اعملوا ءالَ دَاوُودُ شكرا } فقال داود عليه السلام كيف أطيق شكرك وأنت الذي تنعم علي ثم ترزقني على النعمة الشكر فالنعمة منك والشكر منك فكيف أطيق شكرك ؟ فقال جل وعلا : يا داود الآن عرفتني حق معرفتي .
وجاء في رواية ابن أبي حاتم عن الفضيل أنه عليه السلام قال يا رب : كيف أشكرك والشكر نعمة منك ؟ قال سبحانه : الآن شكرتني حين علمت النعم مني ، وكذا ما أخرجه الفريابي : وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قال داود لسليمان عليهما السلام : قد ذكر الله تعالى الشكر فاكفني قيام النار أكفك قيام الليل قال : لا أستطيع قال : فاكفني صلاة النهار فكفأه { وَقَلِيلٌ مّنْ عبادي الشكور } قال ابن عباس : هو الذي يشكر على أحواله كلها ، وفي «الكشاف » هو المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعترافاً واعتقاداً وكدحاً وأكثر أوقاته ، وقال السدي : هو من يشكر على الشكر ، وقيل : من يرى عجزه عن الشكر لأن توفيقه للشكر نعمة يستدعي شكراً آخر لا إلى نهاية ، وقد نظم هذا بعضهم فقال :
إذا كان شكري نعمة الله نعمة *** علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله *** وإن طالت الأيام واتسع العمر
إذا مس بالنعماء عم سرورها *** وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
/ وقد سمعت آنفاً ما روي عن داود عليه السلام ، وهذه الجملة يحتمل أن تكون داخلة في خطاب آل داود وهو الظاهر وأن تكون جملة مستقلة جىء بها إخباراً لنبينا صلى الله عليه وسلم وفيها تنبيه وتحريض على الشكر .
وقرأ حمزة { عبادي } بسكون الياء وفتحها الباقون .
ومن باب الإشارة : { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور } [ سبأ : 3 1 ] وهو من شكره بالأحوال أعني التخلق بأخلاق الله تعالى
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.