الأولى- قوله تعالى : " من محاريب وتماثيل " المحراب في اللغة : كل موضع مرتفع . وقيل للذي يصلي فيه : محراب ؛ لأنه يجب أن يرفع ومعظم . وقال الضحاك : " من محاريب " أي من مساجد . وكذا قال قتادة . وقال مجاهد : المحاريب دون القصور . وقال أبو عبيدة : المحراب أشرف بيوت الدار . قال :
وماذا عليه أن ذكرتُ أوانِسًا *** كغزلان رَمْلِ في محاريبِ أقْيَالِ{[12981]}
كدُمَى العاج في المحاريب أوكال *** بَيْضِ في الروض زهره مستنيرُ
وقيل : هو ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة ، كما قال : " إذ تسوروا المحراب " {[12982]} [ ص : 21 ] وقوله : " فخرج على قومه من المحراب " {[12983]} [ مريم : 11 ] أي أشرف عليهم . وفي الخبر ( أنه أمر أن يعمل حول كرسيه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح يخرجون إلى الله دائبا ، وهو على الكرسي في موكبه والمحاريب حوله ، ويقول لجنوده إذا ركب : سبحوا الله إلى ذلك العلم ، فإذا بلغوه قال : هلِّلوه إلى ذلك العَلَم فإذا بلغوه قال : كبروه إلى ذلك العَلَم الآخر ، فتلج الجنود بالتسبيح والتهليل لَجَّةً واحدة .
الثانية- قوله تعالى : " وتماثيل " جمع تمثال . وهو كل ما صور على مثل صورة من حيوان أو غير حيوان . وقيل : كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياء . ليست بحيوان . وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء ، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادا ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور ) . أي ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة . وهذا يدل على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان ، ونسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم . وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " نوح " {[12984]} عليه السلام . وقيل : التماثيل طلسمات كان يعملها ، ويحرم على كل مصور أن يتجاوزها فلا يتجاوزها ، فيعمل تمثالا للذباب أو للبعوض أو للتماسيح في مكان ، ويأمرهم ألا يتجاوزه فلا يتجاوزه واحد أبدا ما دام ذلك التماثل قائما . وواحد التماثيل تمثال بكسر التاء . قال :
ويا رُبَّ يوم قد لهوت وليلةٍ *** بآنسة كأنها خَطُّ تِمْثَالِ{[12985]}
وقيل : إن هذه التماثيل رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله ولا يحيك{[12986]} فيهم السلاح . ويقال : إن اسفنديار كان منهم . والله أعلم . وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أطلق النسران أجنحتهما .
الثالثة- حكى مكي في الهداية له : أن فرقة تجوز التصوير ، وتحتج بهذه الآية . قال ابن عطية : وذلك خطأ ، وما أحفظ عن أحد من أئمة العلم من يجوزه .
قلت : ما حكاه مكي ذكره النحاس قبله ، قال النحاس : قال قوم عمل الصور جائز لهذه الآية ، ولما أخبر الله عز وجل عن المسيح . وقال قوم : قد صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عنها والتوعد لمن عملها أو اتخذها ، فنسخ الله عز وجل بهذا ما كان مباحا قبله ، وكانت الحكمة في ذلك لأنه بعث عليه السلام والصور تعبد ، فكان الأصلح إزالتها .
الرابعة- التمثال على قسمين : حيوان وموات . والموات على قسمين : جماد ونام . وقد كانت الجن تصنع لسليمان جميعه ؛ لعموم قوله : " وتماثيل " . وفي الإسرائيليات : أن التماثيل من الطير كانت على كرسي سليمان . فإن قيل : لا عموم لقوله : " وتماثيل " فإنه إثبات في نكره ، والإثبات في النكرة لا عموم له ، إنما العموم في النفي النكرة . قلنا : كذلك هو ، بيد أنه قد اقترن بهذا الإثبات في النكرة ما يقتضي حمله على العموم ، وهو قوله : " ما يشاء " فاقتران المشية به يقتضي العموم له . فإن قيل : كيف استجاز الصور . المنهي عنها ؟ قلنا : كان ذلك جائزا في شرعه ونسخ ذلك بشرعنا كما بينا ، والله أعلم . وعن أبي العالية : لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما .
الخامسة- مقتضى الأحاديث يدل أن الصور ممنوعة ، ثم جاء ( إلا ما كان رقما{[12987]} في ثوب ) فخص من جملة الصور ، ثم ثبتت الكراهية فيه بقوله عليه السلام لعائشة في الثوب : ( أخريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا ) . ثم بهتكه{[12988]} الثوب المصور على عائشة منع منه ، ثم بقطعها له وسادتين تغيرت الصورة وخرجت عن هيئتها ، فإن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة ، ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز ، لقولها في النمرقة المصورة{[12989]} : اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها ، فمنع منه وتوعد عليه . وتبين بحديث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب ثم نسخه المنع منه . فهكذا استقر الأمر فيه والله أعلم . قاله ابن العربي .
السادسة- روى مسلم عن عائشة قالت : كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم : ( حوِّلي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا ) . قالت : وكانت لنا قطيفة كنا نقول علمها حرير ، فكنا نلبسها . وعنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بقِرام{[12990]} فيه صورة ، فتلون وجهه ، ثم تناول الستر فهتكه ، ثم قال : ( إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله عز وجل ) . وعنها : أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة{[12991]} ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه فقال : ( أخريه عني ) قالت : فأخرته فجعلته وسادتين . قال بعض العلماء : ويمكن أن يكون تهتيكه عليه السلام الثوب وأمره بتأخيره ورعا ؛ لأن محل النبوة والرسالة الكمال . فتأمله .
السابعة- قال المزني عن الشافعي : إن دعي رجل إلى عرس فرأى صورة ذات روح أو صورا ذات أرواح ، لم يدخل إن كانت منصوبة . وإن كانت توطأ فلا بأس ، وإن كانت صور الشجر . ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة غير محرمة . وكذلك عندهم ما كان خرطا أو نقشا في البناء . واستثنى بعضهم ( ما كان رقما في ثوب ) ، لحديث سهل بن حنيف .
قلت : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين ولم يستثن . وقوله : ( إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم ) ولم يستثن . وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم : ( يخرج عنق{[12992]} من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول : إني وكلت بثلاث : بكل جبار عنيد ، وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح . وفي البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود . قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم :( أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون ) . يدل على المنع من تصوير شيء ، أي شيء كان . وقد قال جل وعز : " ما كان لكم أن تنبتوا شجرها " {[12993]} [ النمل : 60 ] على ما تقدم بيانه فأعلمه .
الثامنة- وقد استثني من هذا الباب لعب البنات ؛ لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي تزوجها وهي بنت سبع سنين ، وزفت إليه وهي بنت تسع ولعبها معها ، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة . وعنها أيضا قالت : كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقَمِعْن{[12994]} منه فيُسَرِّبُهُنَّ{[12995]} إلي فيلعبن معي . خرجهما مسلم . قال العلماء : وذلك للضرورة إلى ذلك وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهن . ثم إنه لا بقاء لذلك ، وكذلك ما يصنع من الحلاوة أو من العجين لا بقاء له ، فرخص في ذلك ، والله أعلم .
قوله تعالى : " وجفان كالجواب " قال ابن عرفة : الجوابي جمع الجابية ، وهي حفيرة كالحوض . وقال : كحياض الإبل . وقال ابن القاسم عن مالك : كالجوبة من الأرض ، والمعنى متقارب . وكان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل . النحاس : " وجفان كالجواب " الأولى أن تكون بالياء ، ومن حذف الياء قال سبيل الألف واللام أن تدخل على النكرة فلا يغيرها عن حالها ، فلما كان يقال جواب ودخلت الألف واللام أقر على حال فحذف الياء . وواحد الجوابي جابية ، وهي القدر العظيمة ، والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشيء أي يجمع ؛ ومنه جبيت الخراج ، وجبيت الجراد ، أي جعلت الكساء فجمعته فيه . إلا أن ليثا روى عن مجاهد قال : الجوابي جمع جوبة ، والجوبة الحفرة الكبيرة تكون في الجبل فيها ماء المطر . وقال الكسائي : جبوت الماء في الحوض وجبيته أي جمعته ، والجابية : الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل ، قال :
تروح على آل المُحَلَّقِ جفنَةٌ *** كجابية الشيخ العراقي تَفْهَقُ{[12996]}
نفى الذَّمَّ عن آل المُحَلق جفنة *** كجابية السيح{[12997]} . . . . . . . . .
ذكره النحاس . " وقدور راسيات " قال سعيد بن جبير : هي قدور النحاس تكون بفارس . وقال الضحاك : هي قدور تعمل من الجبال . غيره : قد نحتت من الجبال الصم مما عملت له الشياطين ، أثافيها{[12998]} منها منحوتة هكذا من الجبال . ومعنى " راسيات " ثوابت ، لا تحمل ولا تحرك لعظمها . قال ابن العربي : وكذلك كانت قدور عبد الله بن الله بن جدعان ، يصعد إليها في الجاهلية بسلم . وعنها عبر طرفة بن العبد بقوله :
كالجوابي لا تنِي مُتْرَعَةً *** لقِرَى الأضياف أو للمحتضِر
قال ابن العربي : ورأيت برباط أبي سعيد قدور الصوفية على نحو ذلك ، فإنهم يطبخون جميعا ويأكلون جميعا من غير استئثار واحد منهم على أحد .
قوله تعالى : " اعملوا آل داود شكرا " قد مضى معنى الشكر في " البقرة " {[12999]} وغيرها . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال :( ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود ) قال فقلنا : ما هن ؟ فقال : ( العدل في الرضا والغضب ، والقصد في الفقر والغنى ، وخشية الله في السر والعلانية ) . خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة . وروي أن داود عليه السلام قال : ( يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك ، وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك ) فقال : ( يا داود الآن عرفتني ) . وقد مضى هذا المعنى في سورة " إبراهيم " {[13000]} . وأن الشكر حقيقته الاعتراف بالنعمة للمنعم واستعمالها في طاعته ، والكفران استعمالها في المعصية . وقليل من يفعل ذلك ؛ لأن الخير أقل من الشر ، والطاعة أقل من المعصية ، بحسب سابق التقدير . وقال مجاهد : لما قال الله تعالى " اعملوا آل داود شكرا " قال داود لسليمان : أن الله عز وجل قد ذكر الشكر فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل ، قال : لا أقدر ، قال : فاكفني - قال الفاريابي : أراه قال إلى صلاة الظهر – قال : نعم ، فكفاه . وقال الزهري : " اعملوا آل داود شكرا " أي قولوا الحمد لله . و " شكرا " نصب على جهة المفعول ، أي اعملوا عملا هو الشكر . وكأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي في نفسها الشكر إذ سدت مسده ، ويبين هذا قوله تعالى : " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم " {[13001]} [ ص : 24 ] وهو المراد بقوله " وقليل من عبادي الشكور " . وقد قال سفيان بن عينة في تأويل قوله تعالى " أن اشكر لي " [ لقمان : 14 ] أن المراد بالشكر الصلوات الخمس . وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطر{[13002]} قدماه ، فقالت له عائشة رضي الله عنها : أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : ( أفلا أكون عبدا شكورا ) . انفرد بإخراجه مسلم . فظاهر القرآن والسنة أن الشكر بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان ، فالشكر بالأفعال عمل الأركان ، والشكر بالأقوال عمل اللسان . والله أعلم .
قوله تعالى : " وقليل من عبادي الشكور " يحتمل أن يكون ، مخاطبة لآل داود ، ويحتمل أن يكون مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عطية : وعلى كل وجه ففيه تنبيه وتحريض . وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول : اللهم اجعلني من القليل . فقال عمر : ما هذا الدعاء ؟ فقال الرجل : أردت قوله تعالى " وقليل من عبادي الشكور " . فقال عمر رضي الله عنه : كل الناس أعلم منك يا عمر ! وروي أن سليمان عليه السلام كان يأكل الشعير ويطعم أهله الخشكار{[13003]} ويطعم المساكين الدرمك{[13004]} . وقد قيل : إنه كان يأكل الرماد ويتوسده ، والأول أصح ، إذ الرماد ليس بقوت . وروي أنه ما شبع قط ، فقيل له في ذلك فقال : أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع . وهذا من الشكر ومن القليل ، فتأمله ، والله أعلم .