الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ} (13)

{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ } : مساجد ومساكن وقصور ، والمحراب : مقدم كل مسجد ، ومجلس وبيت . قال عدي :

كدُمى العاج في المحاريب أو كال *** بيض في الروض زهره [ مستنير ]

وكان مما عملوا له من ذلك بيت المقدس ، وقصته وصفته على ما ذكره أهل البصر بالسير أن الله تعالى بارك في نسل إبراهيم ( عليه السلام ) حتى جعلهم في الكثرة غاية لا يُحصون ، فلما كان زمن داوُد( عليه السلام )لبث فيهم ثلاثين سنة بأرض فلسطين ، وهم كل يوم يزدادُون كثرة ، فأُعجب داوُد بكثرتهم فأمر بعدّهم ، فكانوا يعدون زماناً من الدهر حتى أيسوا وعجزوا أن يحيط علمُهُم بعدد بني إسرائيل ، فأوحى الله إلى داوُد : " إني قد وعدت أباك إبراهيم يوم أمرته بذبح ولده فصدقني وائتمر أمري أن أُبارك له في ذريته ، حتى يصيروا أكثر من عدد نجوم السماء وحتى لا يحصيهم العادّون ، وإني قد أقسمت أن أبتليهم ببلية يقل منها عددهم ويذهب عنك إعجابك بكثرتهم " وخيرّه بين أن يعذبهم بالجوع والقحط ثلاث سنين ، وبين أن يُسلط عليهم عدوهم ثلاثة أشهر ، وبين أن يُرسل عليهم الطاعون ثلاثة أيام .

فجمع داوُد بني إسرائيل وأخبرهم بما أوحى الله إليه وخيره فيه ، فقالوا : أنت أعلم بما هو أيسر لنا وأنت نبينا فانظر لنا ، غير أن الجوع لا صبر لنا [ عليه ] وتسليط العدو أمر فاضح ، فإن كان لابد فالموت . فأمرهم داوُد عليه السلام أن يتجهزوا للموت ، فاغتسلوا وتحنطوا ولبسوا الأكفان وبرزوا إلى الصعيد بالذراري والأهلين ، وأمرهم أن يضجّوا إلى الله تعالى ويتضرعوا إليه لعله يرحمهم ، وذلك في صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد . قال : وارتفع داوُد( عليه السلام ) فوق الصخرة فخرّ ساجداً يبتهل إلى الله تعالى فأرسل الله فيهم الطاعون . فأهلك منهم في يوم وليلة ما لم يتفرغوا من دفنهم إلاّ بعد مدة شهرين . فلما أصبحوا من اليوم الثاني سجد داوُد وسجدوا معه إلى طلوع الشمس فلم يرفعوا رؤوسهم حتى كشف الله عنهم الطاعون .

قالوا : فلما أن شفّع الله تعالى داوُد في بني إسرائيل في ذلك المكان جمع داوُد بني إسرائيل بعد ثلاثة فقال لهم : " إن الله سبحانه قد منّ عليكم ورحمكم فجددوا له شكراً " . فقالوا : كيف تأمرنا . قال : " آمركم أن تتخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجداً لا يزال فيه منكم وممن بعدكم ذاكر " .

فلما أرادوا البناء جاء رجل صالح فقير يختبرهم ليعلم كيف إخلاصهم في ثبوتهم فقال لبني إسرائيل : إنّ لي فيه موضعاً أنا محتاج إليه ولا يحل لكم أن تحجبوني عنه . فقالوا له : يا هذا ما أحد في بني إسرائيل إلاّ وله في هذا الصعيد حق مثل حقك ، فلا تكن أبخل الناس ولا تضايقنا فيه . فقال : أنا لا أعرف حقي وأنتم لا تعرفون . فقالوا له : إما إن ترضى وتطيب نفساً ، وإلاّ أخذناه كرهاً . فقال لهم : أوتجدون ذلك في حكم الله وفي حكم داوُد ؟

قال : فرفعوا خبره إلى داوُد فقال : " أرضوه " . فقالوا : بكم نأخذه يا نبي الله ؟ قال : " خذوه بمائة شاة " . فقال الرجل : زد . فقال داوُد : " بمائة بقر " . قال : زد . قال : " مائة إبل " . قال : زدني فإنّ ما تشتريه لله تعالى . فقال داوُد : " أما إذا قلت هذا ، فاحتكم أُعطكه " فقال : تشتري مني بحائط مثله زيتوناً ونخلاً وعنباً . قال : " نعم " . فقال : تشتريه لله فلا تبخل . قال : " سل ما شئت أُعطكه ، وإن شئت أُؤاجرك نفسي " قال : وتفعل ذلك يا نبي الله ؟ قال : " نعم إذا شئت " . قال : أنت أكرم على الله من ذلك ، ولكنك تبني حوله جداراً مشرفاً ثم تملؤه ذهباً ، وإن شئت ورقاً . قال داوُد : " هو هين " .

فالتفت الرجل إلى بني إسرائيل وقال : هذا هو التائب المخلص . ثم قال لداوُد : يا نبي الله لئن يغفر الله لي ذنباً واحداً أحبُّ إلي من كل شيء وهبته لي ، ولكني كنت أُجرّبكم .

فأخذوا في بناء بيت المقدس ، وكان داوُد ( عليه السلام ) ينقل لهم الحجارة على عاتقه وكذلك خيار بني إسرائيل حتى رفعوه قامة . فأوحى الله تعالى إلى داوُد ( عليه السلام ) : " إنّ هذا بيت مقدّس وإنك رجل سفاك للدماء فلست ببانيه إذا لم أقضي ذلك على يدك ، ولكن ابن لك أُملكه بعدك اسمه سليمان ، أُسلّمه من سفك الدماء وأقضي إتمامه على يده ، وذلك صيته وذكره لك باقياً " .

فصلوا فيه زماناً ، وداوُد يومئذ ابن سبع وعشرين ومئة سنة ، فلما صار من أبناء أربعين ومئة سنة توفّاه الله واستخلف سليمان . فأحبّ بناء بيت المقدس ، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له . فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادنه ، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح ، وجعلها اثني عشر ربضاً ، وأنزل كل ربض منها سبطاً من الأسباط وكانوا اثني عشر سبطاً .

فلما فرع من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد ، فوجّه الشياطين فرقاً ، فرقاً يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر ، وفرقاً يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها ، وفرقاً يأتونه بالمسك والعنبر ، فأُتي من ذلك بشيء لا يُحصيه إلاّ الله تعالى ، ثم أحضر الصنّاعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحاً ، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلىء فكانوا يعالجونها ، فتصوّت صوتاً شديداً لصلابتها ، فكره سليمان تلك الأصوات .

فدعا الجن وقال لهم : " هل عندكم حيلة في نحت هذه الجواهر من غير تصويت ؟ " .

فقالوا : يا رسول الله ، ليس في الجن أكثر تجارب ، ولا أكثر علماً من صخر العفريت ، فأرسل إليه من يأتيك به . فطبع سليمان خاتمه طابعاً وكان يطبع للشياطين بالنحاس ، ولسائر الجن بالحديد وكان إذا طبع أحدهما بخاتمه لمع ذلك كالبرق الخاطف ، فكان لا يراه أحد : جني ولا شيطان إلاّ انقاد له بإذن الله عزّت قدرته .

فأرسل الطابع مع عشرة من الجن فأتوه وهو في بعض جزائر البحور ، فأروه الطابع ، فلما نظر إليه كاد يصعق خوفاً ، فأقبل مسرعاً مع الرسل حتى دخل على سليمان( عليه السلام ) . فسأل سليمان رسله عما أحدث العفريت في طريقه . فقالوا : يا رسول الله إنه كان يضحك بعض الأحايين من الناس . فقال له سليمان ( عليه السلام ) : «ما رضيت بتمردك عليّ في ترك المجيء إليّ طائعاً حتى صرت تسخر بالناس ؟ » .

فقال : يا نبي الله إني لم أسخر منهم غير أن ضحكي كان تعجّباً مما كنت أسمع وأرى في طريقي . فقال سليمان : " وما ذاك ؟ " .

قال : اعلم أني مررت برجل على شط نهر ومعه بغلة يريد سقيها ومعه جرة يريد أن يستقي فيها ، فسقى البغلة وملأ الجرة ، ثم أراد أن يقضي حاجته فشد البغلة بإذن الجرة فنفرت البغلة وجرت الجرة فكسرتها ، فضحكت من حمق الرجل حيث توهم أن الجرة تحبس البغلة .

ومررت برجل وهو جالس عند إسكاف يستعمله في إصلاح خف له ، فسمعته يشترط معه أن يصلحه بحيث يبقى معه أربع سنين ونسي نزول الموت به قبله ، فضحكت من غفلته وجهله .

ومررت بعجوز تتكهن وتخبر الناس بما لا يعلمون من أمر السماء ، وقد كنت عهدت رجلاً دفن في موضع فراشها ذهباً كثيراً في الدهور الخالية ، فرأيتها تموت جوعاً وتحت فراشها ذهب كثير لا تعلم بمكانه ، ثم تخبر الناس عن أمر السماء فضحكت منها .

ومررت برجل في بعض المدن ، وقد كان به داء فيما قيل فأكل البصل فبرأ من دائه ، فصار يتطبّب للناس ، فكان لا يأتيه أحد يسأله عن علّة إلاّ أمره بأكل البصل وإنه لأضرّ شيء ، حتى إنّ ضره ليصل إلى الدماغ ، فضحكت منه .

ومررت ببعض الأسواق فرأيت الثوم وهو أفضل الأدوية كلّها يكال كيلاً ، ورأيت الفلفل وهو أحد السموم القاتلة يوزن وزناً فضحكت من ذلك .

ومررت بناس قد جلسوا يبتهلون إلى الله تعالى ويسألونه المغفرة والرحمة ، فملَّ منهم قوم وقاموا ، وجاء آخرون وجلسوا فرأيت الرحمة قد نزلت عليهم ، فأخطأت الذين كانوا من أهل المجلس ، وغشيت الذين جاؤوا فجلسوا ، فضحكت ؛ تعجباً للقضاء والقدر .

قالوا : فقال سليمان له : هل عرفت في كثرة تجاربك وجولاتك في البر والبحر شيئاً تنحت به هذه الجواهر فتلين فيسهل نحتها وثقبها فلا تصوت ؟ فقال : نعم يا نبي الله ، أعرف حجراً أبيض كاللبن يقال له السامور غير أني لا أعرف معدنه الذي هو فيه ، وليس في الطير شيء هو أحيل ولا أهدى من العقاب . فمر بعقاب أن تجعل فراخه في صندوق حجر معه ليلة ، ثم تسرّح ذلك العقاب وتترك فراخه في الصندوق فإنه سيأتي بذلك الحجر فيضرب به ظهر الصندوق حتى يُنقبه به ليصل إلى فراخه .

قال : فأمر سليمان بعقاب مع فراخه فجعله في صندوق من حجر يوماً وليلة ، ثم سرح العقاب دون الفراخ ، فمرّ العقاب وجاء بذلك الحجر بعد يوم وليلة ، وثقب به الصندوق حتى وصل إلى فراخه . فوجه سليمان مع العقاب نفراً من الجن حتى أتوه به منه قدر ما علم أن فيه كفاية ، واستعمل ذلك في أدوات الصناعين ، فسهل عليهم نحتها من غير تصويت وهو الحجر الذي يستعمل في نقش الخواتيم وثقب الجواهر إلى اليوم ، وهو حجر عزيز ثمين .

قال : فبنى سليمان ( عليه السلام ) المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر ، وعمّده بأساطين المها الصافي ، وسقفه بألواح الجواهر الثمنية وفصّص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر ، وبسط أرضه بألواح الفيروز ، فلم يكن يومئذ بيت في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد ، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر .

فلما فرغ منه جمع إليه أخيار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله وأنّ كل شيء فيه خالص لله ، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً .

وقالوا : من أعاجيب ما اتخذ سليمان عليه السلام ببيت المقدس أنْ بنى بيتاً وطيّن حائطه بالخضرة وصقله ، فكان إذا دخله الورِع البرّ استبان خياله في ذلك الحائط أبيض ، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود . فارتدع عند ذلك كثير من الناس عن الفجور والخيانة .

ونصب في زاوية من زوايا المسجد عصا أبنوس ، فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم يضره مسها ، ومن مسها من غيرهم احترقت يده .

وروى الأوزاعي عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن الديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنين وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه الله الثالثة : سأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه إياه ، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه ، وسأله أنْ لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلاّ خرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أُمه وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك " .

قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان ( عليه السلام ) حتى غزا نبوخذ نصر فخرب المدينة وهدمها ، ونقض المسجد ، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر ، فحمله معه إلى دار مملكته من أرض العراق .

قال سعيد بن المسيب : لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلّقت أبوابه ، فعالجها سليمان فلم تنفتح ، حتى قال في دعائه : " بصلوات أبي داوُد إلاّ فتحت الأبواب " .

ففتحت ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل : خمسة آلاف بالليل ، وخمسة آلاف بالنهار ، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلاّ والله يعبد فيها .

{ وَتَمَاثِيلَ } أي صور ، كانوا يعملون التماثيل من نحاس وصفر وشبه وزجاج ورخام في المساجد تماثيل الملائكة والنبيين الصالحين ؛ لكي إذا رآهم الناس مصورين عبدوا عبادتهم .

{ وَجِفَانٍ } أي قصاع ، واحدها جفنة { كَالْجَوَابِ } كالحياض التي يجبى فيها الماء ، أي يجمع ، واحدها جابية .

قال الأعشى ميمون بن قيس :

تروح على آل مخلق جفنة *** كجابية الشيخ العراقي تفهق

أخبرنا أبو بكر الحمشاوي قال : أخبرني أبو بكر القطيعي إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا سهل السرّاج قال : سمعت الحسن يقول : ( وجفان كالجواب ) مثل حياض الإبل ، ويقال : إنه كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل يأكلون بين يديه .

{ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } : ثابتات لا يحوّلن ولا يحركن من أماكنهن لعظمتهن ، ولا ينزلن ولا يعطلن وكانت باليمن ، ومنه قيل للجبال : رواسي { اعْمَلُواْ } أي وقلنا : اعملوا { آلَ دَاوُودَ شُكْراً } مجازه : اعملوا بطاعة الله يا آل داوُد شكراً له على نعَمه ، و { شُكْراً } في محل المصدر . { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } أرسل حمزة ( الياء ) وفتحها الباقون . قال القرظي : الشكر : تقوى الله والعمل بطاعته .

وحدثونا عن محمد بن يعقوب قال : حدثنا الحصر بن أبان قال : حدّثنا سيار قال : حدّثنا جعفر بن سليمان قال : سمعت ثابتاً يقول : كان داوُد نبي الله ( عليه السلام ) قد جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن بأي ساعة من ساعات الليل والنهار إلاّ وإنسان من آل داوُد قائم يصلي ، فعمهم الله تعالى في هذه الآية { اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } .