الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ} (13)

ثم قال تعالى " { يعمل له ما يشاء من محاريب } أي : من كل شيء مشرف .

والمحراب في اللغة كل شيء مشرف مرتفع ، وكل موضع شريف ، ومنه قيل للموضع الذي يصلي فيه الإمام محراب لأنه يعظم ويشرف ويرفع {[55815]} وقيل : المحراب مقدم كل بيت ومسجد ومصلى {[55816]} .

قال مجاهد : المحاريب في الآية بنيان دون القصور {[55817]} .

وقال قتادة : " محاريب " قصور ومساجد {[55818]} .

قال الضحاك : " محريب " مساجد {[55819]} .

وقال ابن زيد {[55820]} : محاريب مساكن وقراء قوله : { وهو قائم يصلي في المحراب } {[55821]} أي : في مسكنه وقد تقدم ذكره .

ثم قال : { تماثيل } قال مجاهد : تماثيل من نحاس {[55822]} .

وقال الضحاك تماثيل : تماثيل الصور {[55823]} .

وهذا عند أكثر العلماء منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل الصورة ، وتوعده لمن عملها أو اتخذها {[55824]} ، وكان ذلك صلاح في الدين أنه بعث على الله عز وجل والصور تعبد ، فكان الأصلح إزالتها .

وقد قال قوم : عمل الصور جائز بهذه الآية وبما صح عن المسيح {[55825]} عليه السلام {[55826]} .

ثم قال تعالى : { وجفان كالجواب } أي كالحياض . كانوا ينحتون له ما يشاء من جفان كالحياض وهو جمع حابية يجبى فيها الماء أي يجمع .

وروى عن مجاهد : ان الجوابي جمع جوبة وهي الحفرة الكبيرة تكون في الجبل يجتمع فيها الماء {[55827]} .

وقاله أيضا ابن عباس {[55828]} .

وعنه : كالحياض {[55829]} .

وهو قول الحسن وقتادة والضحاك {[55830]} .

وقيل : إنها كانت تعمل له كهيئة الطير .

ثم قال : { وقدور راسيات } أي : ثابتات لا تحرك من موضعها لعظمها قال ابن القاسم : قال مالك : " وجفان كالجواب " كالجوبة من الأرض {[55831]} .

قال : " وقدور راسيات " هي قدور لا تحمل ولا تحرك .

والجوبة من الأرض : الموضع يستنقع فيه الماء {[55832]} .

قال ابن زيد : قدور أمثال الجبال من عظمها يعمل فيها الطعام لا تحرك ولا تنقل كما قال للجبال راسيات {[55833]} .

وعن ابن زيد أيضا : أنها قدور من نحاس تكون بفارس .

وقال الضحاك : هي قدور كانت تعمل من الجبال حجارة {[55834]} .

ثم قال تعالى : { اعملوا آل داود شكرا } أي : اعملوا لله الشكر ، أي من أجل الشكر على نعمه عليكم ، فيكون شكرا مفعولا من أجله {[55835]} .

ويجوز أن يكون مصدرا على معنى : اشكروا له شكرا ، وقام " اعملوا " مقام اشكروا {[55836]} .

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد يوما إلى المنبر قائلا : " اعملوا آل داود شكرا " فقال : ثلاثة من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود : العدل في الغضب والرضى والقصد في الفقر والغنى ، وخشية الله في السر والعلانية " {[55837]} .

وقال مجاهد : لما قال الله جل ذكره : { اعملوا آل داود شكرا } قال داود لسليمان : إن الله قد ذكر الشكر ، فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل ، قال : لا أقدر قال : فاكفني صلاة الظهر قال : نعم ، فكفاه {[55838]} .

قال الزهري : اعملوا آل داود شكرا ، قولوا : الحمد لله {[55839]} .

وروي أن داود عليه السلام كان قد جزأ الصلاة على أهل بيته وولديه ونسائه وأهله ، فلم تكن تأتي ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود يصلي فعمتهم هذه الآية { اعملوا آل داود شكرا } {[55840]} .

وروي أن محراب داود صلى الله عليه كان لا يخلو من مصل ، فإذا أراد المصلي حاجة لا يخرج حتى يأتي غيره من آل داود يصلي في المحراب {[55841]} .

وقال محمد بن كعب {[55842]} الشكر تقوى الله والعمل بطاعته {[55843]} وقيل : كل عمل من الخير شكر .

وروي أن داود صلى الله عليه قال : إلهي كيف لي أن أشكرك ولا أصل إلى شكرك إلا بمعونتك ، فأوحى الله إليه : يا داود ، ألست تعلم أن الذي بك من النعم مني ؟ قال بلى يا رب ، قال : [ فإن الرضى بذلك مني شكر ] {[55844]} .

ثم قال تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } أي : قليل منهم الموحدون المخلصون العمل لله .

وذكر أبو عبيد في كتاب " مواعظ الأنبياء " أنه لما نزل على داود { اعلموا آل داود شكرا } قال داود : يا رب كيف أشكرك وأنت الذي تنعم علي ثم ترزقني على النعمة الشكر ، فالنعمة منك والشكر منك ، فكيف أطيق شكرك ؟ قال : يا داود الآن عرفتني حق معرفتي {[55845]} .

قال أبو عبد الرحمن الحبلي {[55846]} : الصلاة شكر والصوم شكر وكل {[55847]} عمل يعمل لله شكر وأفضل الشكر الحمد {[55848]} .

قال محمد بن كعب : كل عمل يبتغي به وجه الله فهو شكر {[55849]} .

وأجاز أبو حاتم الوقف على " داوود " ويبتدئ ب " شكرا " على معنى أشكروا شكرا {[55850]} .

ولا يجوز عند غيره لأن اعملوا قام مقام اشكروا فلا يفرق بينهما {[55851]} .


[55815]:انظر: إعراب النحاس 3/336 والجامع للقرطبي 14/271 وجاء في اللسان مادة "حرب" 1/305، 306 "المحراب صدر البيت وأكرم موضع فيه، والجمع المحاريب ... ومحراب المسجد صدره، وأشرف موضع فيه... والمحراب أكرم مجالس الملوك... والمحراب الموضع الذي ينفرد فيه الملك فيتباعد عن الناس"
[55816]:هو قول الطبري في جامع البيان 22/70
[55817]:انظر: جامع البيان 22/70 والجامع للقرطبي 14/271 وتفسير ابن كثير 3/529 والدر المنثور 6/679 وتفسير مجاهد 553
[55818]:انظر: جامع البيان 22/70 والمحرر الوجيز 13/116 والجامع للقرطبي 14/271 وتفسير ابن كثير 3/529 والدر المنثور 6/679
[55819]:انظر: جامع البيان 22/70 والجامع للقرطبي 14/271 وتفسير ابن كثير 3/529 والدر المنثور 6/679 وفتح القدير 4/317
[55820]:انظر: جامع البيان 22/70، والمحرر الوجيز 13/116، وتفسير ابن كثير 3/529
[55821]:آل عمران: آية 39
[55822]:انظر: جامع البيان 22/70 وتفسير ابن كثير 3/529 والدر المنثور 6/679 وتفسير مجاهد 553
[55823]:انظر: جامع البيان 22/70 وتفسير ابن كثير 3/529 والدر المنثور 6/679 وتفسير مجاهد 553
[55824]:من الأحاديث النبوية الدالة على حرمة عمل الصورة أو اتخاذها قوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة، بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين "أخرجه الترميذي في سننه 4/103، 2700 وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأحمد في مسنده 2/336 وكلاهما عن أبي هريرة وقوله أيضا: "إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورين" أخرجه النسائي في سننه 8/216 وأحمد في مسنده 1/375 وكلاهما عن ابن عباس. وقوله أيضا "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة" أخرجه النسائي في سننه من طريق ابن عباس عن أبي طلحة 8/212
[55825]:مثبت في طرة أ
[55826]:ما قاله مكي عن هذه الجماعة في جواز عمل الصور نقله عنه ابن عطية والقرطبي وأبو حيان وقد ذهبوا كلهم إلى عدم الاعتداد بهذا القول. يقول ابن عطية: "وحكى مكي في الهداية أن فرقة كانت تجوز التصوير وتحتج بهذه الآية وذلك خطأ وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه"انظر: المحرر الوجيز 13/117 أما القرطبي فبعد أن ننقل كلام مكي ورد ابن عطية على هذه الفرقة قال: "قلت: ما حكاه مكي ذكره النحاس قبله، قال النحاس: قال قوم عمل الصور جائز لهذه الآية ولما أخبر الله عز وجل عن المسيح. وقال قوم قد صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عنها والتوعد لمن عملها أو اتخذها فنسخ الله بهذا ما كان مباحا قبله، وكانت الحكمة في ذلك لأنه بعث عليه السلام والصور تعبد فكان الأصلح إزالتها" انظر: الجامع 14/72 أما أبو حيان فبعد أن تحدث عن حرمة عمل الصور أو اتخاذها نقل ما حكاه مكي وكذلك النحاس ورد ابن عطية على هذه الجماعة المجيزة لعمل الصور واتخاذها انظر: البحر المحيط 7/265
[55827]:انظر: المحرر الوجيز 13/116 والجامع للقرطبي 14/275
[55828]:انظر: صحيح البخاري كتاب التفسير تفسير سورة "سبأ" 6/28
[55829]:انظر: الدر المنثور 6/679
[55830]:انظر: جامع البيان 22/71 والمحرر الوجيز 13/117 وتفسير ابن كثير 3/529 والدر المنثور 6/679 ـ 680
[55831]:انظر: أحكام ابن العربي 4/1602 والبيان والتحصيل لابن رشد 17/116 والجامع للقرطبي 14/275
[55832]:انظر: غريب القرآن لابن المبارك 145
[55833]:انظر: جامع البيان 22/72
[55834]:انظر: الجامع للقرطبي 14/276
[55835]:انظر: إعراب النحاس 3/336 والبيان لابن الأنباري 2/277
[55836]:انظر: إعراب النحاس 3/337
[55837]:انظر: في أحكام الجصاص 3/372 وأحكام ابن العربي 4/1603، وأحكام الكيا الهراسي 4/351 والمحرر الوجيز 13/118 والجامع للقرطبي 14/276 والدر المنثور 6/681 وقد أشار السيوطي إلى أن هذا الحديث من إخراج ابن المنذر عن عطاء بن يسار وفي رواية أخرى من إخراج ابن مردويه من طريق عطاء بن يسار عن حفصة رضي الله عنها وفي رواية اخرى من إخراج ابن النجار في تاريخه من طريق عطاء بن يسار عن أبي ذر أما القرطبي فقد أشار إلى أنه من إخراج الترمذي الحكيم أبي عبد الله عن عطاء بن يسار
[55838]:انظر: الجامع للقرطبي 14/276 والدر المنثور 6/680
[55839]:انظر: المصدرين السابقين
[55840]:هو قول ثابت البناني في تفسير ابن كثير 3/529 والدر المنثور 6/580
[55841]:انظر: المحرر الوجيز 13/118ـ119
[55842]:هو محمد بن كعب بن مسلم بن أسد، أبو حمزة القرظي ثقة عالم له روايات في كتب الحديث توفي سنة 117 وقيل سنة 120 هـ انظر: حلية الاولياء 3/212، 238 وصفة الصفوة 2/132 وتقريب التهذيب 2/203
[55843]:انظر: جامع البيان 12/72
[55844]:انطمست بعض الحروف في هذه الجملة وأظن أنها كما أثبتها وقد أورد السيوطي هذه الرواية مطولة ومنسوبة إلى أبي الجلد حيث قال: "قرأت في مسألة داود عليه السلام أنه قال: أي رب كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك؟ قال: فأتاه الوحي: أن يا داود، أليس تعلم أن الذي بك من النعم مني؟ قال داود عليه السلام: إلهي لو أن لكل شعرة مني لسانين يسبحانك الليل والنهار والدهر كله ما قضيت حق نعمة واحدة من نعمك علي" انظر: الدر المنثور 6/581
[55845]:ورد هذا القول غير منسوب لأبي عبيد في الجامع للقرطبي 14/276 والدر المنثور 6/681 وروح المعاني 22/120 ولم أعثر على كتاب "مواعظ الأنبياء" لأبي عبيد
[55846]:هو عبد الله بن يزيد المعافري أبو عبد الرحمن الحبلي تابعي من الفضلاء روى عن أبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن عمرو وعقبة بن عامر، وروى عنه جماعة بعثه عمر بن عبد العزيز إلى إفريقية ليفقه أهلها ويعلمهم أمر دينهم. أخرج له البخاري ومسلم وتوفي سنة 100 هـ انظر: تقريب التهذيب 1/462 ورياض النفوس 1/99
[55847]:في الأصل: كل
[55848]:انظر: جامع البيان 22/72 بمعناه
[55849]:انظر: جامع البيان 22/72 بمعناه
[55850]:انظر: القطع والإئتناف 582 والمكتفى 464 ومنار الهدى 226
[55851]:انظر: المصادر السابقة