مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ} (13)

قوله تعالى : { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور }

المحاريب إشارة إلى الأبنية الرفيعة ولهذا قال تعالى : { إذ تسوروا المحراب } والتماثيل ما يكون فيها من النقوش ، ثم لما ذكر البناء الذي هو المسكن بين ما يكون في المسكن من ماعون الأكل فقال : { وجفان كالجواب } جمع جابية وهي الحوض الكبير الذي يجبي الماء أي يجمعه وقيل كان يجتمع على جفنة واحدة ألف نفس { وقدور راسيات } ثابتات لا تنقل لكبرها ، وإنما يغرف منها في تلك الجفان ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قدم المحاريب على التماثيل لأن النقوش تكون في الأبنية وقدم الجفان في الذكر على القدور مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل ، فنقول : لما بين الأبنية الملكية أراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور ، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيه ، وأما القدور فلا تكون فيه ، ولا تحضر هناك ، ولهذا قال : { راسيات } أي غير منقولات ، ثم لما بين حال الجفان العظيمة ، كان يقع في النفس أن الطعام الذي يكون فيها في أي شيء يطبخ ، فأشار إلى القدور المناسبة للجفان .

المسألة الثانية : ذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب ، وفي حق سليمان بحالة السلم وهي المساكن والمآكل وذلك لأن سليمان كان ولد داود ، وداود قتل جالوت والملوك الجبابرة ، واستوى داود على الملك ، فكان سليمان كولد ملك يكون أبوه قد سوى على ابنه الملك وجمع له المال فهو يفرقه على جنوده ، ولأن سليمان لم يقدر أحد عليه في ظنه فتركوا الحرب معه وإن حاربه أحد كان زمان الحرب يسيرا لإدراكه إياه بالريح فكان في زمانه العظمة بالإطعام والإنعام .

المسألة الثالثة : لما قال عقيب قوله تعالى : { أن اعمل سابغات } { اعملوا صالحا } [ سبأ : 11 ] ، قال عقيب ما يعمله الجن : { اعملوا آل داوود شكرا } إشارة إلى ما ذكرنا أن هذه الأشياء حالية لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة فيها وإنما الواجب الذي ينبغي أن يكثر منه هو العمل الصالح الذي يكون شكرا ، وفيه إشارة إلى عدم الالتفات إلى هذه الأشياء ، وقلة الاشتغال بها كما في قوله : { وقدر في السرد } أي اجعله بقدر الحاجة .

المسألة الرابعة : انتصاب شكرا يحتمل ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون مفعولا له كقول القائل جئتك طمعا وعبدت الله رجاء غفرانه وثانيها : أن يكون مصدرا كقول القائل شكرت الله شكرا ويكون المصدر من غير لفظ الفعل كقول القائل جلست قعودا ، وذلك لأن العمل شكر فقوله : { اعملوا } يقوم مقام قوله : { اشكروا } وثالثها : أن يكون مفعولا به كقولك اضرب زيدا كما قال تعالى : { واعملوا صالحا } لأن الشكر صالح .

المسألة الخامسة : قوله : { وقليل من عبادي الشكور } إشارة إلى أن الله خفف الأمر على عباده ، وذلك لأنه لما قال : { اعملوا آل داوود شكرا } فهم منه أن الشكر واجب لكن شكر نعمه كما ينبغي لا يمكن ، لأن الشكر بالتوفيق وهو نعمة تحتاج إلى شكر آخر وهو بتوفيق آخر ، فدائما تكون نعمة الله بعد الشكر خالية عن الشكر ، فقال تعالى : إن كنتم لا تقدرون على الشكر التام فليس عليكم في ذلك حرج ، فإن عبادي قليل منهم الشكور ويقوي قولنا أنه تعالى أدخل الكل في قوله : { عبادي } مع الإضافة إلى نفسه ، وعبادي بلفظ الإضافة إلى نفس المتكلم لم ترد في القرآن إلا في حق الناجين ، كقوله تعالى :

{ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } وقوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } فإن قيل على ما ذكرتم شكر الله بتمامه لا يمكن وقوله : { قليل } يدل على أن في عباده من هو شاكر لأنعمه ، نقول الشكر بقدر الطاقة البشرية هو الواقع وقليل فاعله ، وأما الشكر الذي يناسب نعم الله فلا قدرة عليه ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، أو نقول الشاكر التام ليس إلا من رضي الله عنه ، وقال له : يا عبدي ما أتيت به من الشكر القليل قبلته منك وكتبت لك أنك شاكر لأنعمي بأسرها ، وهذا القبول نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها .