البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ} (13)

الجفان : جمع جفنة ، وهي معروفة .

الجوابي : الحياض العظام ، واحدها جابية ، لأنه يجبي فيها الماء ، أي يجمع . قال الشاعر :

بجفان تعتري نادينا *** من سديف حين قد هاج الضبر

كالجوابي لا تفي مترعة *** لقرى الأضياف أو للمحتظر

وقال الأعشى :

نفى الذم عن آل المحلق جفنة *** كجابية السيح العراقي تفهق

وقال لأفوه الأودي :

وقدور كالربا راسيات *** وجفان كالجوابي مترعه

القدر : إناء يطبخ فيه من فخار أو غيره ، وهو على شكل مخصوص .

والمحاريب ، قال مجاهد : المشاهد ، سميت باسم بعضها تجوزاً .

وقال ابن عطية : القصور .

وقال قتادة : كليهما .

وقال ابن زيد : مساكن .

وقيل : ما يصعد اليه بالدرج ، كالغرف .

والتماثيل : الصور ، وكانت لغير الحيوان .

وقال الضحاك : كانت تماثيل حيوان ، وكان عملها جائزاً في ذلك الشرع .

وقال الزمخشري : هي صور الملائكة والنبيين ، والصالحين ، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ، ليراها الناس ، فيعبدوا نحو عبادتهم ، وهذا مما يجوز أن يختلف فيه الشرائع ، لأنه ليس من مقبحات الفعل ، كالظلم والكذب .

وعن أبي العالية : لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرماً ، أو صوراً محذوفة الرؤوس .

انتهى ، وفيه بعض حذف .

وقيل : التماثيل طلسمات ، فيعمل تمثالاً للتمساح ، أو للذباب ، أو للبعوض ، ويأمر أن لا يتجاوز ذلك الممثل به ما دام ذلك التمثال والتصوير حرام في شريعتنا .

وقد ورد تشديد الوعيد على المصورين ، ولبعض العلماء استثناء في شيء منها .

وفي حديث سهل بن حنيف : لعن الله المصورين ، ولم يستثن عليه الصلاة والسلام .

وحكى مكي في الهداية أن قوماً أجازوا التصوير ، وحكاه النحاس عن قوم واحتجوا بقوله : { وتماثيل } ، قاله ابن عطية ، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه .

وقرىء : { كالجواب } بلا ياء ، وهو الأصل ، اجتزاء بالكسرة ، واجراء الألف واللام مجرى ما عاقبها ، وهو التنوين ، وكما يحذف مع التنوين يحذف مع ما عاقبه ، وهو أل .

و { الراسيات } : الثابتات على الأثافي ، فلا تنقل ولا تحمل لعظمها .

وقدمت المحاريب على التماثيل ، لأن النقوش تكون في الأبنية .

وقدم الجفان على القدور ، لأن القدور آلة الطبخ ، والجفان آلة الأكل ، والطبخ قبل الأكل ، لما بين الأبنية الملكية .

وأراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور ، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيها ، والقدور لا تكون فيها ولا تحضر هناك ، ولهذا قال : { راسيات } .

ولما بين حال الجفان ، سرى الذهن إلى عظمة ما يطبخ فيه ، فذكر القدور للمناسبة ، وذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب لاحتياجه إلى قتال الأعداء ، وفي حق سليمان المحاريب والتماثيل ، لأنه كان ملكاً ابن ملك ، قد وطد له أبوه الملك ، فكانت حاله حالة سلم ، إذ لم يكن أحد يقدر على محاربته .

وقال عقب : { أن اعمل سابغات } ، و { اعملوا صالحاً } ، وعقب ما يعمله الجن : { إعملوا آل داود شكراً } ، إشارة إلى أن الإنسان لا يستغرق في الدنيا ولا يلتفت إلى زخارفها ، وأنه يجب أن يعمل صالحاً ، { إعملوا آل داود } .

وقيل : مفعول إعملوا محذوف ، أي اعملوا الطاعات وواظبوا عليها شكراً لربكم على ما أنعم به عليكم ، فقيل : انتصب شكراً على الحال ، وقيل : مفعول من أجله ، وقيل : مفعول له باعملوا ، أي اعملوا عملاً هو الشكر ، كالصلاة والصيام والعبادات كلها في أنفسها هي الشكر إذا سدت مسده ، وقيل : على المصدر لتضمينه اعملوا اشكروا بالعمل لله شكراً .

روي أن مصلى آل داود لم يخل قط من قائم يصلي ليلاً ونهاراً ، وكانوا يتناوبونه .

وكان سليمان ، عليه السلام ، يأكل الشعير ، ويطعم أهله الخشكار ، والمساكين الدرمك ، وما شبع قط ، فقيل له في ذلك ، فقال : أخاف إن شبعت أن أنس الجياع .

و { الشكور } : صيغة مبالغة ، وأريد به الجنس .

قال ابن عباس : الشكور : من يشكر على أحواله كلها .

وقال السدي : من يشكر على الشكر .

وقيل : من يرى عجزه عن الشكر ، وهذه الجملة تحتمل أن تكون خطاباً لآل داود ، وهو الظاهر ، وأن تكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم ، وفيها تنبيه وتحريض على الشكر .