اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ} (13)

قوله : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ } مفسر لقوله : «مَنْ يَعَمَلُ » و «مِنْ مَحَارِيبَ » بيان ل «مَا يَشَاءُ{[44253]} » . والمراد بالمحاريب : المساجد والأبنية المرتفعة ، وكان مما عملوا له بيت المقدس ، ابتدأه داود ورَفَعَهُ قامةَ رجُل فأوحى الله إليه أني لم أقضِ ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمُه سليمانُ أقضي تمامه على يده ، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسَّم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرُّخَام والمِيهَا الأبيْضَ من معادِنه وأمر ببناء المدينة بالرُّخام والصّفاح وجعلها اثْنَيْ عَشَرَ رَبَضاً وأنزل على كل ربض منها سبطاً من الأسباط وكانوا اثنى عشر سبطاً ، فلما فرغ من بناء المدينة ، ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فِرَقاً فِرَقاً يستخرجون الذهبَ والفضةَ والياقوتَ من معادنها والدرِّ الصِّافِيَ من البحر وفرقاً يقلعون الجواهرَ من الحجارة من أماكنها وفرقاً يأتونه بالمِسْكِ والعَنْبَر وسائر الطّيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء لا يُحصيه إلا الله عزّ وجلّ . ثم أحضر الصُّنَّاع وأمرهم بنحتِ تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحاً وإصلاح تلك الجواهر وثَقَّبَ الياقوتَ واللآلئَ فبنى المسجد بالرُّخَام الأبيض والأصفر والأخضر وعمَّده بأساطين المِيهَا الصَّافي وسقَّفه بألواح الجَوَاهر الثمينة وفَصَّصَ سُقُوفَه وحِيطَانِهُ باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفَيْرُوزَج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهرُ ولا أنورُ من ذلك المسجد كان يضيء في الظلمة كالقَمر ليلةَ البدر ، فلما فرغ منه جمع أحْبَار بني إسرائيل وأعلمهم أنه بناه لله وأن كل شيء فيه خالص لله ، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً ، روى عبدُ الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «لمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ مِنْ بِنَاء بَيْتِ المَقْدِس سَأَلَ رَبَّهُ ثَلاثَا فَأَعْطَاه اثْنَتَين وَأنَا أرْجُو أنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ الثًّالثَةَ سَألَ حُكْماً يُصَادِفُ حُكْمَهُ فأعطاه إياه ، وَسَأَلَهُ مُلْكاً لاَ يَنْبغَي لأَحدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ ، وَسَأَلَهُ أنْ لاَ يَأتِيَ هذَا البَيْتَ أحَدٌ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إلاَّ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبه كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَا أَرْجُو أنْ يَكُون قَد أَعْطَاهُ ذَلِكَ » . قَالُوا : فَلَمْ يَزَلْ بَيْتُ المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصَّر فخرَّب المدينة وهَدَمَها ونقَضَ المَسْجِد وأخذ ما كان في سقوفه وحِيطَانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر إلى دار مملكته من أرض العراق وبنى الشيطان لسليمان باليمن حصوناً كثيرة وعجيبة من الصخر{[44254]} .

قوله : { وَتَماثِيلَ } وهي النقوش التي تكون في الأبنية . وقيل : صور من نُحَاس وصفر وشَبَهٍ{[44255]} وزُجَاج ورُخَام . قيل : كانوا يُصَوِّرون السِّباع والطيور . وقيل : كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة ولعلها كانت مباحة في شريعتهم كما أن عيسى كان يتخذ صُوراً من طينٍ فينفخ فيها فيكون طيراً{[44256]} .

قوله : { وَجِفَانٍ كالجواب } الجِفَانُ القِصَاعُ{[44257]} ، وقرأ ابن كثير بإثبات ياء «الجَوَابِ » وصلاً ووقفاً وأبو عمرو وورشٌ بإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً . والباقون بحذفها في الحالين{[44258]} . و «كَالْجَوَابِ » صفة «لِجفَانٍ » . والجِفَانُ جمع جَفْنَة ، والجَوَابِي جمعُ جَابيةٍ كَضاربة وضَوَارب والجابية الحَوْض العظيمُ سميت بذلك لأنه يُجْبى إليها الماءُ ، أي يجمع{[44259]} وإسناد الفعل إليها مجاز لأنه يُجْبَى فيها كما قيل : خَابِيَة ، لما يُخبَّأُ فيها{[44260]} قال الشاعر :

4115- بِجِفَانٍ تَعْتَرِي نَادِيَنَا . . . مِنْ سَدِيفٍ حِينَ هَاجَ الصِّنَّبِرْ{[44261]}

كَالْجَوابِي لاَ تَنِي مُتْرَعَةً . . . لِقِرَى الأضْيَافِ أوْ لِلمُحْتَضرْ

وقال الأعشى :

4116- نَفَى الذَّمَّ عَنْ آلِ المُحَلِّقِ جَفْنَةٌ . . . كَجَابِيةِ الشَّيْخِ العِرَاقيِّ تَفْهَقُ{[44262]}

وقال الأفوه :

4117- وَقُدُورِ كَالرُّبَا رَاسِيَة . . . وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِي مُتْرَعَه{[44263]}

قيل : كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها .

فصل

وقُدُورٍ راسِيَات ثابتات لها قوائم لا يحرِّكْنَ عن أماكنها ولا يبدلن ولا يعطلن وكان يصعد إليها بالسلاليم{[44264]} وكانت باليمن{[44265]} .

قوله : { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } في «شكراً » أوجه :

أحدها : أنه مفعول به أي اعملُوا الطَّاعَةَ{[44266]} سميت الصلاة{[44267]} ونحوها شكراً لسدِّها مَسَدَّهُ .

الثاني : أنه مصدر من معنى «اعْمَلُوا » كأنه قيل : اشْكُرُوا{[44268]} شكراً بعَمَلِكُمْ{[44269]} أو اعملوا{[44270]} عَمَلَ شُكْر .

الثالث : أنه مفعول من{[44271]} أجله أي لأجل الشكر كقولك : جِئْتَكَ طَمَعاً ، وعبدت الله رجاء غُفْرَانه .

الرابع : أنه مصدر موقع الحال أي شَاكِرينَ{[44272]} .

الخامس : أنه منصوب بفعل مقدر من لفظه تقديره واشْكُرُوا{[44273]} شُكْراً .

السَّادس : أنه صفة لمصدر اعملوا تقديره اعملوا عملاً شكراً أي ذَا شُكْرٍ{[44274]} . قال المفسرون : معناه اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكراً له على نعمه ، واعلم أنه كما قال عقيب قوله ( تعالى ) : { أنِ اعمل سَابِغَاتٍ } { اعملوا صَالِحاً } قال عقيبَ ما تعمله الجن له اعملوا آل داود شكراً إشارة إلى ما تقدم من أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقةً في هذه الأشياء ، وإنما يجب الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شُكْراً{[44275]} .

قوله : «وَقَلِيلٌ » خبر مقدم «ومِنْ عِبَادي » صفة له ، «والشَّكُورُ » مبتدأ{[44276]} .  والمعنى أن العامل بطاعتي شكراً لنعمتي{[44277]} قليلٌ . قيل : المراد من آل داود هو داود نفسه ، وقيل : داود وسليمان وأهل بيته{[44278]} .

فصل

قال جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمان{[44279]} : سمعت ثابتاً{[44280]} يقول : كان داود نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائمٌ يُصَلِّي{[44281]} .


[44253]:الدر المصون 419 ج 4.
[44254]:ذكر هذه القصة البغوي في معالم التنزيل 5/284 وكذلك الخازن 5/284.
[44255]:الشبه ضرب من النحاس يلقى عليه دواء فيصفر سمي به لأنه إذا فعل به ذلك أشبه الذهب بلونه.
[44256]:أورد هذه الأقوال ابن الجوزي في زاد المسير 6/439، وكذلك القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 14/272.
[44257]:زاد المسير 6/439، وقال في اللسان: "الجفنة معروفة أعظم ما يكون من القصاع والجمع جفان وجفن" وانظر: اللسان 644 جفن.
[44258]:قاله ابن الجزري في النشر 2/349 ومكي في الكشف 2/203 وانظر الإتحاف 358 والسبعة 527، وزاد المسير 6/440.
[44259]:معاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/246 ومعاني الفراء 2/356 ومجاز القرآن لأبي عبيدة 2/144 وغريب القرآن لابن قتيبة 354.
[44260]:الدر المصون 4/419.
[44261]:البيت ورد مكررا في الخصائص لابن جني ولكن بتغيير طفيف فيه وهو لطرفة من الرمل فقد أنشد في الخصائص في 1/281 "بفي جفان" وفي 2/254 و 3 /200 بالباء "بجفان". وأنشده ابن منظور في اللسان بالباء والصنبر: الريح الباردة، والسديف السنام ومترعة مملوءة. وهو هنا يفتخر بأهل الكرم والعطاء وقرى الأضياف: إطعامهم . واستشهد بالبيت على أن الجفان هي القصاع العظيمة التي تشبه الجوابي والحياض الممتلئة ماء. وانظر: اللسان: "ص ن ب ر" 2506 والبحر المحيط 7/254 والمحتسب لابن جني 2/83والممتع 71، والديوان 56.
[44262]:البيت له من قصيدة في ديوانه 121 وهو من تمام الطويل وقد ورد البيت في اللسان جبى 542 برواية "تروح على آل المحلق". وشاهده كسابقه حيث إن الجابيه هي الحوض العظيم وحيث قد شبه الجفنة بها وهنا يتحقق قول الله من تشبيه: "وجفان كالجواب". وانظر غريب القرآن لابن قتيبة 354 بنفس رواية اللسان 14/275 والبحر المحيط 7/255 وابن جرير 22/49 كما ورد مكررا أيضا في اللسان: "ف هـ ق" والفهق الامتلاء، وخص العراقي، لجهله بالمياه لأنه حضري.
[44263]:من الرمل. وشاهده كسابقيه. ويروى "راسيات" بدل راسية. والبيت ليس بديوانه. وانظر: البحر المحيط 7/255 وما في الديوان: ثم فينا للقرى نار ترى عندها للضيف رحب وسعه (الديوان 20).
[44264]:في "ب" السلالم.
[44265]:وقال ابن قتيبة في الغريب: "يقال رسا إذا ثبت فهو يرسو ومنه قيل للجبال رواس" الغريب 354.
[44266]:البحر المحيط 7/264 والدر المصون 4/420.
[44267]:في "ب" الطاعة بدل الصلاة.
[44268]:المرجعان السابقان.
[44269]:في "ب" لعملكم.
[44270]:في "ب" (و) بدل (أو).
[44271]:المرجعان السابقان وينظر أيضا التبيان 1065 والبيان لابن الأنباري 2/277.
[44272]:البحر والدر المرجعان السابقان.
[44273]:التبيان 1065 مع البحر والدر.
[44274]:السابق وانظر الفخر الرازي 25/249.
[44275]:السابق.
[44276]:الدر المصون 4/420.
[44277]:معالم التنزيل للبغوي 5/285.
[44278]:السابق.
[44279]:هو جعفر بن سليمان الضبعي أبو سليمان البصري عن ثابت والجعد مات سنة 178 هـ انظر: خلاصة الكمال 63.
[44280]:ثابت بن أسلم البناني أحد الأعلام مولاهم أبو محمد البصري عن ابن عمر، وعبد الله بن مغفل له مائتين وخمسين حديثا مات سنة 127 انظر: خلاصة الكمال 56.
[44281]:البغوي والخازن 5/285.