قوله : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ } مفسر لقوله : «مَنْ يَعَمَلُ » و «مِنْ مَحَارِيبَ » بيان ل «مَا يَشَاءُ{[44253]} » . والمراد بالمحاريب : المساجد والأبنية المرتفعة ، وكان مما عملوا له بيت المقدس ، ابتدأه داود ورَفَعَهُ قامةَ رجُل فأوحى الله إليه أني لم أقضِ ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمُه سليمانُ أقضي تمامه على يده ، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسَّم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرُّخَام والمِيهَا الأبيْضَ من معادِنه وأمر ببناء المدينة بالرُّخام والصّفاح وجعلها اثْنَيْ عَشَرَ رَبَضاً وأنزل على كل ربض منها سبطاً من الأسباط وكانوا اثنى عشر سبطاً ، فلما فرغ من بناء المدينة ، ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فِرَقاً فِرَقاً يستخرجون الذهبَ والفضةَ والياقوتَ من معادنها والدرِّ الصِّافِيَ من البحر وفرقاً يقلعون الجواهرَ من الحجارة من أماكنها وفرقاً يأتونه بالمِسْكِ والعَنْبَر وسائر الطّيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء لا يُحصيه إلا الله عزّ وجلّ . ثم أحضر الصُّنَّاع وأمرهم بنحتِ تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحاً وإصلاح تلك الجواهر وثَقَّبَ الياقوتَ واللآلئَ فبنى المسجد بالرُّخَام الأبيض والأصفر والأخضر وعمَّده بأساطين المِيهَا الصَّافي وسقَّفه بألواح الجَوَاهر الثمينة وفَصَّصَ سُقُوفَه وحِيطَانِهُ باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفَيْرُوزَج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهرُ ولا أنورُ من ذلك المسجد كان يضيء في الظلمة كالقَمر ليلةَ البدر ، فلما فرغ منه جمع أحْبَار بني إسرائيل وأعلمهم أنه بناه لله وأن كل شيء فيه خالص لله ، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً ، روى عبدُ الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «لمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ مِنْ بِنَاء بَيْتِ المَقْدِس سَأَلَ رَبَّهُ ثَلاثَا فَأَعْطَاه اثْنَتَين وَأنَا أرْجُو أنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ الثًّالثَةَ سَألَ حُكْماً يُصَادِفُ حُكْمَهُ فأعطاه إياه ، وَسَأَلَهُ مُلْكاً لاَ يَنْبغَي لأَحدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ ، وَسَأَلَهُ أنْ لاَ يَأتِيَ هذَا البَيْتَ أحَدٌ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إلاَّ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبه كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَا أَرْجُو أنْ يَكُون قَد أَعْطَاهُ ذَلِكَ » . قَالُوا : فَلَمْ يَزَلْ بَيْتُ المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصَّر فخرَّب المدينة وهَدَمَها ونقَضَ المَسْجِد وأخذ ما كان في سقوفه وحِيطَانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر إلى دار مملكته من أرض العراق وبنى الشيطان لسليمان باليمن حصوناً كثيرة وعجيبة من الصخر{[44254]} .
قوله : { وَتَماثِيلَ } وهي النقوش التي تكون في الأبنية . وقيل : صور من نُحَاس وصفر وشَبَهٍ{[44255]} وزُجَاج ورُخَام . قيل : كانوا يُصَوِّرون السِّباع والطيور . وقيل : كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة ولعلها كانت مباحة في شريعتهم كما أن عيسى كان يتخذ صُوراً من طينٍ فينفخ فيها فيكون طيراً{[44256]} .
قوله : { وَجِفَانٍ كالجواب } الجِفَانُ القِصَاعُ{[44257]} ، وقرأ ابن كثير بإثبات ياء «الجَوَابِ » وصلاً ووقفاً وأبو عمرو وورشٌ بإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً . والباقون بحذفها في الحالين{[44258]} . و «كَالْجَوَابِ » صفة «لِجفَانٍ » . والجِفَانُ جمع جَفْنَة ، والجَوَابِي جمعُ جَابيةٍ كَضاربة وضَوَارب والجابية الحَوْض العظيمُ سميت بذلك لأنه يُجْبى إليها الماءُ ، أي يجمع{[44259]} وإسناد الفعل إليها مجاز لأنه يُجْبَى فيها كما قيل : خَابِيَة ، لما يُخبَّأُ فيها{[44260]} قال الشاعر :
4115- بِجِفَانٍ تَعْتَرِي نَادِيَنَا . . . مِنْ سَدِيفٍ حِينَ هَاجَ الصِّنَّبِرْ{[44261]}
كَالْجَوابِي لاَ تَنِي مُتْرَعَةً . . . لِقِرَى الأضْيَافِ أوْ لِلمُحْتَضرْ
4116- نَفَى الذَّمَّ عَنْ آلِ المُحَلِّقِ جَفْنَةٌ . . . كَجَابِيةِ الشَّيْخِ العِرَاقيِّ تَفْهَقُ{[44262]}
4117- وَقُدُورِ كَالرُّبَا رَاسِيَة . . . وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِي مُتْرَعَه{[44263]}
قيل : كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها .
وقُدُورٍ راسِيَات ثابتات لها قوائم لا يحرِّكْنَ عن أماكنها ولا يبدلن ولا يعطلن وكان يصعد إليها بالسلاليم{[44264]} وكانت باليمن{[44265]} .
قوله : { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } في «شكراً » أوجه :
أحدها : أنه مفعول به أي اعملُوا الطَّاعَةَ{[44266]} سميت الصلاة{[44267]} ونحوها شكراً لسدِّها مَسَدَّهُ .
الثاني : أنه مصدر من معنى «اعْمَلُوا » كأنه قيل : اشْكُرُوا{[44268]} شكراً بعَمَلِكُمْ{[44269]} أو اعملوا{[44270]} عَمَلَ شُكْر .
الثالث : أنه مفعول من{[44271]} أجله أي لأجل الشكر كقولك : جِئْتَكَ طَمَعاً ، وعبدت الله رجاء غُفْرَانه .
الرابع : أنه مصدر موقع الحال أي شَاكِرينَ{[44272]} .
الخامس : أنه منصوب بفعل مقدر من لفظه تقديره واشْكُرُوا{[44273]} شُكْراً .
السَّادس : أنه صفة لمصدر اعملوا تقديره اعملوا عملاً شكراً أي ذَا شُكْرٍ{[44274]} . قال المفسرون : معناه اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكراً له على نعمه ، واعلم أنه كما قال عقيب قوله ( تعالى ) : { أنِ اعمل سَابِغَاتٍ } { اعملوا صَالِحاً } قال عقيبَ ما تعمله الجن له اعملوا آل داود شكراً إشارة إلى ما تقدم من أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقةً في هذه الأشياء ، وإنما يجب الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شُكْراً{[44275]} .
قوله : «وَقَلِيلٌ » خبر مقدم «ومِنْ عِبَادي » صفة له ، «والشَّكُورُ » مبتدأ{[44276]} . والمعنى أن العامل بطاعتي شكراً لنعمتي{[44277]} قليلٌ . قيل : المراد من آل داود هو داود نفسه ، وقيل : داود وسليمان وأهل بيته{[44278]} .
قال جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمان{[44279]} : سمعت ثابتاً{[44280]} يقول : كان داود نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائمٌ يُصَلِّي{[44281]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.