الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ} (13)

و«الْمَحَارِيبُ » : الأَبْنِيَةُ العَالِيَةُ الشَّرِيفَةُ ، قَالَ قَتَادَةُ : القصورُ والمسَاجِدُ والتَّمَاثِيلُ ، قِيلَ : كَانَتْ مِن زُجَاجٍ وَنُحَاسٍ تَمَاثِيلُ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِحَيَوانٍ ، «والجوابي » : جَمْعُ جَابِيةٍ وَهِي البِرْكَةُ التي يُجْبَى إلَيْهَا الماءُ . و{ راسيات } مَعْنَاه : ثابتاتُ لِكِبَرهَا ، ليستْ مِمَّا يُنْقَلُ أو يُحْمَل ولا يَسْتَطِيعُ عَلَى عَمَلِهِ إلاَّ الجنُّ ، ثُمَّ أُمرُوا مَعَ هذهِ النعمِ بأَنْ يَعْمَلُوا بالطَّاعَاتِ ، و{ شُكْراً } يُحْتَمَلُ نَصْبُه عَلى الحَالِ ، أوْ عَلَى جِهَةِ المَفْعُولِ ، أي : اعملوا عَمَلاً هو الشكرُ كَأَنَّ العِبَادَاتِ كُلَّها هِي نَفْسُ الشُّكْرِ ، وفي الحديث : ( أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَعَدَ المنبرَ فَتَلا هذه الآيةَ ، ثم قال : ثَلاثٌ من أُوتِيهِنَّ فَقَدْ أُوتِي العَمَلَ شُكْراً : العدلُ في الرضَا والغَضَبِ ، والقَصْدُ فِي الفَقْرِ والغِنَى ، وخَشْيَةُ اللّهِ فِي السِّرِّ والعَلانِيَة ) ، وَهَكَذَا نَقَلَ ابنُ العَرَبِيِّ هَذَا الحَدِيثَ فِي «أحْكَامِهِ » وَعِبَارَةُ الدَّاوُوديِّ : عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : ( أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى المِنْبَرِ اعملوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً ، وَقَالَ : ثَلاَثٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ آلُ دَاوُدَ : العَدْلُ فِي الغَضَبِ وَالرِّضَا ، وَالقَصْدُ فِي الفَقْرُ والغنى ، وذِكْرُ اللّهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالعَلاَنِيَةِ ) قَال القُرْطُبِي الشُّكْرُ تَقْوَى اللّهِ وَالعَمَلُ بِطَاعَتِهِ انتهى .

قالَ ثابتٌ : رُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ كَانَ قَدْ جَزَّأَ سَاعَاتِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهِ ؛ فَلَمْ تَكُنْ تَأْتِي سَاعَةٌ مِنْ سَاعَاتِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ ؛ إلاَّ وَإنْسَانٌ مِنْ آل دَاودَ قَائِمٌ يُصَلِّي ؛ يَتَنَاوَبُونَ دَائِماً ، وَكانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلاَم فيما رُوِيَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيُطْعِمُ أَهْلَه الخُشْكَارَ ، ويُطْعِمُ المسَاكِينَ الدَّرْمَكَ ، وَرُوِيَ أَنَّه مَا شبِعَ قَطٍّ ، فقيلَ له في ذلك ؛ فقال : أخَافُ إنْ شَبِعْتُ أَنْ أنْسَى الجِياعَ .

وقَولُه تَعَالى : { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِيَ الشكور } يُحْتَمَلُ أنْ تَكونَ مخَاطَبَةً لآلِ دَاوُدَ ، ويحتمل : أنْ تكونَ مخاطبةً لنبيِّنَا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى كُلٍّ وَجْهٍ ؛ فَفِيهَا تَحْرِيضٌ وَتَنْبِيهٌ . قال ابنُ عَطَاءِ اللّهِ فِي «الحِكَم » : مَنْ لَمْ يَشْكُر النعمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِها ، وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِها .

وقَالَ صَاحِبُ «الكَلِمِ الفَارِقية » : " لاَ تَغْفَلْ عَنْ شُكْرِ الصَّنَائِعِ ؛ وَسُرْعَةِ استرجاع الوَدَائِعِ ، وَقَالَ أيْضاً : يَا مَيِّتاً نُشِرَ مِنْ قَبْرِ العَدَمْ ، بحُكْمِ الجُودِ والكَرَمِ ، لاَ تَنْسَ سَوَالِفَ العُهُودِ والذِّمَمِ ، أذكُرْ عَهْدَ الإيجَادِ ، وَذِمَّةَ الإحْسَانِ والإرْفَادِ ، وَحَالَ الإصْدَارِ والإيرَادِ ، وفاتحة المَبْدَأِ وَخَاتِمَةَ المَعَادِ " وَقَالَ رحمه اللّه : " يَا دَائِمَ الغَفْلَةِ عَنْ عَظَمَةِ رَبِّه ، أيْن النَّظَرُ فِي عَجَائِبِ صُنْعِه ، والتَّفَكُّرُ فِي غَرَائِبِ حِكْمَتِه ، أيْنَ شُكْرُ مَا أَفَاضَ عَلَيْكَ مِنْ مَلاَبِسِ إحْسَانِه ونِعَمِهِ ، يَا ذَا الفِطْنَةِ ، اغْتَنِمْ نِعْمَةَ المُهْلَة ، وَفُرْصَةَ المُكْنَةِ ، وَخِلْسَةَ السَّلاَمَةِ ، قَبْلَ حُلُولِ الحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ " . انتهى .