قوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } ، التحية : دعاء بطول الحياة ، والمراد بالتحية هاهنا السلام ، يقول : إذا سلم عليكم مسلم فأجيبوا بأحسن منها ، أو ردوها ، كما سلم . فإذا قال : السلام عليكم . فقل : وعليكم السلام ورحمة الله ، وإذا قال : السلام عليكم ورحمة الله ، فقل : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . وإذا قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد مثله .
روي أن رجلاً سلم على ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ثم زاد شيئاً . فقال ابن عباس : إن السلام ينتهي إلى البركة . وروي عن عمران بن حصين : أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم ، فرد عليه ، ثم جلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " عشر ، ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله ، فرد عليه ، فجلس ، فقال : عشرون ، ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد عليه ، فقال : ثلاثون " .
واعلم أن السلام سنة ، ورد السلام فريضة ، وهو فرض على الكفاية ، فإذا سلم واحد من جماعة كان كافياً في السنة ، وإذا سلم واحد على جماعة ورد واحد منهم سقط الفرض عن جميعهم .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر ، أنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكر الكوفي ، أنا وكيع عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ، أنا بن إسماعيل ، أنا قتيبة ، أنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير عن عبد الله بن عمر أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير ؟ قال : ( أن تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف )
ومعنى قوله : أي الإسلام خير ؟ يريد : أي خصال الإسلام خير ؟ وقيل : { فحيوا بأحسن منها } ، معناه أي إذا كان الذي سلم مسلماً ، { أو ردوها } مثلها إذا لم يكن مسلماً .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن يسار ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السلام عليك ، فقل عليك ) .
قوله تعالى :{ إن الله كان على كل شيء حسيبا } أي : على كل شيء من رد السلام بمثله أو بأحسن منه . ( حسيباً ) أي : محاسباً مجازياً . وقال مجاهد : حفيظاً ، وقال أبو عبيدة : كافياً ، يقال : حسب هذا أي كفاني .
{ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا }
التحية هي : اللفظ الصادر من أحد المتلاقيين على وجه الإكرام والدعاء ، وما يقترن بذلك اللفظ من البشاشة ونحوها .
وأعلى أنواع التحية ما ورد به الشرع ، من السلام ابتداء وردًّا . فأمر تعالى المؤمنين أنهم إذا حُيّوا بأي تحية كانت ، أن يردوها بأحسن منها لفظا وبشاشة ، أو مثلها في ذلك . ومفهوم ذلك النهي عن عدم الرد بالكلية أو ردها بدونها .
ويؤخذ من الآية الكريمة الحث على ابتداء السلام والتحية من وجهين أحدهما :
أن الله أمر بردها بأحسن منها أو مثلها ، وذلك يستلزم أن التحية مطلوبة شرعًا .
الثاني : ما يستفاد من أفعل التفضيل وهو " أحسن " الدال على مشاركة التحية وردها بالحسن ، كما هو الأصل في ذلك .
ويستثنى من عموم الآية الكريمة من حيَّا بحال غير مأمور بها ، ك " على مشتغل بقراءة ، أو استماع خطبة ، أو مصلٍ ونحو ذلك " فإنه لا يطلب إجابة تحيته ، وكذلك يستثنى من ذلك من أمر الشارع بهجره وعدم تحيته ، وهو العاصي غير التائب الذي يرتدع بالهجر ، فإنه يهجر ولا يُحيّا ، ولا تُرد تحيته ، وذلك لمعارضة المصلحة الكبرى .
ويدخل في رد التحية كل تحية اعتادها الناس وهي غير محظورة شرعًا ، فإنه مأمور بردّها وبأحسن منها ، ثم أوعد تعالى وتوعد على فعل الحسنات والسيئات بقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا } فيحفظ على العباد أعمالهم ، حسنها وسيئها ، صغيرها وكبيرها ، ثم يجازيهم بما اقتضاه فضله وعدله وحكمه المحمود .
عطف على جملة { من يشفع شفاعة حسنة } [ النساء : 85 ] باعتبار ما قُصد من الجملة المعطوفة عليها ، وهو الترغيب في الشفاعة الحسنة والتحذير من الشفاعة السيّئة ، وذلك يتضمّن الترغيب في قبول الشفاعة الحسنة ورَدّ الشفاعة السيّئة . وإذ قد كان من شأن الشفيع أن يَدخل على المستشفَع إليه بالسلام استئناساً له لقبول الشفاعة ، فالمناسبة في هذا العطف هي أنّ الشفاعة تقتضي حضور الشفيع عند المشفوع إليه ، وأنّ صفة تلقّي المشفوع إليه للشفيع تؤذن بمقدار استعداده لقبول الشفاعة ، وأنّ أول بَوادر اللقاء هو السلام وردّه ، فعلّم الله المسلمين أدب القبول واللقاء في الشفاعة وغيرها وقد كان للشفاعات عندهم شأن عظيم . وفي الحديث : مرّ رجل فقال رسول الله : ماذا تقولون فيه ؟ قالوا : هذا جدير إن شفع أن يشفَّع . . الحديث حتى إذا قبل المستشفَع إليه الشفاعة كان قد طيَّب خاطر الشفيع ، وإذا لم يقبل كان في حسن التحية مرضاة له على الجملة . وهذا دأب القرآن في انتهاز فرص الإرشاد والتأديب .
وبهذا البيان تنجلي عنك الحيرة التي عرضت في توجيه انتظام هذه الآية مع سابقتها ، وتستغني عن الالتجاء إلى المناسبات الضعيفة التي صاروا إليها .
وقد دلّ قوله : { فحيُّوا بأحسن منها } على الأمر بردّ السلام ، ووجوب الردّ لأنّ أصل صغية الأمر أن يكون للوجوب على مقتضى مذهب الجمهور في محمل صيغة الأمر ، ولذلك اتّفق الفقهاء على وجوب ردّ السلام ، ثم اختلفوا إذا كان المسلَّم عليهم جماعة هل يجب الردّ على كلّ واحد منهم : فقال مالك : هو واجب على الجماعة وجوبَ الكفاية فإذا رَد واحد من الجماعة أجزأ عنهم ، وورد في ذلك حديث صحيح ؛ على أنّه إذا كانت الجماعة كثيرة يصير ردّ الجميع غوغاء . وقال أبو حنيفة : الردّ فرض على كلّ شخص من الجماعة بعينه . ولعلّ دليله في ذلك القياس .
ودلّ قوله : { وإذا حييتم بتحية } على أنّ ابتداء السلام شيء معروف بينهم ، ودليله قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها } وسيأتي في سورة النور ( 27 ) .
وأفاد قوله : { بأحسن منها أو ردّوها } التخيير بين الحالين ، ويُعلم من تقديم قوله : { بأحسنَ منها } أنّ ذلك أفضل .
وحيَيَّ أصله في اللغة دَعَا له بالحياة ، ولعلّه من قبيل النحت من قول القائل : حيّاك الله ، أي وهب لك طول الحياة . فيقال للملك : حياك الله . ولذلك جاء في دعاء التشهَّد ( التحيَّات لِلّه ) أي هو مستحقّها لا ملوك الناس . وقال النابغة :
يُحَيَّوْنَ بالرّيْحَانِ يومَ السَّبَاسِبِ
أي يحيون مع تَقَديم الريحان في يوم عيد الشعانين وكانت التحيّة خاصّة بالملوك بدعاء ( حيّاك الله ) غالباً ، فلذلك أطلقوا التحية على المُلْك في قول زهير بن جَنَّات الكلبي :
ولَكُلّ ما نال الفتى *** قد نلتُه إلاّ التحيَّة
يريد أنّه بلغَ غاية المجد سوى الملك . وهو الذي عناه المعريّ بقوله :
تحيةُ كِسْرى في الثناء وتُبَّعِ *** لِرْبعِكِ لا أرضَى تَحِيَّةَ أرْبُعِ
وهذه الآية من آداب الإسلام : علّم الله بها أن يَردّوا على المسلّم بأحسنَ من سلامه أو بما يماثله ، ليبطل ما كان بين الجاهلية من تفاوت السادة والدهماء . وتكون التحيّة أحسن بزيادة المعنى ، فلذلك قالوا في قوله تعالى : { فقالوا سلاماً قال سلام } [ الذاريات : 25 ] : أنّ تحية إبراهيم كانت أحسن إذ عُبِّر عنها بما هو أقوى في كلام العرب وهو رفع المصدر للدلالة على الثبات وتناسِي الحدوث المؤذن به نصب المصدر ، وليس في لغة إبراهيم مثل ذلك ولكنّه من بديع الترجمة ، ولذلك جاء في تحيّة الإسلام : السلام عليكم ، وفي ردّها وعليكم السلام لأنّ تقديم الظرف فيه للاهتمام بضمير المخاطب . وقال بعض الناس : إنّ الواو في ردّ السلام تفيد معنى الزيادة فلو كان المُسلِّم بلغ غاية التحية أن يقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فإذا قال الرادّ : « وعليكم السلام » الخ ، كان قد ردّها بأحسن منها بزيادة الواو ، وهذا وهم .
ومعنى ( ردّوها ) ردّوا مثلها ، وهذا كقولهم : عندي درهم ونصفه ، لظهور تعذّر ردّ ذات التحيّة ، وقوله تعالى : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها } [ النساء : 176 ] فعاد ضمير « وهو » وهاء « يرثها » إلى اللفظين لا إلى الذاتين ، ودلّ الأمر على وجوب ردّ السلام ، ولا دلالة في الآية على حكم الابتداء بالسلام ، فذلك ثابت بالسنّة للترغيب فيه . وقد ذكروا أنّ العرب كانوا لا يقدّمون اسم المسلَّم عليه المجرور بعَلى في ابتداء السلام إلاّ في الرثاء ، في مثل قول عبدة بن الطيب :
عليك السلام الله قيس بن عاصم *** ورحمته ما شاء أن يترحّما
عليك سلام من أمير وباركت *** يد الله في ذاك الأديم الممّزق
يرثي عثمان بن عفّان أو عمَر بن الخطاب . روى أبو داوود أنّ جابر بن سليم سلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : عليك السلام يا رسول الله ، فقال له : " إنّ عليك السلامُ تحيةُ الموتى ، قل ، السلام عليك " . والتذييل بقوله : { إنّ الله كان على كلّ شيء حسيباً } لقصد الامتنان بهذه التعليمات النافعة .
والحسيب : العليم وهو صفة مشبَّهة : من حَسِب بكسر السين الذي هو من أفعَال القلب ، فحُوّل إلى فعُل بضمّ عينه لمَّا أريد به أنّ العلم وصف ذاتي له ، وبذلك نقصت تعديته فاقتصر على مفعول واحد ، ثمّ ضمّن معنى المحصي فعدي إليه بعلى . ويجوز كونه من أمثلة المبالغة . قيل : الحسيب هنا بمعنى المحاسب ، كالأكيل والشريب . فعلى كلامهم يكون التذييل وعداً بالجزاء على قدرِ فضل ردّ السلام ، أو بالجزاء السَّيّء على ترك الردّ من أصله ، وقد أكدّ وصف الله بحسيب بمؤكّدين : حرف ( إنّ ) وفعل ( كَانَ ) الدالّ على أنّ ذلك وصف مقرّر أزلي .