/ ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا86 ) .
( وإذا حييتم بتحية ) أي إذا سلم عليكم فدعي لسلامة حياتكم وصفاتكم التي بها كمال الحياة بتحية ، فقيل : السلام عليكم ( فحيوا ) أي : أداء لحق المسلم عليكم ( بأحسن منها ) أي : بتحية أحسن منها . بأن تقولوا : وعليكم السلام ورحمة الله . ولو قالها المسلم ، زيد ، وبركاته . قال الراغب : أصل التحية الدعاء بالحياة وطولها . ثم استعملت في كل دعاء . وكانت العرب ، إذا لقي بعضهم بعضا ، يقول : حياك الله . ثم استعملها الشرع في السلام . وهي تحية الإسلام . قال الله تعالى : ( تحيتهم فيها سلام ) {[2025]} . وقال : ( تحيتهم يوم يلقونه سلام ) {[2026]} . وقال : ( فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله ) {[2027]} قالوا : في السلام مزية على ( حياك ) لما أنه دعاء بالسلامة عن الآفات الدينية والدنيوية ، وهي مستلزمة لطول الحياة ، وليس في الدعاء بطول الحياة ذلك . ولأن السلام من أسمائه تعالى . فالبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته ( أو ردوها ) أي : أجيبوها بمثلها . ورد السلام ورجعه : جوابه بمثله . لأن المجيب يرد المسلم ويكرره ( ان الله كان على كل شيء حسيبا ) أي : فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم التي من جملتها ما أمرتم به من التحية . فحافظوا على مراعاتها حسبما أمرتم به . وفي الآية فوائد شتى :
الأولى : نكتة نظمها مع آيات الجهاد لمنع المؤمنين من قتل من ألقى إليهم السلام في الحرب الآتي قريبا ، ببيان أن لكل مسلم حقا يؤدى إليه . وذلك لأن السلام نوع من الإكرام . والمكرم يقابل بمثل إكرامه أو أزيد . قال الرازي : إن الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه . فقد لا يلتفت إلى سلامه عليه ويقتله . وربما ظهر أنه كان مسلما . فمنع الله المؤمنين عنه . وأمرهم أن كل من يسلم عليهم ويكرمهم بنوع من الإكرام يقابلونه بمثل ذلك الإكرام أو أزيد . فإنه ان كان كافرا لا يضر المسلم ، إن قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الإكرام ، أما إن كان مسلما ، وقتله ، ففيه أعظم المضار والمفاسد . ولذا قال : ( ان الله كان على كل شيء حسيبا ) . أي هو محاسبكم على كل أعمالكم . وكاف في إيصال جزاء أعمالكم إليكم . فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف . فهذا يدل على شدة العناية بحفظ الدماء . والمنع من إهدارها . وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال : " من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه ، وان كان مجوسيا " . ذلك بأن الله يقول : ( فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) " . وقال قتادة : ( فحيوا بأحسن منها ) ، يعني للمسلمين . ( أو ردوها ) ، يعني لأهل الذمة . ومن هنا حكى الماوردي وجها : انه يقول في الرد على أهل الذمة ، إذا ابتدؤوا : وعليكم السلام . ولا يقول : ورحمة الله . نقله عنه النووي . وروى الزمخشري عن الحسن أنه يجوز أن يقال للكافر : وعليك السلام . ولا تقل : ورحمة الله . فإنه ا استغفار . وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه : وعليك السلام ورحمة الله . فقيل له في ذلك . فقال : أليس في رحمة الله يعيش ؟ انتهى . والظاهر أنه لحظ الأخبار بذلك ولم يرد مضمون التحية . ومع هذا فالثابت في ( الصحيحين ) {[2028]} عن أنس مرفوعا : " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم " . كما يأتي . قال السيوطي في ( الاكليل ) : في هذه الآية مشروعية السلام ووجوب رده . واستدل بها الجمهور على رد السلام على كل مسلّم ، مسلما كان أو كافرا . لكن مختلفان في صيغة الرد .
الثانية : ورد في افشاء السلام أحاديث كثيرة . منها قول البراء بن عازب رضي الله عنهما : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ، منها : وإفشاء السلام " . رواه الشيخان{[2029]} . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا . ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم " . رواه مسلم{[2030]} . وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس ! أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام " . قال الترمذي{[2031]} : حديث صحيح .
الثالثة : في كيفية السلام . قال الرازي : إن شاء قال : سلام عليكم . وان شاء قال : السلام عليكم . قال تعالى في حق نوح : ( يا نوح اهبط بسلام منا ) {[2032]} . وقال عن الخليل : ( قال سلام عليك سأستغفر لك ربي ) {[2033]} . وقال في قصة لوط : ( قالوا سلاما قال سلام ) {[2034]} وقال عن يحيى : ( وسلام عليه ) {[2035]} . وقال عن محمد صلى الله عليه وسلم : ( قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ) {[2036]} . وقال عن الملائكة : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم ) {[2037]} . وقال عن نفسه المقدسة : ( سلام قولا من رب رحيم ) {[2038]} . وقال : ( فقل سلام عليكم ) {[2039]} . وأما بالألف واللام فقوله عن موسى عليه السلام : ( فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى ) {[2040]} . وقال عن عيسى عليه السلام : ( والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) {[2041]}مك فثبت أن الكل جائز . انتهى .
/ قال الإمام أبو الحسن الواحدي : أنت في تعريف السلام وتنكيره بالخيار . انتهى .
ولكثرة ورود التنكير في القرآن ، على ما بيناه ، فضله بعضهم على التعريف .
الرابعة : في فضله . روى الإمام أحمد{[2042]} وأبو داود والترمذي والدارمي عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم . فرد عليه ثم جلس . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عشر . ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله . فرد عليه فجلس فقال : عشرون . ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . فرد عليه فجلس فقال : ثلاثون " . قال الترمذي حديث حسن . وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حنيف . وقال البزار : قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ، هذا أحسنها إسنادا . وفي رواية لأبي داود{[2043]} ، من رواية معاذ بن أنس رضي الله عنه زيادة على هذا . قال : " ثم أتى آخر . فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته . فقال : أربعون . وقال : هكذا تكون الفضائل " . وفيه رد على من زعم انه لا يزاد على ( وبركاته ) . لا يقال رواية ( ومغفرته ) عند أبي داود ، هي من طريق أبي مرحوم واسمه عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ عن أبيه . وأبو مرحوم ضعفه يحيى . وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به –لأنا نقول : قد حسن الترمذي روايته عن سهل بن معاذ . وصححها أيضا هو وابن خزيمة والحاكم وغيرهم . قال النسائي لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه .
وروى الطبراني عن سهل بن حنيف رضي الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال : السلام عليكم كتب له عشر حسنات ، ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله . كتبت عشرون حسنة ، ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة " . وروى ابن حبان في ( صحيحه ) عن أبي هريرة رضي الله عنه : " أن رجلا مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس فقال : سلام عليكم . فقال : عشر حسنات . ثم مر آخر فقال : سلام عليكم ورحمة الله فقال : عشرون حسنة . ثم مر آخر فقال : سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال : ثلاثون حسنة . فقام رجل من المجلس ولم يسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أوشك ما نسي صاحبكم . إذا جاء أحدكم إلى المجلس فليسلم . فإن بدا له أن يجلس فليجلس . وان قام فليسلم . فليست الأولى بأحق من الآخرة " . وروى الطبراني بإسناد جيد عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبخل الناس من بخل بالسلام ) . ورواه أيضا عن أبي هريرة . ولأحمد{[2044]} والبزار نحوه . عن جابر . وروى الطبراني عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ان المؤمن إذا لقى المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده تناثرت خطاياهما كما تتناثر ورق الشجر " . قال المنذري : ورواته لا أعلم فيهم مجروحا . وروى البزار عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا التقى الرجلان المسلمان فسلم أحدهما على صاحبه ، فإن أحبهما إلى الله أحسنهما بشرا لصاحبه . فإذا تصافحا نزلت عليهما مائة رحمة : للبادئ منهما تسعون ، وللمصافح عشرة " . وروى أبو داود{[2045]} عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام " .
/ الخامسة : في بعض أحكامه المأثورة . روى أبو داود {[2046]}عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم . ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم " . وفي ( الموطأ ) {[2047]} عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم " . قال النووي : هذا مرسل صحيح الإسناد . وفي ( الصحيحين ) {[2048]} عن عائشة رضي الله عنها قالت : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السلام . قالت قلت : وعليه السلام ورحمة الله . ترى ما لا نرى ( تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) " قال النووي : ووقع في بعض روايات ( الصحيحين ) ( وبركاته ) ، ولم يقع في بعضها . وزيادة الثقة مقبولة . وفي ( سنن أبي داود ) {[2049]} عن غالب القطان عن رجل قال : حدثني أبي عن جدي قال : " بعثني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ائته فأقرئه السلام . فأتيته فقلت : إن أبي يقرئك السلام . فقال : عليك وعلى أبيك السلام " . قال النووي : هذا وان كان رواية عن مجهول ، فأحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم . فيستفاد منه الرد على المبلغ كالمسلم . وروى أبو داود{[2050]} عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه . فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه " . ففيه أن من سلم عليه إنسان ، ثم لقيه على قرب ، ندب التسليم عليه ثانيا وثالثا . وروى الشيخان{[2051]} عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير " .
وروى الشيخان{[2052]} عن أنس : " أنه مر على صبيان فسلم عليهم . وقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله " .
ولفظ أبي داود{[2053]} : " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على غلمان يلعبون فسلم عليهم " . وعند ابن السني فيه ، " فقال : السلام عليكم يا صبيان " . وروى أبو داود{[2054]} عن أسماء بنت يزيد قالت : " مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا " .
وروى الترمذي نحوه . وروى الشيخان{[2055]} عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا سلم عليكم أهل الكتاب ، فقولوا : وعليكم " . ورويا{[2056]} عن أسامة " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم " . وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال{[2057]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه " . قال النووي : روينا في ( موطأ مالك ) أنه سئل عمن سلم على اليهودي أو النصراني هل يستلقيه ذلك ؟ فقال : لا . قال أبو سعد المتولي الشافعي : لو أراد تحية ذمي ، فعلها بغير السلام . بأن يقول : هداك الله أو أنعم الله صباحك . قال النووي : هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به . إذا احتاج إليه فيقول : صبحت بالخير أو بالسعادة أو بالعافية . أو صبحك الله بالسرور أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرة أو ما أشبه ذلك .
السادسة : قال الحسن البصري : السلام تطوع والرد فريضة . قال ابن كثير : وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة : أن الرد واجب على من سلم عليه . فيأثم ان لم يفعل لأنه خالف أمر الله تعالى في قوله : ( فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) . انتهى . وفي ترك الرد اهانة وازدراء وهو حرام . ولذا ندب للجمع المسلم عليهم أن يجيبوا كلهم إظهارا للإكرام ومبالغة فيه . وان كان الفرض يسقط ببعضهم .