إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا} (86)

{ وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ } ترغيبٌ في فرد شائعٍ من أفراد الشفاعةِ الحسنةِ إثرَ ما رُغِّبَ فيها على الإطلاق وحُذِّر عما يقابلها من الشفاعة السيئةِ ، وإرشادٌ إلى توفية حقِّ الشفيعِ ، وكيفيةِ أدائِه ، فإن تحيةَ الإسلامِ من المسلم شفاعةٌ منه لأخيه إلى الله تعالى ، والتحيةُ مصدر حيَّا أصلُها تحْيِيَةٌ ، كتسمية من سمَّى وأصلُ الأصلِ تَحْيِيٌّ بثلاث ياءاتٍ فحُذفت الأخيرةُ وعُوِّضَ عنها تاءُ التأنيثِ وأُدغمت الأولى في الثانية بعد نقلِ حركتِها إلى الحاء . قال الراغبُ : أصلُ التحية الدعاءُ بالحياة وطولِها ثم استعملت في كل دعاءٍ ، وكانت العربُ إذا لقِيَ بعضُهم بعضاً يقول : حياك الله ، ثم استعملها الشرعُ في السلام وهي تحيةُ الإسلامِ ، وقال تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } [ إبراهيم ، الآية 23 ] وقال : { فَسَلّمُوا على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً منْ عِندِ الله } [ النور ، الآية 61 ] قالوا : في السلام مزيةٌ على التحية لما أنه دعاءٌ بالسلامة من الآفات الدينيةِ والدنيويةِ ، وهي مستلزِمةٌ لطول الحياةِ وليس في الدعاء بطول الحياةِ ذلك ، ولأن السلامَ من أسمائه تعالى فالبَداءةُ بذكره مما لا ريبَ في فضله ومزّيتِه ، أي إذا سُلِّم عليكم من جهة المؤمنين { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا } أي بتحيةٍ أحسنَ منها بأن تقولوا : وعليكم السلامُ ورحمةُ الله إن اقتصر المُسلمُ على الأول وبأن تَزيدوا وبركاتُه إن جمعهما المسلمُ وهي النهايةُ لانتظامها لجميع فنونِ المطالبِ التي هي السلامةُ عن المضارِّ ونيلُ المنافعِ ودوامُها ونماؤُها . { أَوْ رُدُّوهَا } أي أجيبوها بمثلها . رُوي أن رجالاً قال أحدُهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : السلامُ عليك ، فقال : «وعليك السلام ورحمةُ الله » وقال الآخرُ : السلامُ عليك ورحمةُ الله ، فقال : «وعليك السلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه » ، وقال الآخرُ : السلامُ عليك ورحمةُ الله وبركاتُه ، فقال : «وعليك » فقال الرجل : نقصتَني فأين ما قال الله تعالى ؟ وتلا الآية ، فقال عليه الصلاة والسلام : «إنك لم تترُكْ ليَ فضلاً فردَدْتُ عليك مثلَه » ، وجوابُ التسليم واجبٌ وإنما التخييرُ بين الزيادةِ وتركِها ، وعن النخعيّ : أن السلامَ سنةٌ والردَّ فريضةٌ ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : «الردُّ واجبٌ وما من رجل يمُرُّ على قوم مسلمين فيسلّم عليهم ولا يردّون عليه إلا نزَع الله منهم روُحَ القُدسِ وردَّت عليه الملائكة » ولا يردّ في الخُطبة وتلاوةِ القرآنِ جهراً ، وروايةِ الحديثِ وعند دراسةِ العلمِ والآذانِ والإقامةِ ، ولا يسلّم على لاعب النرْدِ والشطرنج والمغنّي والقاعدِ لحاجته ومُطيِّرِ الحَمام والعاري في الحمّام وغيرِه ، قالوا : ويسلم الرجلُ على امرأته لا على الأجنبية ، والسُّنةُ أن يسلِّم الماشي على القاعد والراكبُ على الماشي وراكبُ الفرسِ على راكب الحمارِ ، والصغيرُ على الكبير والقليلُ على الكثير ، وإذا التَقَيا ابتدرا . وعن أبي حنيفةَ رضي الله عنه لا يجهر بالرد يعني الجهرَ الكثيرَ ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام : «إذا سلَّم عليكُم أهلُ الكتابِ فقولوا : وعليكُم » أي وعليكم ما قلتم حيث كان يقول بعضُهم : السامُ عليكم . وروي ( لا تبدأ اليهوديَّ بالسلام وإذا بدأك فقل : وعليك ) ، وعن الحسن : أنه يجوز أن يقول للكافر وعليك السلامُ دون الزيادة ، وقيل : التحيةُ بالأحسن عند كونِ المسلِّمِ مسلماً وردُّ مثلِها عند كونِه كافراً . { إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَي حَسِيباً } فيحاسبكم على كل شيءٍ من أعمالكم التي من جملتها ما أُمرتم به من التحية فحافِظوا على مراعاتها حسبما أُمرتم به .