غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا} (86)

82

ثم لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضاً بأن الأعداء لو رضوا بالمسالمة أو ألقوا في المبارزة بالسلم فقابلوهم بالإكرام وأيضاً السلام دعاء بالسلامة والدعاء من نوع من الشفاعة والتحية تفعلة من الحياة ويجيء الناقص من باب التفعيل على " تفعلة " مثل : تسلية وتعزية . لكنه أدغم ههنا لاجتماع المثلين . وكانت العرب تقول عند التلاقي حياك الله . دعاء له بالحياة فأبدل الله ذلك بالسلام ، ولعمري إن هذا أحسن لأن الحياة إن لم تكن مقرونة بالسلامة لم يعتد بها بل لعل الموت خير منها ، ولأن السلام اسم من أسماء الله تعالى فالابتداء به أولى ، ولأن دفع الضرر أهم من جلب النفع وقد سلم الله عليك يا مؤمن في اثني عشر موضعاً في الأزل ولهذا سمى نفسه بالسلام ، وعلى لسان نوح :{ يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك }[ هود :48 ] والمراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم عليك على لسان جبريل :{ تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام }[ القدر :5 ] قال المفسرون إنه خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى فقال الله تعالى : لا تهتم بذلك فإني وإن أخرجتك من الدنيا إلاّ إني جعلت جبرائيل خليفة لك ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني . وسلم عليك على لسان موسى :{ والسلام على من اتبع الهدى }[ طه :47 ] وسلم عليك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم :{ وقل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى }[ النمل :59 ] وأمر محمداً صلى الله عليه وسلم بالسلام عليك :{ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم }[ الأنعام :54 ] وأمر المؤمنين بالسلام عليك : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } وسلم عليك على لسان ملك الموت :{ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم }[ النحل : 32 ] قيل : إن ملك الموت يسلم في أذن المسلم : السلام يقرئك السلام ويقول : أجبني فإني مشتاق إليك واشتاقت الجنات والحور العين إليك ، فإذا سمع المؤمن البشارة يقول الملك الموت : لا هدية أعز من روحي فاقبض روحي هدية لك . وسلم عليك من الأرواح الطاهرة :{ وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين }[ الواقعة :91 ] وسلم عليك على لسان خزنة الجنة :{ وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين }[ الزمر :73 ] وسلم عليك على لسان الملائكة في الجنة :{ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم }[ الرعد :24 ] وسلم عليك على لسان أهل الجنة :{ تحيتهم يوم يلقونه سلام }[ الأحزاب :44 ] وسلم عليك إلى الأبد :{ سلام قولاً من رب رحيم }[ يس :58 ] ولما أراد إكرام يحيى عليه السلام وعده بالسلام في مواطن ثلاثة هي أشد الأوقات حاجة إلى السلام فقال :{ وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً }[ مريم :15 ] ولما ذكر تعظيم محمد صلى الله عليه وسلم قال :{ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً }{ الأحزاب :56 ] وعن عبد الله بن سلام قال : لما سمعت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت في غمار الناس فأول ما سمعت عنه : " يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام " وكانت تحية النصارى وضع اليد على الفم ، وتحية اليهود الإشارة بالأصابع ، وتحية المجوس الانحناء ، وتحية الجاهلية " حياك الله " ، وتحيتهم للملوك " أنعم صباحاً " فشتان ما بين تحياتهم وتحيتنا " السلام عليك ورحمة الله وبركاته " وفي هذا دليل على أن هذا الدين أشرف الأديان وأكملها . ومما يدل على فضيلة السلام عقلاً أن الوعد بالنفع قد يقدر الإنسان على الوفاء به وقد لا يقدر ، وأما الوعد بترك الضرر فإنه يقدر عليه لا محالة والسلام يدل عليه فهو أفضل أنواع التحية . قال بعض العلماء : فمن دخل بيتاً وجب عليه أن يسلم على الحاضرين لقوله تعالى :{ فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم }[ النور :61 ] وقال صلى الله عليه وسلم : " أفشوا السلام " والأمر للوجوب ، ولأن السلام بشارة بالسلامة وإزالة الضرر وهو واجب لقوله : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " ولأنه من شعائر الإسلام وإظهار شعائر الإسلام واجب . وعن ابن عباس والنخعي وأكثر العلماء أن السلام سنة . وأما الجواب فواجب بالإجماع لأن ترك الجواب إهانة والإهانة ضرر والضرر حرام ولقوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } وظاهر الأمر الوجوب وعن ابن عباس : ما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلاّ نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة . قال العلماء : الأحسن أن يزيد في جواب السلام الرحمة ، وإن ذكر في الابتداء السلام والرحمة زاد في جوابه البركة ، وإن ذكر المجموع أعادها فقط فإن منتهى الأمر في السلام أن يقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . لأن هذا القدر هو الوارد في التشهد . وروي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : السلام عليك يا رسول الله .

فقال : وعليك السلام ورحمة الله ، وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله . فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته . وجاء ثالث وقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته . فقال : وعليك فقال : نقصتني فأين قول الله : { فحيوا بأحسن منها } فقال : إنك لم تترك لي فضلاً فرددت عليك مثله . فقوله تعالى : { أو ردوها } أي أجيبوها بمثلها ، ورد السلام كرّه ورجعة إما إشارة إلى هذه الصورة وإما إلى التخيير بين الزيادة وتركها ، ورد الجواب فرض على الكفاية إذا قام به بعض سقط عن الباقين . والأولى أن يقوم به الكل إكثاراً للإكرام ، والأحسن أن يدخل حرف العطف فيقول : وعليكم السلام . وهو واجب على الفور بقدر ما يعهد بين الإيجاب والقبول في العقود فإن أخر عن ذلك كان ابتداء سلام لا جواباً وإذا ورد عليه سلام في كتاب فجوابه بالكتابة أيضاً واجب لقوله : { وإذا حييتم بتحية فحيوا } ومن قال لآخر أقرئ فلاناً عني السلام وجب عليه أن يفعل . قال العلماء : المبتدئ يقول السلام عليكم والمجيب يقول : وعليكم السلام ليقع الابتداء والاختتام بذكر الله . فإن خالف المبتدئ فليكن الاختتام بحاله . ويجوز " سلام عليكم " بل قالوا إنه أولى من المعرف لأن المنكر في القرآن أكثر ، وإن المنكر ورد من الله والملائكة والمؤمنين ، والمعرف ورد في تسليم الإنسان على نفسه ، قال موسى :{ والسلام على من اتبع الهدى }[ طه :47 ] وقال عيسى :{ والسلام عليّ يوم ولدت }[ مريم :33 ] وأيضاً المعرف يدل على أصل الماهية والمنكر على الماهية مع وصف الكمال . ومن السنة أن يسلم الراكب لزيادة هيبته على الماشي ، وراكب الفرس على راكب الحمار ، والصغير على الكبير ، والأقل على الأكثر احتراماً للجماعة ، والقائم على القاعد لأنه الواصل إليه لأن القائم أهيب ومن السنة الجهر بالسلام لأنه أقوى في إدخال السرور في القلب . ومنها الابتداء به إظهاراً للتواضع ، ومنها الإفشاء والتعميم لأن التخصيص إيحاش ، والمصافحة عند السلام عادة النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا تصافح المسلمان تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر " ومن استقبله رجل واحد فليقل : سلام عليكم وليقصد الرجل والملكين لأنه إذا سلم عليهما ردا السلام عليه ، ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب الله ، ومن دخل بيتاً خالياً فليسلم ويكون كأنه سلام من الله على نفسه ، أو سلام على من فيه من مؤمني الجن ، أو طلب السلامة ببركة اسم السلام ممن في البيت من الشياطين والمؤذيات . ولو قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين كان حسناً ، ومن السنة أن يكون المبتدئ بالسلام على الطهارة وكذا المجيب . روي أن واحداً سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قضاء الحاجة فقام وتيمم ثم رد الجواب . وإذا دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فلا ينبغي أن يسلم لاشتغال الناس بالاستماع ، فإن سلم ورد بعضهم فلا بأس ، ولو اقتصروا على الإشارة كان أحسن .

ومن دخل الحمام فرأى الناس متزرين سلم عليهم فإن لم يكونوا متزرين لم يسلم عليهم . والأولى ترك السلام على القارئ كيلا يقطع عليه باشتغاله بالجواب ، وكذا القول فيمن كان مشتغلاً برواية الحديث ومذاكرة العلم أو بالأذان أو الإقامة . ولا يسلم على المشغول بالأكل هكذا أطلق وحمله بعضهم على ما إذا كانت اللقمة في فيه . ولا يسلم على قاضي الحاجة قال أبو يوسف : ولا على لاعب النرد ولا على المغني ومطير الحمام وكل من كان مشتغلاً بنوع معصية ، ولا مانع من السلام على من هو في مساومة أو معاملة . وإذا دخل الرجل بيته سلم على امرأته فإن حضرت أجنبية هناك لم يسلم عليها ، وإذا سلمت الأجنبية عليه وكان يخاف في رد الجواب عليها تهمة أو فتنة لم يجب الرد بل الأولى أن لا يفعل . وحيث قلنا لا يسلم فلو سلم لم يجب عليها الرد لأنه أتى بفعل منهي عنه فكان وجوده كعدمه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يبتدأ اليهودي بالسلام " وعن أبي حنيفة أنه قال : لا تبتدئه بسلام في كتاب ولا في غيره . وعن أبي يوسف : لا تسلم عليهم ولا تصافحهم وإذا دخلت فقل : السلام على من اتبع الهدى . ولا بأس في الدعاء له بما يصلحه في دنياه ، ورخص بعض العلماء في ابتداء السلام عليهم إذا دعت إلى ذلك حاجة ، أما إذا سلموا علينا فقال أكثر العلماء ينبغي أن نقول : وعليك لما روي أن اليهود تقول للمسلمين : السام عليكم ، وعن الحسن : يجوز أن يقول للكافر وعليك السلام ولا يقل : ورحمة الله . لأنها استغفار . وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه عليك السلام ورحمة الله فقيل له في ذلك ؟ فقال : أليس في رحمة الله يعيش ؟ واعلم أن مذهب أبي حنيفة أن من وهب لغير ذي رحم محرم فله الرجوع فيها ما لم يثب منها ، فإذا أثيب منها فلا رجوع له فيها . وقال الشافعي : له الرجوع في حق الولد وليس له الرجوع في حق الأجنبي . واحتج لأبي حنيفة بالآية وذلك أن التحية تشمل جميع أنواع الإكرام فتشمل الهبة ومقتضاها وجوب الرد إذا لم يصر مقابلاً بالأحسن ، فإذا لم يثبت الوجوب فلا أقل من الجواز ، وقال الشافعي : هذا الأمر محمول على الندب بدليل أنه لو أثيب بما هو أقل منه سقطت مكنة الرد بالإجماع مع أن ظاهر الآية يقتضي أن يثاب بالأحسن . ثم احتج الشافعي على قوله بما روي عن ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلاّ الوالد فيما يعطي ولده "

{ إن الله كان على كل شيء حسيباً } فيحاسبكم على محافظة حقوق التحية وغيرها ، فكونوا على حذر من مخالفته .