فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا} (86)

قوله : { وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } التحية تفعلة من حييت ، والأصل تحيية مثل ترضية وتسمية ؛ فأدغموا الياء في الياء ، وأصلها الدعاء بالحياة . والتحية : السلام ، وهذا المعنى هو المراد هنا ، ومثله قوله تعالى : { وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله } [ المجادلة : 8 ] وإلى هذا ذهب جماعة المفسرين ، وروي عن مالك أن المراد بالتحية هنا : تشميت العاطس . وقال أصحاب أبي حنيفة ، التحية هنا الهدية لقوله : { أَوْ رُدُّوهَا } ولا يمكن ردّ السلام بعينه ، وهذا فاسد لا ينبغي الالتفات إليه . والمراد بقوله : { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا } أن يزيد في الجواب على ما قاله المبتدىء بالتحية ، فإذا قال المبتدئ : السلام عليكم ، قال المجيب : وعليكم السلام ورحمة الله ، وإذا زاد المبتدئ لفظاً زاد المجيب على جملة ما جاء به المبتدئ لفظاً أو ألفاظاً نحو : وبركاته ، ومرضاته ، وتحياته .

قال القرطبي : أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها ، وردّه فريضة لقوله : { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } واختلفوا إذا ردّ واحد من جماعة هل يجزئ أو لا ؟ فذهب مالك ، والشافعي إلى الإجزاء ، وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجزئ عن غيره ، ويردّ عليهم حديث عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «يجزئ من الجماعة إذا مرّوا أن يسلم أحدهم ، ويجزىء عن الجلوس أن يردّ أحدهم » أخرجه أبو داود ، وفي إسناده سعيد بن خالد الخزاعي المدني ، وليس به بأس ، وقد ضعفه بعضهم . وقد حسن الحديث ابن عبد البرّ .

ومعنى قوله : { أَوْ رُدُّوهَا } الاقتصار على مثل اللفظ الذي جاء به المبتدىء ، فإذا قال السلام عليكم ، قال المجيب : وعليكم السلام . وقد ورد في السنة المطهرة في تعيين من يبتدئ بالسلام ، ومن يستحق التحية ومن لا يستحقها ما يغني عن البسط هاهنا . قوله : { إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء حَسِيباً } يحاسبكم على كل شيء وقيل : معناه حفيظاً وقيل : كافياً ، قولهم أحسبني كذا : أي : كفاني ، ومثله : { حَسْبَكَ الله } [ الأنفال : 62 ، 64 ] .

/خ87