قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص } . قال الشعبي والكلبي وقتادة : نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، وكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام ، قال قتادة ومقاتل بن حيان : كانت بين بني قريظة والنضير ، وقال سعيد بن جبير : وكانت بين الأوس والخزرج ، وقالوا جميعاً : وكان لأحد الحيين على الآخر طول في الكثرة والشرف ، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور ، فأقسموا : لنقتلن بالعبد منا الحر منهم ؛ وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، وبالرجلين منا أربعة رجال منهم ، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك ، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمر بالمساواة فرضوا وأسلموا .
قوله تعالى : { كتب عليكم القصاص } . أي فرض عليكم القصاص . والقصاص المساواة والمماثلة في الجراحات والديات ، وأصله من قص الأثر إذا اتبعه ، فالمفعول به يتبع ما فعل به فيفعل مثله . ثم بين المماثلة فقال : قوله تعالى : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } . وجملة الحكم فيه أنه إذا تكافأ الدمان في الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم ، قتل من كل صنف منهم الذكر إذا قتل بالذكر وبالأنثى ، وتقتل الأنثى إذا قتلت بالأنثى وبالذكر ، ولا يقتل مؤمن بكافر ولا حر بعبد ، ولا والد بولد ، ولا مسلم بذمي ، ويقتل الذمي بالمسلم ، والعبد بالحر ، والولد هذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع بن سليمان أنا الشافعي ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة قال : سألت علياً رضي الله عنه هل عندك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن ؟ فقال لا : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يؤتي الله عبداً فهماً في القرآن وما في هذه الصحيفة ، قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مؤمن بكافر .
وروي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تقام الحدود في المساجد ، ولا يقاد بالولد الوالد " .
وذهب الشعبي و النخعي وأصحاب الرأي إلى أن المسلم يقتل بالكافر الذمي ، وإلى أن الحر يقتل بالعبد ، والحديث حجة لمن لم يوجب القصاص على المسلم بقتل الذمي ، وتقتل الجماعة بالواحد .
روي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة أو خمسة برجل قتلوه غيلة ، وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به جميعاً .
ويجري القصاص في الأطراف كما يجري في النفوس ، إلا في شيء واحد وهو أن الصحيح السوي يقتل بالمريض الزمن ، وفي الأطراف لو قطع يداً شلاء أو ناقصة بأصبع لا تقطع بها الصحيحة الكاملة ، وذهب أصحاب الرأي إلى أن القصاص في الأطراف لا يجري إلا بين حرين أو حرتين ، ولا يجري بين الذكر والأنثى ، ولا بين الحر والعبد ، وعند الآخرين : الطرف في القصاص مقيس على النفس .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن منيرة أنه سمع عبد الله بن بكر السهمي ، أخبرنا حميد عن أنس بن النضر أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية ، فطلبوا إليها العفو ، فأبوا ، فعرضوا الأرش فأبوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص ، فقال أنس بن النضر : يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع ! لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أنس كتب الله القصاص فرضي القوم فعفوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " .
قوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء } . أي ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد ورضي بالدية هذا قول أكثر المفسرين ، قالوا : العفو أن تقبل الدية في قتل العمد وقوله : من أخيه . أي من دم أخيه وأراد بالأخ المقتول والكنايتان في قوله : له ومن أخيه ترجعان إلى من وهو القاتل ، وقوله : شيء دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا يسقط القود ، لأن شيئاً من الدم قد بطل .
قوله تعالى : { فاتباع بالمعروف } . أي على الطالب للدية أن يتبع بالمعروف فلا يطالب بأكثر من حقه .
قوله تعالى : { وأداء إليه بإحسان } . أي على المطلوب منه أداء الدية بالإحسان من غير مماطلة ، أمر كل واحد منهما بالإحسان فيما له وعليه ، ومذهب أكثر العلماء من الصحابة والتابعين أن ولي الدم إذا عفا عن القصاص على الدية فله أخذ الدية ، وإن لم يرض به القاتل ، وقال قوم : لا دية له إلا برضا القاتل ، وهو قول الحسن والنخعي وأصحاب الرأي ، وحجة المذهب الأول :
ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الكعبي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل " .
قوله تعالى : { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } . أي ذلك الذي ذكرت من العفو عن القصاص ، وأخذ الدية تخفيف من ربكم ورحمة ، وذلك أن القصاص في النفس والجراح كان حتماً في التوراة على اليهود ولم يكن لهم أخذ الدية ، وكان في شرع النصارى الدية ولم يكن لهم القصاص ، فخير الله هذه الأمة بين القصاص وبين العفو على الدية تخفيفاً منه ورحمة .
قوله تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك } . فقتل الجاني بعد العفو وقبول الدية .
قوله تعالى : { فله عذاب أليم } . وهو أن يقتل قصاصاً ، قال ابن جريج : يتحتم قتله حتى لا يقبل العفو ، وفي الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافراً بالقتل ، لأن الله تعالى خاطبه بعد القتل بخطاب الإيمان فقال : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص ) وقال في آخر الآية : ( فمن عفي له من أخيه شيء ) وأراد به أخوة الإيمان ، فلم يقطع الأخوة بينهما بالقتل .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
يمتن تعالى على عباده المؤمنين ، بأنه فرض عليهم { الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } أي : المساواة فيه ، وأن يقتل القاتل على الصفة ، التي قتل عليها المقتول ، إقامة للعدل والقسط بين العباد .
وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين ، فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم ، حتى أولياء القاتل ، حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول ، إذا طلب القصاص وتمكينه{[120]} من القاتل ، وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد ويمنعوا الولي من الاقتصاص ، كما عليه عادة الجاهلية ومن أشبههم من إيواء المحدثين .
ثم بيَّن تفصيل ذلك فقال : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } يدخل بمنطقوقها ، الذكر بالذكر ، { وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } والأنثى بالذكر ، والذكر بالأنثى ، فيكون منطوقها مقدما على مفهوم قوله : " الأنثى بالأنثى " مع دلالة السنة ، على أن الذكر يقتل بالأنثى ، وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا ، فلا يقتلان بالولد ، لورود السنة بذلك ، مع أن في قوله : { الْقِصَاصُ } ما يدل على أنه ليس من العدل ، أن يقتل الوالد بولده ، ولأن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة ، ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله ، أو أذية شديدة جدا من الولد له .
وخرج من العموم أيضا ، الكافر بالسنة ، مع أن الآية في خطاب المؤمنين خاصة .
وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه ، والعبد بالعبد ، ذكرا كان أو أنثى ، تساوت قيمتهما أو اختلفت ، ودل بمفهومها على أن الحر ، لا يقتل بالعبد ، لكونه غير مساو له ، والأنثى بالأنثى ، أخذ بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة ، وتقدم وجه ذلك .
وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل ، وأن الدية بدل عنه ، فلهذا قال : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } أي : عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية ، أو عفا بعض الأولياء ، فإنه يسقط القصاص ، وتجب الدية ، وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي .
فإذا عفا عنه وجب على الولي ، [ أي : ولي المقتول ] أن يتبع القاتل { بِالْمَعْرُوفِ } من غير أن يشق عليه ، ولا يحمله ما لا يطيق ، بل يحسن الاقتضاء والطلب ، ولا يحرجه .
وعلى القاتل { أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } من غير مطل ولا نقص ، ولا إساءة فعلية أو قولية ، فهل جزاء الإحسان إليه بالعفو ، إلا الإحسان بحسن القضاء ، وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان ، مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف ، ومن عليه الحق ، بالأداء بإحسان{[121]} .
وفي قوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } ترقيق وحث على العفو إلى الدية ، وأحسن من ذلك العفو مجانا .
وفي قوله : { أَخِيهِ } دليل على أن القاتل لا يكفر ، لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان ، فلم يخرج بالقتل منها ، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر ، لا يكفر بها فاعلها ، وإنما ينقص بذلك إيمانه .
وإذا عفا أولياء المقتول ، أو عفا بعضهم ، احتقن دم القاتل ، وصار معصوما منهم ومن غيرهم ، ولهذا قال : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } أي : بعد العفو { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الآخرة ، وأما قتله وعدمه ، فيؤخذ مما تقدم ، لأنه قتل مكافئا له ، فيجب قتله بذلك .
وأما من فسر العذاب الأليم بالقتل ، فإن الآية تدل على أنه يتعين قتله ، ولا يجوز العفو عنه ، وبذلك قال بعض العلماء والصحيح الأول ، لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 178 )
{ كتب } معناه فرض وأثبت ، والكتب مستعمل في الأمور المخلدات الدائمة كثيراً ، وقيل إن { كتب } في مثل هذا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء ، وصورة فرض القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أرا د الولي القتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع ، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليه وترك التعدي على غيره كما كانت العرب تتعدى وتقتل بقتيلها الرجل من قوم قاتله ، وأن الحكام وأولي الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود ، وليس القصاص بلزام إنما اللزام أن لا يتجاوز القصاص إلى اعتداء ، فأما إذا وقع الرضى بدون القصاص من دية أو عفو فذاك مباح ، فالآية معلمة أن القصاص هو الغاية عند التشاح ، و { القصاص } مأخوذ من قص الأثر فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك ، و { القتلى } جمع قتيل ، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة وهو مما يدخل على الناس كرهاً ، فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى( {[1605]} ) .
واختلف في سبب هذه الآية ، فقال الشعبي : إن العرب كان أهل العزة منهم والمنعة إذا قتل منهم عبد قتلوا به حراً ، وإذاقتلت امرأة قتلوا بها ذكراً ، فنزلت الآية في ذلك ليعم الله تعالى بالسوية ويذهب أمر الجاهلية ، وحكي أن قوماً من العرب تقاتلوا قتال عُمِّية( {[1606]} ) ثم قال بعضهم : نقتل بعبيدنا أحراراً ، فنزلت الآية ، وقيل : نزلت بسبب قتال وقع بين قبيلتين من الأنصار ، وقيل : من غيرهم فقتل هؤلاء من هؤلاء رجالاً وعبيداً ونساء ، فأمر رسول الله صلى عليه وسلم أن يصلح بينهم ويقاصهم بعضهم ببعض بالديات على استواء الأحرار بالأحرار والنساء بالنساء والعبيد بالعبيد ، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت مقتضية أن لا يقتل الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا يدخل صنف على صنف ، ثم نسخت بآية المائدة أن النفس بالنفس( {[1607]} ) .
قال القاضي أبو محمد : هكذا روي ، وآية المائدة إنما هي إخبار عما كتب على بني إسرائيل ، فلا يترتب النسخ إلا بما تلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن حكمنا في شرعنا مثل حكمهم ، وروي عن ابن عباس فيما ذكر أبو عبيد وعن غيره الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة( {[1608]} ) ، وأن قوله هنا { الحر بالحر } يعم الرجال والنساء ، وقاله مجاهد .
وقال مالك رحمه الله : أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد بها الجنس الذكر والأنثى فيه سواء ، وأعيد ذكر { الأنثى } تأكيداً وتهمماً بإذهاب أمر الجاهلية ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن الحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبداً أو عبد حراً أو ذكر أنثى أو أنثى ذكراً ، وقالا : إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية منه( {[1609]} ) وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة ، وإذا قتلت المرأة رجلاً فإن أراد أولياؤه قتلوا وأخذوا نصف الدية وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها ، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد ، هذا مذكور عن علي رضي الله عنه وعن الحسن ، وقد أنكر ذلك عنهما أيضاً ، وأجمعت الأمة على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل ، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء ، وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات ، قال مالك والشافعي : وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس ، وقال أبو حنيفة ، لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس ، وقال النخعي وقتادة وسعيد بن المسيب والشعبي والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف : يقتل الحر بالعبد ، وقال مالك رحمه الله وجمهور من العلماء : لا يقتل الحر بالعبد ، ودليلهم إجماع الأمة على أن العبد لا يقاوم الحر فيما دون النفس ، فالنفس مقيسة على ذلك ، وأيضاً فالإجماع فيمن قتل عبداً خطأً أنه ليس عليه إلا القيمة ، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد ، وأيضاً فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى ، وإذا قتل الرجل ابنه فإن قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره( {[1610]} ) مما لا عذر له فيه لا شبهة في ادعاء الخطأ فإنه يقتل به قولاً واحداً في مذهب مالك ، وإن قتله على حد ما يرمي أو يضرب فيقتله ففيه في المذهب قولان : يقتل به ، ولا يقتل وتغلظ الدية .
وقوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء } فيه أربع تأويلات :
أحدها أن { من } يراد بها القاتل و { عفي } يتضمن عافياً هو ولي الدم والأخ هو المقتول ، ويصح أن يكون هو الولي على هذا التأويل ، وهي( {[1611]} ) أخوة الإسلام ، و { شيء } هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية ، هذا قول ابن عباس وجماعة من العلماء ، والعفو في هذا القول على بابه( {[1612]} ) والضميران راجعان على { من } في كل تأويل .
والتأويل الثاني وهو قول مالك : ان { من } يراد بها الولي( {[1613]} ) ، و { عفي } بمعنى يسر لا على بابها في العفو ، والأخ يراد به القاتل ، و { شيء } هي الدية ، والأخوة على هذا أخوة الإسلام ، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل المقتول أي يسر له من قبل أخيه المقتول وبسببه ، فتكون الأخوة أخوة قرابة وإسلام ، وعلى هذا التأويل قال مالك رحمه الله : إن الولي إذا جنح إلى العفو على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه ، فمرة تيسر ومرة لا تيسر ، وغير مالك يقول : إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه( {[1614]} ) ، وقد روي أيضاً هذا القول عن مالك ورجحه كثير من أصحابه .
والتأويل الثالث أن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة حسبما ذكرناه آنفاً ، فمعنى الآية فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات ، ويكون { عفي } بمعنى فضل من قولهم عفا الشيء إذا كثر( {[1615]} ) أي أفضلت الحال له أو الحساب أو القدر .
والتأويل الرابع هو على قول علي رضي الله عنه والحسن بن أبي الحسن في الفضل بين دية المرأة والرجل والحر والعبد ، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف ، و { عفي } في هذا الموضع أيضاً بمعنى أفضل ، وكأن الآية من أولها( {[1616]} ) بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع ثم الحكم إذا تداخلت ، و { شيء } في هذه الآية مفعول لم يسم فاعله ، وجاز ذلك و { عفي }( {[1617]} ) لا يتعدى الماضي الذي بنيت منه من حيث يقدر { شيء } تقدير المصدر ، كأن الكلام : عفي له من أخيه عفو ، و { شيء } اسم عام لهذا وغيره ، أو من حيث تقدر { عفي } بمعنى( {[1618]} ) ترك فتعمل عملها ، والأول أجود ، وله نظائر في كتاب الله ، منها قوله تعالى : { ولا تضرونه شيئاً }( {[1619]} ) [ هود : 57 ] ، قال الأخفش : التقدير لا تضرونه ضراً ، ومن ذلك قول أبي خراش : [ الطويل ]
فَعَادَيْتُ شَيْئاً والدَّرِيس كأنَّمَا . . . يُزَعْزِعُهُ وِرْدٌ مِنَ الْمومِ مردمُ( {[1620]} )
وقوله تعالى : { فاتباع } رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره فالواجب والحكم اتباع ، وهذا سبيل الواجبات كقوله تعالى { فإمساك بمعروف }( {[1621]} ) [ البقرة : 229 ] ، وأما المندوب إليه فيأتي منصوباً كقوله تعالى { فضرب الرقاب }( {[1622]} ) [ محمد : 4 ] ، وهذا الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب وحسن القضاء من المؤدي ، وقرأ ابن أبي عبلة «فاتباعاً » بالنصب( {[1623]} ) .
وقوله تعالى : { ذاك تخفيف من ربكم } إشارة إلى ما شرعه لهذه الأمة من أخذ الدية ، وكانت بنو إسرائيل لا دية عندهم إنما هو القصاص فقط ، والاعتداء المتوعد عليه في هذه الآية هو أن يأخذ الرجل دية وليه ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم( {[1624]} ) واختلف في العذاب الأليم الذي يلحقه : فقال فريق من العلماء منهم مالك : هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه ، وعذابه في الآخرة ، وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم : عذابه أن يقتل البتة ولايمكن الحاكم الولي من العفو ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : نقسم ألا يعفى عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل( {[1625]} ) ، وقال الحسن : عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة ، وقال عمر بن عبد العزيز أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى .