قوله تعالى : { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا } أي بكتاب جاءكم من الله قبل القرآن فيه بيان ما تقولون . { أو أثارة من علم } قال الكلبي : أي بقية من علم يؤثر عن الأولين ، أي يسند إليهم . قال : مجاهد وعكرمة ومقاتل : رواية عن الأنبياء . وقال قتادة : خاصة من علم . وأصل الكلمة من الأثر ، وهو الرواية ، يقال : أثرت الحديث أثراً وإثارة ، ومنه قيل للخبر : أثر . { إن كنتم صادقين }
{ 4-6 } { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ *وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
أي : { قُلْ } لهؤلاء الذين أشركوا بالله أوثانا وأندادا لا تملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، قل لهم -مبينا عجز أوثانهم وأنها لا تستحق شيئا من العبادة- : { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } هل خلقوا من أجرام السماوات والأرض شيئا ؟ هل خلقوا جبالا ؟ هل أجروا أنهارا ؟ هل نشروا حيوانا ؟ هل أنبتوا أشجارا ؟ هل كان منهم معاونة على خلق شيء من ذلك ؟
لا شيء من ذلك بإقرارهم على أنفسهم فضلا عن غيرهم ، فهذا دليل عقلي قاطع على أن كل من سوى الله فعبادته باطلة .
ثم ذكر انتفاء الدليل النقلي فقال : { اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا } الكتاب يدعو إلى الشرك { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } موروث عن الرسل يأمر بذلك . من المعلوم أنهم عاجزون أن يأتوا عن أحد من الرسل بدليل يدل على ذلك ، بل نجزم ونتيقن أن جميع الرسل دعوا إلى توحيد ربهم ونهوا عن الشرك به ، وهي أعظم ما يؤثر عنهم من العلم قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وكل رسول قال لقومه : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } فعلم أن جدال المشركين في شركهم غير مستندين فيه على برهان ولا دليل وإنما اعتمدوا على ظنون كاذبة وآراء كاسدة وعقول فاسدة . يدلك على فسادها استقراء أحوالهم وتتبع علومهم وأعمالهم والنظر في حال من أفنوا أعمارهم بعبادته هل أفادهم شيئا في الدنيا أو في الآخرة ؟
وقوله تعالى : { قل أرأيتم } يحتمل { أرأيتم } وجهين : أحدهما أن تكون متعدية ، و { ما } مفعولة بها ، ويحتمل أن تكون منبهة لا تتعدى ، وتكون { ما } استفهاماً على معنى التوبيخ . و { تدعون } معناه : تعبدون . قال الفراء : وفي قراءة عبد الله بن مسعود : «قل أرأيتكم من تدعون » . وقوله : { من الأرض } ، { من } ، للتبعيض ، لأن كل ما على وجه الأرض من حيوان ونحوه فهو من الأرض .
ثم وقفهم على السماوات هل لهم فيها شرك ، ثم استدعى منهم كتاباً منزلاً قبل القرآن يتضمن عبادة صنم .
وقوله : { أو أثارة } معناه : أو بقية قديمة من علم أحد العلماء يقتضي عبادة الأصنام . وقرأ جمهور الناس : «أو أثارة » على المصدر ، كالشجاعة والسماحة ، وهي البقية من الشيء كأنها أثره .
وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى من علم تستخرجونه فتثيرونه . وقال مجاهد : المعنى هل من أحد يأثر علماً في ذلك . وقال القرظي : هو الإسناد ، ومن هذا المعنى قول الأعشى : [ السريع ]
إن الذي فيه تماريتما . . . بَيِّنٌ للسامع والآثِر{[10290]}
آثراً أي للسند عن غيره ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : فما خلفنا بها ذاكراً ولا آثراً . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة : المعنى وخاصة من علم ، فاشتقاقها من الأثرة ، كأنها قد آثر الله بها من هي عنده ، وقال عبد الله بن العباس : المراد ب «الأثارة » : الخط في التراب ، وذلك شيء كانت العرب تفعله وتتكهن به وتزجر ، وهذا من البقية والأثر ، وروي أن النبي عليه السلام سئل عن ذلك فقال : «كان نبي من الأنبياء يخطه ، فمن وافق خطه فذاك »{[10291]} وظاهر الحديث تقوية أمر الخط في التراب ، وأنه شيء له وجه إذا وفق أحد إليه ، وهكذا تأوله كثير من العلماء . وقالت فرقة : بل معناه الإنكار ، أي أنه كان من فعل نبي قد ذهب ، وذهب الوحي إليه والإلهام في ذلك ، ثم قال : فمن وافق خطه على جهة الإبعاد ، أي أن ذلك لا يمكن ممن ليس بنبي ميسر لذلك ، وهذا كما يسألك أحد فيقول : أيطير الإنسان ؟ فتقول : إنما يطير الطائر ، فمن كان له من الناس جناحان طار ، أي أن ذلك لا يكون .
والأثارة تستعمل في بقية الشرف فيقال : لبني فلان أثارة من شرف ، إذا كانت عندهم شواهد قديمة ، وتستعمل في غير ذلك ، ومنه قول الراعي : [ الوافر ]
وذات أثارة أكلت عليه . . . نباتاً في أكمتها ففارا{[10292]}
يريد : الأثارة من الشحم ، أي البقية وقرأ عبد الرحمن السلمي فيما حكى الطبري : «أو أَثَرَة » بفتح الهمزة والثاء والراء دون ألف ، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وقتادة وعكرمة وعمرو بن ميمون والأعمش ، وهي واحدة جمعها : أثر كقترة وقتر{[10293]} . وحكى الثعلبي أن عكرمة قرأ : «أو ميراث من علم » . وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي فيما حكى أبو الفتح بسكون الثاء وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر ، أي قد قنعت لكم الحجة بخبر واحد أو أثر واحد يشهد بصحة قولكم . وقرأت فرقة : «أُثْرة » بضم الهمزة وسكون الثاء ، وهذه كلها بمعنى : هل عندكم شيء خصكم الله به من علم وآثركم به{[10294]} .