اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ لَهُمۡ شِرۡكٞ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِۖ ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (4)

قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ } حكم «أرأيتم »{[50783]} . ووقع بعد هذه «أََرُونِي » فاحتلمت وجهين :

أحدهما : أن تكون توكيداً لها ، ولأنهما بمعنى أخبروني ، وعلى هذا يكون المفعول الثاني ( لأَرَأَيْتُمْ ) قوله «مَاذَا خَلَقُوا » إلا أنه استفهام ، والمفعول الأول هو قوله : «مَا تَدْعُونَ » .

الوجه الثاني : أن لا تكون مؤكدة لها وعلى هذا تكون المسألة من باب التنازع ، لأن ( أَرأَيْتُمْ ) يطلب ثانياً و «أروني » كذلك ، وقوله : «مَاذَا خَلَقُوا » : هو المُتَنَازَعُ فيه ، وتكون المسألة من إعمال الثاني ، والحذف من الأول{[50784]} .

وجوز ابن عطية في «أَرأَيْتُم » أن لا يتعدى ، وجعل «مَا تَدْعُونَ » استفهاماً معناه التوبيخ . وقال : «وتدعون » معناه{[50785]} تبعدون . وهذا رأي الأخفش ، وقد قال بذلك في قوله : { قال أرأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة } [ الكهف : 63 ] وقد تقدم .

قوله : «مِن الأَرْضِ » هذا بيان للإبهام الذين في قوله : «مَاذَا خَلَقُوا » .

قوله : «أَمْ لَهُمْ » هذه «أم » المنقطعة ، والشِّرْكُ المُشَارَكَةُ ، وقوله : «مِنْ قَبْلِ هَذَا » صفة لِكِتَابٍ أي بكتاب منزل من قبلِ هذا ، كذا قدرها أبو البقاء{[50786]} ، والأحسن أن يقدر كون مطلق أي كائن من قبل هذا .

قوله : «أَوْ أَثَارةٍ » العامة على أَثارة ، وهي مصدر على فَعَالةٍ ، كالسَّمَاحَةِ ، والغَوايَةِ والضلالة ومعناها البقية من قولهم : سمنت الناقة على أثارةٍ من لَحْم إذَا كانت سَمِينةً ، ثم هزِلَتُ ، وبقي بقية من شَحْمِهَا ثم سمنت . والأثارة غلب استعمالها في بقية الشرف ، يقال : لِفُلانٍ أثارةٌ أي بقية شرف ، وتستعمل في غير ذلك{[50787]} قال الراعي :

4449 وََذَاتِ أَثَارَةٍ أَكَلَت عَلَيْهَا *** نَباتاً في أكَِمَّتِهِ قَفَاراً{[50788]}

وقيل : اشتقاقها من أثر كذا أي أسْنَدَهُ . ومنه قوله عمر : «ما خَلَّفْت به ذَاكِراً وَلاَ آثِراً »{[50789]} أي مسنداً له عن غيري . وقال الأعشى :

4450 إنَّ الَّذِي فِيهِ تَمَارَيْتُمَا *** بُيِّنَ لِلسَّامِعِ وَالآثِرِ{[50790]}

وقيل : فيها غير ذلك . وقرأ عَلِيٌّ وابن عَبَّاسٍ وزيدُ بنُ عَلِيٍّ وعكرمةُ في آخرين : أَثَرَةٍ دون ألف{[50791]} . وهي الواحدة وتجمع على أَثَر ، كقَتَرَةٍ ، وقَتَرٍ . وقرأ الكسائي : أُثْرَةٍ ، وإِثْرَة بضم الهمزة وكسرها مع سكون الثاء{[50792]} . وقتادة والسُّلَميّ بالفتح والسكون{[50793]} .

والمعنى بما يُؤْثَرُ ويُرْوَى ، أي ائتوني بخبر واحد يشهد بصحة قولكم . وهذا على سبيل التنزيل للعلم بكذب المدعي{[50794]} . و«مِن عِلْمٍ » صفةٌ لأَثَارَةٍ .

فصل

قال أبو عُبَيْدَة{[50795]} والفَرَّاءُ{[50796]} والزَّجَّاجُ{[50797]} أثارة من علم أي بقية . قال المبرد أثارة ما يؤثر منْ عِلم كقولك : هذا الحديثُ يُؤْثَر عَنْ فُلاَنٍ ، ومن هذا المعنى سيمت{[50798]} الأخبار والآثار ، يقالً : جَاءَ في الأثر كَذَا وكَذَا . قال الواحدي : وكلام أهل اللغة في هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال :

الأول : الأثارة{[50799]} واشتقاقها من أثرت الشيءَ أُثِيرُه إِثَارةً ، كأنها بقية تستخرج فتُثَارُ .

والثاني : من الأثر الذي هو الرواية .

والثالث : من الأَثَرِ بمعنى العلامة{[50800]} .

قال الكلبي في تفسير الأثارة : أي بقية من علم يؤثر عن الأولين أي{[50801]} يسند إليهم . وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل : رواية عن الأنبياء . وقال مجاهد : خاصة من علم . قال ابن الخطيب : وههنا قول آخر في تفسير ( قوله{[50802]} ) تعالى : { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } هو علم الخط الذي يخط في الرمل والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «كَانَ نَبِيُّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خًطُّه خَطَّهُ عَلِمَ عِلْمَهُ » فعلى هذا الوجه معنى الآية ائتوني بعلم من قبل هذا الخط الذي تخطونه في الرمل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام . فإن صحّ تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من بَابِ التَّهَكُّم بهم وأقوالهم ودلائلهم{[50803]} .


[50783]:من أن معناه الإخبار أي أخبروني عن الذين تدعون من دون الله وهي الأصنام.
[50784]:على رأي غير البصريين وهم الكوفيون لسبقه. وانظر البحر المحيط 8/54 و55.
[50785]:البحر المحيط السابق.
[50786]:التبيان 1154.
[50787]:كالعلامة وبقية العلم أو شيء مأثور من كتب الأولين انظر اللسان أثر 24/25 و26 ومعاني القرآن للزجاج 4/438 والبحر المحيط 8/55 وغريب القرآن 407 ومجاز القرآن 2/212.
[50788]:البيت للراعي كما في مجاز القرآن 2/213، ونسبه صاحب اللسان إلى الشماخ، ولم أجده بديوانه ولكنه في ديوان الراعي 342 وهو من الوافر. والشاهد: وذات أثارة أي بقية من لحم، والبيت في الديوان 342، بلفظ عليه، وفي البحر علينا. وانظر البحر 8/55، والمجاز 2/212، والقرطبي 16/182 واللسان أثر والطبري 26/3.
[50789]:في اللسان: والاستئثار الانفراد بالشيء، ومنه حديث عمر: فوالله ما أستأثر بها عليكم ولا آخذها دونكم، وفي حديثه الآخر لما ذر له عثمان للخلافة قال: أخشى حفده وأثرته، أي إيثاره. اللسان أثر 26.
[50790]:هو له من الرجز وشاهده كالحديث السابق لعمر والبيت روايته هكذا في اللسان والبحر والقرطبي ولم أجده بتلك الرواية في ديوانه 92، 93 وإنما برواية: ليأتينه منطق سائر مستوسق للمسمع الآثر من قصيدة يمدح فيها عامر بن الطفيل ويهجو فيها علقمة بن علاثة انظر الديوان 94، والبحر 8/55 والقرطبي 16/182 واللسان أثر 25.
[50791]:قراءة شاذة غير متواترة انظر الكشاف 3/515 والقرطبي 16/182 ونسبها إلى السلمي وأبي رجاء والحسن.
[50792]:الكشاف 3/515 والقرطبي السابق.
[50793]:الكشاف وهي قراءة أخرى للسلمي مع آخرين. انظر البحر 8/55 وكلها شاذة وإن كانت جائزة لغة.
[50794]:البحر المحيط 8/55.
[50795]:مجاز القرآن 2/212.
[50796]:معاني القرآن له 2/50.
[50797]:معاني القرآن له أيضا 4/438 وهو أحد أقواله في هذا.
[50798]:في الرازي 28/4 سميت الأخبار بالآثار.
[50799]:في الرازي البقية بدل الأثارة.
[50800]:الرازي المرجع السابق.
[50801]:ذكرها القرطبي في الجامع 16/182.
[50802]:سقط من أ الأصل.
[50803]:قاله في تفسيره 28/4 و5.